مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 09/05/2021

وانقضت الأيام المعدودات

مقالات

أيام معدودات كما وصفها رب العزة جل شأنه سرعان ما انقضت. وأحوال الناس قد تباينت خلالها ما بين حريص مشفق، أو مقبل متململ، أو معاند معرض.


أما الصنف الأول فهم المقبلون على الله عز وجل، اللائذون ببيوت الله، الساعون في الخيرات والمبرات، الذين لا تفتر منهم الهمةُ العالية حتى آخر ليلة من ليالي شهر رمضان، وهؤلاء تجد قلوبهم متفطرة مضطربة ما بين خوف ورجاء.. أنحن من العتقاء المقبولين؟ أم من الأشقياء المحرومين؟


وأما الصنف الثاني فهم الذين يقبلون على الطاعات في مستهل شهر رمضان إقبال تشهٍ، إقبالهم على أي جديد يخرجون به عن المألوف، ثم لما يتشبعون منه، سرعان ما يتسلل إلى نفوسهم الملل، وتخبو منهم الهمة والعزيمة. وهؤلاء ربما تجدهم في المساجد لكن أحدهم لا يطيق صبراً عن شهواته.


وأما الصنف الثالث، فشهر رمضان لا يعنيه من قريب ولا من بعيد، لم يبال بصيام ولا بقيام، لا يهتم إن رضي الله عز وجل عنه أم سخط عليه. ومن هذا الصنف أولئك الذين تجدهم في الأمسيات في مواطن الغفلات، قد أشاحوا بقلوبهم قبل وجوههم عن بيوت الله، يتأملون الناس وهم يغذون السير إلى المساجد بكرة وعشياً، وكأن نداء الله عز وجل لا يعنيهم.


وشهر رمضان كنز ثمين لمن أدرك قيمته، وحسرة وندامة لمن فرط في حقوقه، لأن النبي ﷺ قال فيما رواه البخاري: (من صام رمضان وقامه إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه). ومن ذا لا يحب أن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه؟!


فالعاقل سيسعى سعيه؛ سيضني نهاره ويسهر ليله في الطاعات والقربات، سيضع نصب عينيه أن هذا الموسم ربما يكون فرصته الأخيرة، وقد أدرك هذه الحقيقة أناس منا شهدوا رمضان الفائت ثم طويت صحائف أعمالهم وأودعناهم القبور خلال العام المنصرم، قد انقطع حظهم من الفرص التي نتقلب بها، فهم اليوم يغبطوننا على ما نحن فيه، وإن أحدهم ليتمنى لو أتيح له عودة ليقدم عملاً صالحاً يكتب في صحيفة أعماله، أو ليصلح عملاً فاسداً اجترحه في حياته. وليس أحد بمنأى عن هذه المصير قبيل حلول شهر رمضان المقبل.


وللقبول في موسم الطاعات دلائل كثيرة. منها:


- أن تنعكس ثمرات الصوم على سلوكه، وتتبدى آثار القيام على جوارحه، فيرتقي من صوم العموم إلى صوم الخصوص. يرتقي من صيام البطن عن الطعام إلى صيام السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام؛ يغض البصر عن الحرام، ويحفظ اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة وعن فحش الكلام، ينزه السمع عن الإصغاء للترهات، ويطهر البطن من الشبهات، فهذا أولى دلائل القبول عند الله عز وجل.


- ومن دلائل القبول أيضاً الثبات، فكثيرون هم الذين ينتهي عندهم شهر رمضان بمضي ليلة السابع والعشرين منه، ولم يثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم حدد موعد ليلة القدر بليلة من الليالي كما تعلمون، بل إن سائر الروايات الصحية المتواترة يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه تحروها في العشر الأخير أو في الوَتْر من العَشرِ الأواخِرِ من رمضانَ.


وصدق سيدي ابن عطاء الله إذ يقول: "ما أرادت همة سالك أن تقف عندما كشف لها إلا ونادته هواتف الحقيقة: الذي تطلب أمامك .." فلا تفتر منك الهمة يا باغي الخير، فإن ما تطلبه أمامك لم يأت بعد، والعبرة بالخواتيم.

تحميل