مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 08/12/2020

خمس بخمس .. أسباب ونتائج

مقالات


يقول العقلاء: إن تشخيص الداء نصفُ الدواء، وصدقوا فيما قالوا؛ لأن من أفلح بالتشخيص وضع يده على مكمن المشكلة، وتوقى أسبابها، ثم تفرغ لعلاجها.


واليوم تسمع ما لا حصر له ولا عد من تحليلات وانتقادات وتوقعات واقتراحات، وعند التأمل تجد أن كل ما تسمعه يدور في فَلَك نتائجِ المشكلة لا أسبابها، وهذا ما يسمى (الهروب إلى الأمام) كما يقولون، إضاعة للوقت فيما لا طائل منه؛ والأمر يتطلب أن نعود إلى النار فنقطع عنها رفدها.


ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد اختصر الطريق ووصّف الداء كما بيّن الأسباب، وذلك في حديث نبوي عجيب، يحكي بدقةٍ سبب كل مصيبةٍ من المصائب الكثيرة التي نتأفف من ثقلها على حياتنا، وذلك فيما رواه ابن ماجة والطبراني في الكبير عن النبي صلى الله عله وسلم أنه قال: (يا معشرَ المُهاجِرينَ، خِصالٌ خمْسٌ إذا نزلْنَ بكم -وأعوذُ باللهِ أنْ تُدْرِكوهنَّ: لم تظهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قطُّ حتَّى يُعْلِنوا بها، إلَّا فشا فيهم الطَّاعونُ والأوجاعُ الَّتي لم تكُنْ مضَتْ في أسلافِهم الَّذين مَضَوا قبلَهم، ولا انتقَصوا المكيالَ والميزانَ إلَّا أُخِذُوا بالسِّنينَ وشِدَّةِ المؤنةِ وجورِ السُّلطانِ عليهم، ولم يَمْنعوا زكاةَ أموالِهم إلَّا مُنِعُوا القَطْرَ من السَّماءِ، ولولا البهائمُ لم يُمْطَروا، ولم يَنْقضوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلَّا سلَّطَ اللهُ عليهم عدُوًّا من غيرِهم، فأخَذَ بعضَ ما في أيديهم، وما لم يَحْكمْ أئمَّتُهم بما أنزَلَ اللهُ وتَخيَّروا فيما أنزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، إلَّا جعَلَ اللهُ بأْسَهم بينهم).


ترى أيّ هذه الآثام التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتورط بها سواد المسلمين اليوم، وأي العواقب الوخيمة التي تنتج عن كل إثم من هذه الآثام لم تنل منا منالها، ولم تأخذ منا حظها. أنتحدث عن الأوجاع والأمراض التي نسمع كل يوم عن اسم جديد منها .. أم نتحدث عن السنين وشدة المؤنة مما ينذر بمزيد من القلة في الموارد ومزيد من الغلاء، أم نتحدث عما ينحط علينا من ظلم هنا وهناك، أم نتحدث عن العدو الذي أخذ بعضاً مما في أيدينا بل سلبنا بعضاً من أراضينا، أم عن البأساء الذي جعله الله فيما بيننا ..


والمنصف يُقر ويعترف بأن كل ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من أدواء ومصائب تجري اليوم قد كان لنا حظ فيها، لذا فجدير بنا أن نتوقف عند كل بند من بنود هذا الحديث النبوي الشريف، لنضع النقاط على الحروف، عسى أن نوفق في رفع أسباب الداء، فنكفى التفكير بالدواء. وصدق من قال: "درهم وقاية خير من قنطار علاج".


البند الأول: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا".


بين حين وآخر نسمع بأسماء لأمراض جديدة لم يسمع بها أسلافنا من قبل، بدءاً من مرض الإيدز فجنون كذا .. وانفلونزا كذا .. فإيبولا .. فـ فـ والقائمة تطول، ولا ندري ما تخبئه لنا قادمات الأيام من أسماء .. وأخيراً ظهر ما يسمى كورونا؛ هذا الذي ألم بالمعمورة من أقصاها لأقصاها حتى شغل البشرية جمعاء، وعطل الأعمال والأشغال.


