مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 26/11/2021

مؤامرة نحن ضحاياها، أم شدة نحن صُنّاعها؟!.

مقالات

ما زالت أحاديث الناس يدور محورها حول ضيق المعيشة والغلاء، ومهما كثرت تكهناتهم وتحليلاتهم تجدهم حول هذا يدندنون، وليت أنهم بدندنتهم هذه قد شخّصوا الداء وتلمسوا الدواء.


ولو عدنا في عمق التاريخ لوجدنا أن أسلافنا الأولين لم يكونوا بمأمن عن مثل هذه الشدائد، بل واجهوا أشد منها؛ قد تربص بهم شح الغذاء، وأرهقتهم قلة الدواء، ولم يعرفوا نعمة الغاز ولا الكهرباء، ولم يكن يصل إلى بيوتهم الماء .. ونِعم كثيرة أخرى نتقلب بها اليوم لم يسمعوا بها؛ لم يعرفوا بطئ الانترنت، ولا ما يسمى بالهواتف الذكية .. ومع ذلك لم يضيعوا أوقاتهم في اللقاءات، بالتشكي والتذمر ورصف الإملاءات، ولم ييمموا وجوههم قِبَل دور الكفر فراراً من الأزمات، بل ثبتوا في ديارهم وهم يتقلبون بمنتهى السعادة والرضى.


فما هو الشيء الذي توافر لهم وافتقدناه؟ ما هو السر الذي استحوذوا عليه وافتقرنا إليه؟!


يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله ﷺ رأس شاة مشوي فقال: (إن أخي كان أحوج مني إليه فبعث به إلى جاره في البيت الذي يليه، فلم يزل واحدٌ يبعث به إلى آخر حتى تداوله سبعة أبيات ورجع إلى البيت الأول). ولعل هذا كان عام الرمادة، عندما نال الجوع من الناس مناله، فما زال رأس الشاة ينتقل من بيت لآخر حتى عاد إلى البيت الأول.


ويقول أبو الحسن الأنطاكيِّ - من أعيان القرن الرابع هجري: (اجتمع عندي نيِّف وثلاثون رجلًا بقرية مِن قرى الرَّيِّ، ومعهم أرغفة معدودة لا تُشْبِع جميعَهم، فكسروا الرُّغفان، وأطفئوا السِّراج، وجلسوا للطَّعام، فلمَّا رُفع فإذا الطَّعام بحاله، لم يأكل منه أحد شيئًا إيثارًا لصاحبه على نفسه). فأي خلق هذا الذي ورثوه!


أن يتظاهر أحدهم بالأكل ولم يمد يده إلى الطعام خلق سام عجيب، لكن الأعجب منه أن يتوافق الثلاثون على هذه الخلق رغم جوعهم وخصاصتهم. فصدق عليهم قول الله عز وجل: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصه". وقصص كثيرة قد دوّنها المؤرخون من هذا القبيل.


ترى .. هل يمكن أن يقع أناس بأزمة وهذه حالهم، أم هل يمكن أن يشعروا بقلة وهذا شأنهم؟ أم هل يمكن أن يهزمهم عدو وهذه شيمهم؟!   


هكذا واجهوا الشدائد والأزمات، فكيف واجهناها نحن؟


واجهناها بالتبرم والتذمر، وإذا ما تناهى إلى الأسماع بأن سلعة من السلع قد يرتفع سعرها أو سينقطع رفدها. ماذا يحصل؟


أما من يمتلك السلعة يخفيها منتظراً ما تخبئه قادمات الأيام من نتائج مربحة، وأما الآخرون فيسارعون لتلقفها من الأسواق واقتنائها ولو بأبهظ الأثمان، عسى أن يصيبوا من جيوب المضطرين مغنماً، فيبيعوها لهم – عندما يعز وجودها - دون شفقة ولا وجدان .. بل بمنة وامتنان. وهو حال قد شهدناه وألفناه، سواء في الغذاء والدواء أو في غيرهما من السلع الأساسية التي تتناقص من الأسواق.


والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه الإمام أحمد في مسنده: (من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليعليه عليهم كان حقاً على الله تبارك وتعالى أن يقعده بعظْم من النار يوم القيامة).


وقال فيما رواه الطبراني: (بئس العبد المحتكر، إن سمع برخص ساءه، وإن سمع بغلاء فرح).


نعم .. بئس عبد يفرح لارتفاع قيمة السلعة التي أخفاها، بئس عبد يفرح لارتفاع قيمة ما اكتنزه من دولارات، ويستاء لهبوط قيمتها؛ ولو كان هبوطها على حساب انفراج كرب المكروبين.


فحدثوني بربكم .. أترى ما نحن فيه مؤامرة نحن ضحاياها، أم شدة نحن أبطالها وصُنّاعها؟!.

تحميل