مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 19/07/2020

ونكتب ما قدموا وآثارهم

مقالات مقالات في المواعظ والرقائق والأذكار والسلوك

كم من أناس قد رحلت أرواحهم إلى الله عز وجل، وأودعت أجسادهم القبور، لكن آثارهم ما زالت مشهودة، وصحائف أعمالهم ممدودة؛ تقلب الطرف فيما خلفوه من مبرات، فيذهلك ما تجده من علوم نافعات وأعمال صالحات، وما يكتب في صحائفهم - بعد مماتهم - من حسنات وقربات. إنها البركة في الأعمار.


والبركة هذه تتجلى في مظهرين:


إما أن تتجلى بكم الأعمال النافعة الرضية التي يطوى لأربابها الزمن فيتيسر أمرُ إنجازها له خلال سنين حياتهم، فإذا ما عقدت مقارنة بين أعمارهم القصيرة ومنجزاتهم التي وفقهم الله إليها؛ أصابتك الدهشة والحيرة.


وإما أن تتجلى بنوع الآثار التي يتركها أحدهم بعد موته؛ إذ تتبع آثاره فتغبطه على صدقة جارية أوقفها، أو عادة حسنة سنها، فعم نفعها بين العباد واستمر خيرها في البلاد؛ لا لعقود بل ربما لقرون متطاولة.


والموفق من جمع الله عز وجل له بين الحسنيين (بين الكم والنوع).


وما منا من أحد إلا ويرجو أن يرحل إلى الله وقد ترك من خلفه أثراً بل آثاراً جليلة تستمر في صحيفة أعماله بعد وفاته ما تعاقب الليل والنهار، فتكون له في الدنيا زاداً وللآخرة مدخراً.


والذي ينبغي أن نعلمه أن هذا الباب ليس حكراً على العباد المصطفين ولا الأخيار المقربين، بل إن باب البركة مفتوح للجميع، لكنه يحتاج إلى همم وثابة وعزائم صادقة. والموفق من اغتنم عمره وسعى سعيه، والمخذول من ركن إلى الدعة والكسل ثم أتبع نفسه هوها وتمنّى على الله الأماني.


ولا يلج هذا الباب إلا من فقُه معنى الحياة، وسعى لتحقيق المقاصد والغايات، إذ يسمو لأعلى الدرجات بسمو قصده، ويهبط لأدنى الدركات بهبوط غاياته، ألا وإن أسمى المقاصد والغايات هو الله سبحانه وتعالى؛ إذ كل ما سواه وهم زائل وعرض حائل، كيف لا وقد أثنى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على قول لبيد إذ قال: ألَا كُلُّ شَيءٍ ما خَلَا اللهَ باطلٌ.


وسبيلك إلى أن تترجم هذا السمو واقعاً في حياتك إنما يتم عبر التدرج صعداً نحو مرتبتين:


أما المرتبة الأولى فترقى إليها عندما تبتغي بأعمالك - مهما تنوعت في سواد الليل أو بياض النهار - وجه الله عز وجل، سواء أكان ذلك في أعمالك المهنية أو واجباتك الاجتماعية، بل حتى في سهرك وسمرك .. وإذا أفلحت باستحضار نية صالحة تبتغي بها رضى مولاك عند كل عمل تؤديه، ستستحيل أعمالك من عادات إلى مبرات. وتلك هي المرتبة الأولى.


فإن تمكنت من الوصول إلى هذه الرتبة التي لا تنال إلا بعظيم مراقبة واجتهاد، ثم وفقت بعد ذلك للثبات، عندئذ ستنتقل إلى مرتبة أسمى، ألا وهي الحرص على ملء الأوقات بالمبرات، فتسمو إلى مراقي القرب من مولاك .. لأنك عندئذ لن تخرج عن دائرة مراقبته، وستتخير من الأعمال ما هو أقرب لمرضاته، ولك أن تتخيل بعدئذ حال صحيفتك عندما ترحل إلى الله وقد حشيت بالصالحات من الأعمال.


بهذا وصل الواصلون، وبهذا قطعوا أشواطاً في أعمالهم، وبهذا اختصروا آماداً من أعمارهم.


أما الذين اختاروا أن تمضي حياتُهم بطريقة عبثية خالية الوفاض عن أي هدف وغاية، الذين تاهوا عن سبب وجودهم، فتجد واحدهم يمضي صبوته فشبابه فرجولته فكهولته دون أن يعزم على طاعة، ودون أن يشعر بلذة عبادة، دون أن تذرف له من خشية الله دمعة، بل دون أن يحسب حساباً للقاء الله .. قد هبط بنفسه عن الغاية الجليلة التي خلق لها، وتخلى عن الرتبة الرفيعة التي بوأه الله إياها، فاختزل عمره الثمين في اهتماماته الفانية؛ أين يمضي السهرة الفلانية؟ وكيف يحصّل (الأكلة) الفلانية؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه الطَّبراني بسند صحيح من حديث سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما: "إن الله تعالى يحبُّ معاليَ الأمور ويكره سفسافَها".


*         *          *


تعالوا بنا لنتمعن قوله تعالى: (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم). وآثارهم ..


ترى هل فكر أحدنا - والأجل قريب من كل واحد منا - بالأثر الذي سيكتب في صحيفة أعماله، بالبصمة التي سيدخرها وينميها له ربه سبحانه وتعالى بعد موته، فيجدها يوم الحسرة شاهداً وشفيعاً.


وتتنوع أشكال الآثار بتنوع ما يتاح من أعمال. فالصدقة الجارية أثر تدخره لنفسك، أولادك الذين أنشأتهم النشأة الصالحة التي ترضي الله ورسوله أثر تدخره لنفسك، نصيحة صادقة تقوِّم بها اعجوجاً أو تزيل بها منكراً أثر من آثارك، خلق نبيل تغرسته بمن حولك أثر من آثارك، سنة صالحة تعوّد عليها أهلك أثر من آثارك، كلمة طيبة تزرع من خلالها الأمل في قلب يائس مكلوم أو عاثر محزون أثر تدخره لنفسك، إصلاح بين مسلمين قد تنافرا بنزغ من شيطان إنس أثر من آثارك .. والآثار كثيرة لا حصر لها.


ترى .. ما مدى استكثارنا من هذه الآثار؟! وما مدى حرصنا على هذه الأعمال؟ وقد بتنا على يقين بأن مؤشر اغتنام الأعمار هو ما تخلفه بعد رحيلك من آثار.


وعلى نفسه فليبك من ضاع عمره وليس له فيه حظ ولا نصيب، على نفسه فليبك من غادر الدنيا كما دخل إليها دون أن يترك لنفسه بصمة أو يغرس أثراً.


فيا حسرة على أناس قد اتخذوا من ردهات المقاهي موئلاً، ويا حسرة على أناس قد جعلوا مما يعرض على الشاشات إماماً ومشغلة، يا حسرة على أناس يتقلبون في غفلة عما تحمله لهم قادمات الأيام من حسرة وندامة على ما فرطوا من خيرات وأضاعوا من أوقات. حالهم كما وصف الإمام الشاطبي إذ يقول: فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللا. وقد كان سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: "إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً لا في عمل دنيا ولا آخرة".


فتعالوا بنا لنفقه معنى الحياة، ولنتحقق بالغايات التي خلقنا الله عز وجل من أجلها. ليسأل كل منا نفسه: لماذا نعيش ولمن نعيش؟ كل ما كان لله يبقى، وكل ما كان لغير الله ستذروه الرياح عما قريب.

تحميل