وفي كل مرة يغدو شغل العالم الشاغل الوصولَ إلى عقار أو لقاح يحمي البشرية من براثن المرض الجديد. والأجدر بالعاقل أن يزيل أسباب هذه الأدواء. نتأفف من الأمراض ونحن عمن أرسلها ساهون غافلون، نتحرى ونبحث عن الدواء ونحن عمن بيده الأمر غاضّون الطرف ومعرضون. والسبب الذي أوصلنا إلى هذه الأمراض إنما هو كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق فيما قال: الفاحشة، نعم لقد شاعت الفاحشة ..


لقد يسروا لضعاف النفوس أسبابها، خففوا من وطأة القوانين التي تحمي الأعراض وصنفوها ضمن خانة الحرية الشخصية ما دامت بتوافق الطرفين، فتركوا الحبل على الغارب، ثم صبوا مزيداً من نار الشهوات الآسنة على غرائز الشباب والفتيات، شجعوا الخيانة الزوجية، امتهنوا المرأة وجسدها بحجة الترويج للبضاعة، ونشروا الصور الخليعة تحت مظلة (وسائل إعلان). وهكذا شاعت الفاحشة. وأعوذ بالله من أن يدركني ويدرككم زمن قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم والطبراني وغيرهما من حديث أبي هريرة: (والذي نفسي بيده لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق فيكون خيارهم يومئذ من يقول: لو واريتها وراء هذا الحائط).


وبيوتُ المسلمين وشوارعهم تستنطق بما يخجل ويخزي. والأزقة والحدائق والفنادق والنوادي تنبي عن مرض خطير ينخر في كيان المجتمع الإسلامي. لقد استهان المسلمون اليوم بما تخلفه الشاشات الصغيرة أو الكبيرة في بيوتهم، فلئن كانت تحمل في طيها من الخير الكثير، فإن ما تحمله من شر أضعاف أضعاف، والنظر الحرام بريد الزنا، ومعظم النار من مستصغر الشرر. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المتفق عليه: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِى وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ). بدأ بزنا العين لأنه البوابة إلى الفاحشة، والزنا يشمل كذلك زنا اليد باللمس والاختلاط، وزنا القدم بالسعي إلى الحرام وأماكن الموبقات، ومن أقدَم على هذه المقدِّمات تجرأ بعدها على الفواحش والمنكرات.


فهلا تحدث العقلاء عن سبب هذه الأمراض التي لم يسمع بها الدابرون، وكلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صريح لا يحتاج إلى شرح وبيان. (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا).


البند الثاني: "ولا انتقَصوا المكيالَ والميزانَ إلَّا أُخِذُوا بالسِّنينَ وشِدَّةِ المؤنةِ وجورِ السُّلطانِ عليهم".


إن انتقاص الكيل والميزان يشمل كُلَ إجحاف وغَبن وانتقاص وظلم يلحق أحد المتعاقدين في أي من عقود المعاملات المالية، في بيع أو شراء أو إجارة أو شركة أو قرض وغير ذلك من العقود. ولو تأملنا في أسواقنا ومعاملاتنا، فماذا نجد؟


كم من إنسان اليوم لا يتورع عن طلب زيادة على المال الذي له في ذمة أخيه، بحجة هبوط قيمة العملة المحلية، وهذا والله عين الربا.


وكم من إنسان يحلف كاذباً بأن البيع لا يفي معه ويوهم المشتري أنه خاسر وما هو بخاسر، وإنما ربحه ليس بفاحش.


وكم من سلعة قد وضع على وعائها اسماً تجارياً رائجاً تزويراً وتدليساً، فيتوهم المشتري أنها سلعة أصلية وما هي كذلك.


وكم من بضاعة قد خلط فيها الجيد بالرديء، أو سُتر الرديء بالجيد الذي يتراءى لأعين الناس. كل هذا من قبيل انتقاص المكيال والميزان. 


شركات تخصّصت في التغرير بالناس عبر استغلال المحتاج والمضطر تحت غطاء دراسة نفسية المستهلك كما يقولون، عبر الترويج دونَ تورع عن المبالغة والكذب، عبر تخفيض الأسعار تخفيضاً وهمياً، ولو كوشف المشتري بما تستره هذه العبارات والأساليب من حقائق لما اشترى السلعة. وما يسمى اليوم بالتسويق الشبكي الهرمي من هذا القبيل.


