مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 14/01/2022

من أسرار الليل

مقالات

في الليل يهدأ ضجيج الحياة، وتركن كل نفس إلى ما يؤنسها، فيأنس كل محب بما يحب، ويتفكر كل قلب بمن يشغله أو بما يشغله.


أما أهل الغفلة، فمنهم من يساهر الليل وهو يتفكر بأحبته، ومنهم من يأنس بالتفكر بتجارته، ومنهم من يجد سلواه بالسمر مع خلانه، ومنهم من تؤنسه دخينته .. وآخر لا يرى ملاذاً ينسيه ضجيج الحياة ومتطلباتها إلا النوم؛ فيركن إلى فراشه.


والسمة الغالبة على أهل الغفلة أنهم يغطون في الثلث الأخير من الليل بنوم عميق، ولا يتنبه أحدهم إلا والشمس في كبد السماء.


وأما أهل القرب والنعيم فإن لليل عندهم معنى آخر، الليل عندهم سمة الفالحين، وأنسُ العاشقين، ومتعة الذائقين، وخلوةُ المحبين، وباب الفرج عن المكروبين، وبوابةُ وصول القاصدين إلى مرضاة رب العالمين.


والسمة الغالبة على هذا الفريق أنك تجدهم في الثلث الأخير من الليل مستيقظين، قد تجافت جنوبهم عن المضاجع، وهجروا دفئ الفرش، ليرفعوا أكف الضراعة إلى سماء الله خوفاً وطمعاً.


وما أعظم الفرق بين من يساهر أول الليل ليحجب آخره عن الله، وبين من ينام أول الليل ليخلو آخره مع الله.


ما أعظم الفرق بين من تراه ساعة السحر طيب النفس، عالي الهمة، سخي الدمعة، وبين من يغط بنوم عميق بعد ليلة أمضاها بغفلة أو بمعصية، أو بتفاهة من التفاهات، ونداء الله عز وجل يتردد صداه على آذان قلوب عباده جميعاً: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ نعم فهذا ما حدثنا به الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه فقال: )ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى ينفجر الفجر(.


والموفق من عباد الله من تجده يلبي تلك الدعوات، فتجده جالساً في مصلاه، يناجي مولاه، يحدثه عن همومه ويبثه شكواه، يسأله .. يستغفره .. يسترزقه ... وآخرون يقابلون هذه الدعوات بالإعراض واللامبالاة.


نعم ... في الثلث الأخير من كل ليلة، أرزاق تكتب، وعطايا توزع، وتحف تعطى؛ لا تعدلها كنوز الأرض مجتمعة؛ يغترف منها القائمون الراكعون الساجدون المقبلون على الله ساعة السحر، والمغبون يغط بنوم عميق. ولو قيل له: إن البضاعة ستصل قبل الفجر بساعة، أو قيل له: إن جرة الغاز ستسلمها قبل الفجر بنصف ساعة، أتراه يبقى نائماً أم أنه سيتخذ العدة والأهبة للقيام؟!


وما أهون ضياع البضاعة أمام ضياع العطايا، التي بضياعها تضيع الدنيا والآخرة.


تعسرت أمورك قم الليل، ضاق صدرك قم الليل، قُتر عليك رزقك قم الليل، ضاقت حيلتك قم الليل .. كل هذه المشكلات ستهون في ناظريك عندما تفوز بتجليات ساعة السحر.


ثم إن أكثر ما يسعد أهل القبور في قبورهم قيام الليل يوم كانوا في الدنيا. وقد حدثوا أن أبا القاسم الجنيد رؤي بعد وفاته؛ فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: "طاحت الإشارات، وفنيت العبارات، وغابت العلوم، وضاعت الرسوم، وما نفعنا إلا ركيعات كنا نركعها في جوف الليل".


وما دمت تتقلب في ليالي الشتاء الطويلة، فلماذا لا تعود نفسك من اليوم على القيام قبل الفجر ولو لدقائق؟! فتجعل بينك وبين الله موعداً لا تخلفه، عسى أن يكتبك مع "المستغفرين بالأسحار".


فإن صدقت منك الهمة، وعزمت على الطلب، فعليك أن تتخذ لذلك الأسباب، وتصلح ما بينك وبين الوهاب، بتجنب قواطع الذنوب وكبائر الآثام، لأن معصية النهار تحرمك أوارد الليل، ومعصية الليل تحرمك أوراد النهار. فإن أصلحت ما بينك وبين الله في النهار سيفتح الله عز وجل لك سبيل مناجاته في جوف الليل، والعكس صحيح.


أسأل الله تعالى أن لا يجعل فينا مطروداً ولا محرماً، ولا مقتراً عليه في الرزق لا حساً ولا معنى.

تحميل