مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 17/07/2023

من عِبَرِ ذكرى الهجرة حب الأوطان والثبات في الشام

مقالات

قبل أربع عشرة قرناً ونيف، تعرّض حبيب الله وصحبُه في مكة لشتى أنواع الأذى من قريش، حتى قتل منهم من قتل، وأوذي من أوذي، ورمضاء مكة ما زالت شاهدة على صبرهم ومصابرتهم.


ولما اشتد الأذى وطال أمده أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة؛ اضطرتهم الشدائد والمحن لترك الوطن ومفارقة الربع والأهل والعشير، آثروا الباقيَ على الفاني ونفضوا أيديهم من كل شيء في سبيل تحصين دينهم، وهاجروا إلى حيث يتمكنوا من إقامة شعائر الإسلام وإعلان عبوديتهم لله عز وجل، فهي هجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.


وكان آخرهم خروجاً من مكة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما وصل إلى سوق مكة، التفت إلى مكة ورمق أحياءها وربوعها بطرفه متألماً وقال فيما رواه الترمذي: (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وأَحبَّكِ إلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ). عبّر عن حبه لوطنه وشوقه إليه.


وعندما بلغ الجحفة، عادوته مشاعر الشوق والحنين إلى مكة رغم ما نابه فيه من جور وأذى وظلم، عندئذ أنزل الله تعالى على نبيه: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) أي إن الله لرادك إلى مكة موطنك الذي أخرجك منها المشركون.


في هذين المشهدين من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة عبرتان:


أما الأولى: عندما عبّر النبي صلى الله عليه وسلم - وهو أكمل الناس خلقاً وخلقاً - عن حبه لوطنه، وهو بذلك إنما عبّر عن فطرة الإنسان السوي، لأن الفطرة السليمة تقتضي أن يألف الإنسان موطنه الأول الذي نشأ وترعرع فيه، بل يحن إلى المكان الذي ارتبطت ذكرياته فيه، وتضلع من مائه وتقلب في ربوعه وأطلاله.


والعجب لا ينقضي في هذا الزمان، من أناس هجروا وطنهم -ربما مضطرين، ربما لعذر- ويمموا وجوههم شطر بلاد الغرباء، ومن هناك بات يعادي وطنه ويعادي من فيه، ويستعدي عليه بل ويشمت ويطعن فيه، ويتحالف مع من يعاديه، بل ويشتم أهله وذويه ممن يقيم فيه.


لاحظوا وقارنوا بين موقف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما خرج من وطنه، وبين من مسخت الفطرة السليمة من نفوسهم السقيمة، ولا خير فيمن شذ عن الفطرة التي تمثّل بها المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم هجرته. وصدق من قال: (إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه). لأن الإنسان بلا وطن جسد بلا روح، ومن فقد وطنه فقد الطمأنينة والاستقرار.


وأما العبرة الثانية التي تستفاد من هذا المشهد من حادثة الهجرة:


هي أن على المسلم أن يترجم عبوديته لله عز وجل في هذه الحياة، فيقيم شعائر الله وأحكامه أينما حل وارتحل، فإن منع أو ضُيِّق عليه ولم يتمكّن من إعلان شعائر الإسلام في البلد الذي يقيم فيه -حتى ولو كان موطنه الذي نشأ وترعرع فيه- فيجب عليه أن يضحي بالمكان الذي لا يمكن إقامة أحكام الإسلام فيه ويرحل حيث تقام شعائر الإسلام ويستعلن بالأذان، وتقام مجالس الذكر وتلاوة القرآن، يجب عليه أن يرحل حيث يمارس سلطته التي منحه الله عز وجل بها - بل أمره بها في تربية أولاده وبناته، في أمرهم بالصلاة والضرب عليها؛ إن اقتضى الأمر ذلك. في أمر بناته بالحجاب، بالحكمة والموعظة الحسنة، حرصاً على دينهم، وحفاظاً على أخلاقهم، وصوناً لطهارتهم، وتنفيذاً لأمر الله تعالى القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ).


ولذا قال الفقهاء: للمسلم أن يتخير ما شاء من بقاع الأرض موطناً، بشرط أن يكون قادراً على رعاية أحكام الإسلام في نفسه وأهله، آمنا من أن يفتتن هو أو أحد أفراد أسرته في دينهم، فإن كان عاجزاً عن ضمان ذلك أو يغلب على ظنه أنه لن يتمكن من ذلك، فالأصل هو حرمة البقاء في بلاد الكافرين، وإلا فقد دخل في مغبة قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا.)


هذا هو حكم الله في المسألة.


فكيف ونحن نرى أن الكثيرين اليوم قد انقلبت عندهم المفاهيم، يهجرون البلد الذي فيه عمود الإسلام، وبه تعلن الشعائر، ويذخر بمجالس الذكر وحلق القرآن. ويقولون: (هذا البلد ما عاد ينعاش فيه). ثم ييمموا وجههم شطر بلاد الكفر، وربما أخذ معه أولاده وبناته، وعرّضهم لخطر ركوب البحر، بل وربما بذل روحه وأرواحهم رخيصة في سبيل الوصول إلى بلاد تعادي الإسلام وتروج للرذيلة والشذوذ، حيث يفقد الأبوان السيطرةَ على أولادهم، ويتولى أرباب الكفر والشذوذ مسؤولية تربيتهم؛ بل وينتزع الأولاد منهم ويبعدوا عن أهليهم؛ حيث يطلب من الصغيرات والصغار أن يختاروا الجنس الذي يرغبون فيه: أذكراً تريد أن تكون أم أنثى؟!! فينصهروا بتلك المجتمعات الخبيثة، التي لا تعرف قدسية لأسرة، ولا قيمة لعرض، ولا لشرف.


نعم بنظره المنكوس المعكوس يرى أنه يمكن أن يندمج ويعيش في بلادٍ انحطت إلى هذه البهيمية، وأما بلده الذي تكفّل الله تعالى فيه، فحياته فيه لم تعد ممكنة.


ترى ماذا دهاهم؟ من الذي شوه عقولهم وأفكارهم حتى سقطوا في حبائل خطة خبيثة ماكرة. والنبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي يقول: (أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ).


وسقى الله عهداً كانت الشام محط أنظار المسلمين، يقصدونها مهاجرين مستوطنين، طامعين بأن يكونوا من الصفوة الذين ذكرهم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الطبراني والحاكم بإسناد صحيح: "الشام صفوة الله من بلاده، إليها يجتبي صفوته من عباده. فمن خرج من الشام إلى غيرها فبسخطه، ومن دخلها من غيرها فبرحمته".


وبالمناسبة أُذكِّر المتنطعين المتشدقين، الذين يثير كلامهم الغثيان عندما يبررون هجرتهم من الشام إلى أوربا، بهجرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، أذكرهم بأن هذا الحديث لم يرد عليه نسخ ولا استثناء ولا تخصيص، يبقى فحوى الخطاب فيه سارياً إلى يوم القيامة.

تحميل