كم من أطعمة وأشربة تباع في الأسواق مدموغ عليها كلمة حلال وما هي بحلال، ذبحت وفق الشريعة الإسلامية .. مكتوب على وعائها (خالية من الدهون أو الشحوم أو الكحول)، وليست هي كذلك. كل هذا من قبيل انتقاص المكيال والميزان.


كم من مغرِّر بالناس في أسواقنا، وكم من ساع للثراء السريع وملء جيبه بمال سحت عن طريق استغلال من لا مأوى له، وكم من مستحكم للمضطرين في وسائل النقل العامة والخاصة.


فما هي النتيجة التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلام إخبار جزم، لا محيد عنه ولا زوال؟ هي ما نشهده من السِّنينَ وشِدَّةِ المؤنةِ وجورِ السُّلطانِ. والله تعالى يقول: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).


أما السنين وشدة المؤنة فهي الجُدوب والقحوط سنة إثر سنة، فبعد أن كنا نكتال من الثمرات والفاكهة والخضار ما نشاء وما نريد، وخلال سنوات قليلة، قد بتنا اليوم نكتال منها بالعدد والواحدة والاثنتين. كنا نشتري من الخبز ما نحتاج ثم نستزيد بطراً، فنرى الفائض منه يرمى على أبواب البيوت وإلى جانب القمامة - لا أقول الكسرة والكسرتان بل الربطة والربطتان، واليوم نحافظ على الكسرة من أن تتفلت من أيدينا لصعوبة تحصيل هذا الذي لم نكن نقدر له قدره.


والنبي صلى الله عليه وسلم عندما حدثنا عن جور السلطان، إنما يعني كل ذي سلطة وقوة ومسؤولية، إذ يظلم القوي الضعيف على كل مستوى، لأن المجتمع الإنساني كُلٌ لا يتجزأ، والناس مهما تفاوتت رتبهم الاجتماعية ومراتب تحملهم للمسؤولية إنما هم أفراد المجتمع، والسواد الأعظم اليوم منهم قد تورط في الظلم؛ كل في موضع المسؤولية التي أقامه الله عز وجل به، ويدخل في هذا المجتمع كلُه بقضه وقضيضه، ولئن رأيتم تقصيراً أو ظلماً في موضع مسؤولية فلتعلموا أنه انعكاس من تقصير القاعدة الشعبية، وهذه الحقيقة قد أوضحها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه الحسن البصري رضي الله عنه: (عُمَّالُكم أعمالكم، كما تكونوا يولَّى عليكم) فالفساد إذا استشرى بالمجتمع إنما ينتشر أولاً في القاعدة ثم يتسامى ويتعالى ويتبدى في دائرة المسؤولية، ولولا انتشاره في العامة لما تبدى في مواضع المسؤولية. ولو أن الناس اتفقوا بحزم على أن لا يدفعوا رشوة للمرتشي، فهل يفلح المرتشي بإجبارهم على ذلك وقد تعطلت مصالح الأمة تأبياً على دفع الرشوة، بل سيفتضح أمره ويزدرى بين أقرانه، فمن الذي عود المرتشي على قبض الرشوة؟


والمشكلة أننا اعتدنا على انتقاد الآخرين، وما اعتدنا على محاسبة أنفسنا وانتقاد ذواتنا. تراه يتهم كلَّ أحدٍ من حوله بالفساد والظلم إلا نفسَه، وربما حدثنا عن مثاليات يتقلب بها الغرب ويفتقدها المسلمون، وصدع رؤوسنا وهو يحدثنا عما تناهى إلى سمعه من أخلاقيات الكفار، والعاقل يشم رائحة كفه كما يقولون، واتهام النفس وانتقاد الذات دليل كمال لا دليل نقصان.


