مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 01/05/2021

نحن والقرآن

مقالات

في شهر رمضان أنزل الله القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا وأُثْبِتَ كاملاً في اللوح المحفوظ، ثم إن آياته نزلت تترا على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق سيدنا جبريل عليه السلام حسب المناسبات التي كانت تستدعي نزولها. قال الله عز وجل: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدَىً لِلنّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقانِ). ومن هنا كان شهر رمضان شهر القرآن.


وفي المسلمين من يمر عليهم شهر رمضان، والمصحف ما زال مودعاً في زاوية الدار، دون أن يلتفت أهل البيت حتى إلى تنظيفه من الغبار.


في المسلمين من تنقضي أعمارهم ولا تستقيم ألسنتهم على تلاوة آيةٍ من كلام الله عز وجل.


في المسلمين اليوم من لا يفرق بين آية من كتاب الله وحديث من كلام سيدنا رسول الله. إن سألته مثلاً عن قوله تعالى: (إن مع العسر يسراً) أهي آية أم حديث؟ يحار جواباً.


قد يقول قائل: لماذا هذه السوداوية؟ ألا ترى شيئاً من مظاهر الاهتمام بالقرآن؛ فما من حفل إلا ويبدأ بتلاوة آيات من كتاب الله! وما خدمت المصاحف في عصر من العصور كما خدمت في هذا العصر طباعة وتزويقاً.


أقول: أما ما نشهده من اهتمام بشكل المصحف وتلوينه، فهو اهتمام بالمظاهر والأطر لا قيمة له، إذ ليس المعول على تزويق ما في السطور، وإنما المعول على ما ولج منه في الصدور ثم انعكس على النفوس علماً وتهذيباً وسلوكاً، فإن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خُلُقه القرآن. 


وأما الآيات التي يسمعها الناس عَرَضَاً في مجالس العزاء أو التي تستفتح بها الحفلات، فهي بمثابة تجملات شكلية وطقوس عند بعض المسلمين، ولا تحمل دلالة على الاهتمام بكتاب الله.


وما تفيض به الأسواق والمكتبات من نسخ المصاحف المخرجة بأبهى زينة ومظهر، ثم ما يتبع ذلك من توزيع لهذه النسخ في الأفراح والأتراح، فليس شيء من ذلك ذي بال، ولا يعول عليه.


والتلاوات التي تبث على المآذن ليست من العبادة التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، وصاحبها ربما مأزور وليس بمأجور. لأن الله تعالى يقول: )وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا(؛ ويحرج الناس ويبخس بكلام الله هذا الذي يجعل صوت المسجل يصدح في الأسواق والطرقات والناس في شغل شاغل عن جوهر الخطاب، ليس فيهم مستمع ولا منصت.


ثم ما أقبحها من عادة إذ تسمع صوت المسجل تضج به الأزقة والشوارع بغية توسيع الطريق لسيارة الجنازة، وليت أن في الناس من يستشعر شيئاً من فحوى الخطاب، وما يتضمنه من وعد ووعيد، من بشارة ونذير، أو من أمر ونهي.. كل ما يدركه السامع بأن جنازة تمر فلنوسع لها الطريق، كأي سيارة تصدر ضجيجا في الحالات الطارئة.


امتُهن كلام الله عز وجل عندما جعلوا منه وسيلة تعبير عن وفاة أو حزن، حتى بات لدينا تلازم ذهني تام ما بين الموت وصوت المسجل يصدح بالقرآن في بيت من بيوت المسلمين.


ولو تُرك صوت المسجل يصدح ليل نهار في بيت الميت وعلى مسمع أهله، فإن هذا لن يعود بنفع لا على الميت ولا على أهله إن لم يكن فيهم ملتفت إلى كتاب الله. وبالمقابل، فإن القرآن شفيع لمن كان في حياته من أهل القرآن والمواظبين على تلاوته آناء الليل وأطراف النهار. ولن يضره شيء إن لم يجعلوا صوت المسجل يصدح في بيته عند موته أو في جنازته.


كتاب الله أجلُّ من أن يتخذ للتعبير عن أسى وحزن أو سيلة تنبيه لفتح طريق أو رنة في هاتف. (كِتَابُ الله - كما ورد في الأثر - فِيهِ نَبَأُ مَا كان قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبّارٍ قَصَمَهُ الله، وَمَنْ ابَتَغَى الهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلّهُ الله، وَهُوَ حَبْلُ الله المَتِينُ، وَهُوَ الذّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، الّذِي لاَ تَزِيعُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الألْسِنَةُ، وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلاَ يَخْلُقُ عَلى كَثْرَةِ الرّدّ، وَلاَ تَنْقَضَي عَجَائِبُهُ، مَنْ قالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَن عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).


هذا هو كتاب الله عز وجل .. ومن اختار الجفوة معه والبُعد عنه، أو رضي منه بالمظاهر والقشور والأطر، أمضى حياته وقلبه متحجراً، وعقله للعلم مفتقراَ، ونفسه للتهذيب تواقة، وإنسانيته قد تدانت عن الشرف الذي سمى به خواص الخلق الذين قال عنهم النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن ماجه: (أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ). 

تحميل