البند الثالث: "ولم يَمْنعوا زكاةَ أموالِهم إلَّا مُنِعُوا القَطْرَ من السَّماءِ، ولولا البهائمُ لم يُمْطَروا"


والزكاة لها شروط وواجبات، ومعرفة أحكامها تكون بالدراسة والتلقي. والأصل فيها أن يخرج الغني بنفسه فيطرق أبواب الفقراء ليعطيهم زكاة ماله، فيجلس إليهم ويسألهم عن أحوالهم ثم يعطيهم المال وهو يشعرهم أنهم هم المتفضلون عليه، يشعرهم بأنه يتعامل مع الله عز وجل ويؤدي حقه من خلالهم، لسان حاله يقول: أنا لم أعطك تمنناً وتفضلاً، لكني أعطي الله من خلالك، وبالمقابل يقول الفقير بلسان حاله: وأنا لم آخذه منك وإنما أخذته من الله، الله عز وجل هو الذي أرسل لي هذا المال، وهو من سخرك لذلك. ترى هل يحدث في هذه الأيام شيء من هذا القبيل؟!


نعم .. هناك من يؤدي حق الله عز وجل للفقراء بالشكل الذي أقول، لكنهم في الحقيقة أندر من الكبريت الأحمر، أندر من التبر في جوف التراب الأغبر، عندما يرقى المجتمع إلى مستوى هذا التراحم، ويبادر كل غني إلى أداء حق الله في عنقه، فأي مشكلة اجتماعية سنشهدها؟ كل المشاكل ستذوب وتمحى، لأن الزكاة تغسل قلب الغني والفقير على حد سواء. وسيستغني الفقير بمال الزكاة شيئاً فشيئاً وسيتحول من الفقر إلى الغنى.


ألم تسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني في الصغير والأوسط عن سيدنا علي رضي الله عنه قال: (إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يضيع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حسابا شديداً، ويعذبهم عذاباً أليماً). فلئن وجدت أن الفقر يزداد فاعلم أن أموال الفقراء موجودة، ولكن أكثر الأغنياء اليوم لا يؤدون حق الزكاة في المال الذي أكرمهم الله عز وجل به.


وما من غني يمتنع عن أداء الزكاة لأصحابها، إلا ودخل في مغبة قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ *  يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) قال المفسرون في بيان معنى المال المكنوز - ومنهم ابن عمر وابن عباس وجابر وأبي هريرة: المال المكنوز هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة.


ولقد قدرت رؤوسُ الأموال التي أخرجها أغنياء هذه البلدة وأودعوها بنوكاً ربوية في بلاد مجاورة من حولنا. قدرت بنحو 40 مليار دولار، وجلها مما قد سلب أو خسره أصحابه بين عشية وضحها كما سمعتم، ومقدار زكاة هذه الأموال التي غدت أثراً بعد عين بحساب الورقة والقلم: مليار دولار. لأن زكاة الأربعين مليار مليار. ترى كيف سيكون حال الفقراء في بلدنا لو أن أصحاب هذه الأموال فقط قد دفعوا زكاة أموالهم؟ كم من بيت سيبنى؟ وكم من أسرة ستؤوى؟ وكم من شاب سيتزوج؟ وكم من فقير سيغنى؟ وكم من أرملة ستجبر؟ وكم من يتيم سيسعد؟.


ولو أن زكاة هذه الأموال كانت تُؤدى للفقراء بالشكل الذي يرضي الله لما ضاعت ولما تلاشت. لأن الله تعالى يخبر عن نفسه واعداً ومتوعداً فيقول: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات).


ترى لو أن الذين يكنزون الملايين بل المليارات رقّت قلوبهم فتحسسوا حال الفقراء ثم أدوا إليهم أموالهم. إلام سيؤول حال بلدنا؟ لسنا بحاجة لمعونة أحد ولا لعطف دول .. ولا لدموع تماسيح تهمي من عيون أناس يكنزون المليارات في الخارج ترثي حال بلدنا ثم لا يؤدون حق الله في أموالهم، المطلوب أن يؤدوا حق الله المتوجب في أموالهم على فقرائنا.


فما هي النتيجة والحالة هذه، لقد كانت هذه المدينة مضرَب مثل بأنهارها السبعة التي تشق أحيائها متألقة فياضة غزيرة، وكأن لسان الحال يقول كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون. ثم إن الخير طوي، وغاضت تلك المياه وتحولت تلك الأنهر إلى مكان للوحل، تفيض بالروائح النتنة التي تعرفون، لقد تحول الحال إلى نقيضه، ولئن كنا نرى اليوم من فضل الله عز وجل ما يغيث جدب أرضنا بالحد الأدنى. فهل تظنون أن هذا كُرمى لعيون الأغنياء الذين امتنعوا عن أداء زكاة أموالهم؟.. وإنما كرمى لعيون البهائم نمطر، كرمى لأطفال رضع وشيوخ رتع نمطر. لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا). وقد روى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مهلا عن الله مهلا، لولا شباب خشع، وشيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتع، لصبّ عليكم العذاب صبّا). والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟)


البند الرابع: "ولم يَنْقضوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلَّا سلَّطَ اللهُ عليهم عدُوًّا من غيرِهم، فأخَذَ بعضَ ما في أيديهم".


قد يسأل البعض: ما هو العهد الذي أبرمناه مع الله عز وجل. ومتى كان هذا العهد؟


إن هذا العهد هو "لا إله إلا الله محمد رسول الله". ما إن ينطق بها العبد موقناً بها حتى يدخل تحت مظلة العبودية لله عز وجل، فيغدوا مطالباً أمام الله عز وجل بحقوق هذه الكلمة. والتقصير بأداء حقوق الشهادتين بعد الإقرار بهما يستوجب العقاب في الدنيا كما يضمن للموقن بها عدم الخلود في النار. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما رواه مسلم: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة).


وكم ذكّرنا الباري سبحانه وتعالى بما تستوجبه هذه الكلمة من التزامات وواجبات، منها في قوله سبحانه وتعالى: (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا). يقول لنا سبحانه: لقد أصغيتم إلى الميثاق الذي دعوتكم إليه، وها أنتم عاهدتموني عليه إذ قلتم: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)، وشهدتم بأن لا إله غيري في هذا الكون، وأن محمداً عبدي ورسولي الذي أرسلته إليكم، فأنتم مطالبون بالتطبيق وتحقيق لازم هذا العهد من طاعة وعبادة وعبودية ..


ويقول الله عز وجل في آية أخرى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (أَوْفُواْ بِعَهْدِي) الذي وقَّعْتُمْ عليه عندما آمنتم بي وبرسولي أُوفِ بِعَهْدِي تجاهكم، فلا أسلط عليكم عدواً من غيركم، وأعطيكم الأجر الذي وعدتكم.


فالإسلام ليس مجردَ شعاراتٍ يُجمل بها اللسان ويؤطر بها الكيان، الإسلام اعتقادٌ يُهيمن على الجنان، ومن ثَم سلوكٌ ينسجم مع هذا الاعتقاد، ولو كان الإسلام مجرد كلمة تُقال فما أيسرها من كلمة نلفظها فننال عليها جنةً عرضها السماوات والأرض خالدين فيها أبداً. لو كان الإسلام مجرد كلمة تُقال، لاستحق المنافقون الجنة وهم يشهدون بألسنتهم أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إلا أن مآلهم كما أخبر الله عز وجل في الدرك الأسفل من النار. لو كان الإسلام مجرد كلمة لما ظلت قريش تحارب سيدنا رسول الله لسنوات طويلة، لقالوها وانتهى الإشكال، لكنهم أدركوا أنه ليست مجرد كلمة تقال.


والشواهد على صدق إسلام المسلم كثيرة منها: أن يكون شاكراً عند الرخاء، صابراً عند البلاء، مؤثراً على نفسه عند الخصاصة، وجِلاً من الله في حركاته وسكناته، حريصاَ على تحري الحلال واجتناب الحرام، لا يفرط بفريضة ولا عبادة، أوّاباً بعد كل شرود ومعصية.


عندما كان المسلمون موفين بالعهد مع الله مؤدين لحقوق الشهادتين؛ أعزهم الله، وجعل خوفهم من الله يسري في قلوب أعدائهم، فكان لهم هيبة وشأن بين الأنام. لكن عندما أسلموا بعقولهم فقط، ثم تنكروا للوازم الإيمان؛ وفرغت قلوبهم من محبة الله، بل استعمرتها الأهواء والملذات، فصارت مرتعاً خصباً للشهوات والغفلات، سقطت هيبتهم من قلوب أعداء الله، فسُلبوا بعضاً مما في أيديهم.


إسلامُ اليوم قنوات دينية، ومواقع إسلامية، إسلامُ اليوم كلماتٌ طنانة وخطب رنانة ومنشورات ومقاطع على وسائل التواصل تتغنى بالإسلام وتمجد بتاريخ المسلمين. فما هو حظ المسلمين من هذا الكلمات والمنشورات؟ لا شيء، إنما هو تفاعلٌ عقلي مجرد، لا يحرك قلباً ولا يقوم اعوجاجاً ولا يصلح سلوكاً، وما زال الكثيرون ممن يتداولون المنشورات والكلمات والمقاطع عاكفين على غيّهم، متكاسلين عن صلاتهم، غيرَ ملتفتين لقرآنهم، لم يذوقوا معنى للتبتل في حياتهم، لا يحكّمون شرع الله في معاملاتهم وفي خصوماتهم، بل في سائر شؤونهم ..


فإذا رأيتم اليوم أن الله قد سلط على المسلمين (عدُوًّا من غيرِهم، فأخَذَ بعضَ ما في أيديهم) فاعلموا أنهم لم يؤدوا حق لا إله إلا الله. إذا رأيتم أنهم قد غدوا من الضعف والذلة أن يتحكم بهم أعداؤهم، يسلبوهم أرزاقهم نفطهم أرضهم سواء أكان ذلك قسراً أو تحت مسمى اتفاقيات تعاون وحماية، فاعلموا أنه عقاب وتأديب لقاء نقض العهد الذي أذعنوا إليه وقصروا في تنفيذ مقتضاه.


إن علينا أن ندرك معنى انتمائنا لهذا الدين، وانضوائنا تحت راية سيد المرسلين، (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ليست كلمةً تُقال باللسان، ولكنها بيعة مع الله عظمى، وعهد مع الله له شأن، والله تعالى يقول محذراً ومنذراً: (إن عهد الله كان مسؤولاً).


البند الخامس: "وما لم يَحْكمْ أئمَّتُهم بما أنزَلَ اللهُ وتَخيَّروا فيما أنزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، إلَّا جعَلَ اللهُ بأْسَهم بينهم"


أما إن الله تعالى جعل بأس المسلمين بينهم، فالسنوات العجاف التي خلت شاهدة على ذلك، ولو تأملنا في السبب الذي ذكره سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوجدنا أنه يتألف من شِقين، شِقُّ يتعلق بالمتَصدِّرين للفتوى والقائمين على الأحكام، وشِقٌّ يتعلق بعامة الناس.


أما مظاهر الشق الأول، فإن الحديث عنها حديث طويل الذيل متشعب الأركان، ولعل أبرزها: تجرؤ الكثيرين على إصدار الفتاوى العجيبة التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي فيها من مظاهر تمييع الأحكام وتلقف الأقوال الشاذة ما فيها ..


والأدهى أن تجد الأحكام الفقهية تُكيف حسب الظروف لا أن تتكيف الظروف حسب الأحكام، ففي أوروبا يجدون عنتاً عندما يتمسكون بدين الله إذاً ينبغي أن يباح لهم بالربا لأنهم مضطرين، يجدون صعوبة في تربية أولادهم على النهج الإسلامي القويم، فلا مانع أن يبقوا هناك ولو كان على حساب ضياع دينهم وضياع أولادهم، لا يستطيعون أن يطبقوا شرعة الله في مأكلهم ومشربهم إذاً فينبغي أن نغض الطرف عن الشروط التي شرعها الله عز وجل للذبائح والمأكولات، لا حرج في مصافحة النساء، لا حرج في مجالسة العصاة وأن نرى المحرمات تُنْتَهَك لأننا نعيش في مجتمع لا يعرف الإسلام ..


ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام عليهم رضوان الله تركوا وطنهم وغامروا في حياتهم في سبيل تطبيق أوامر الله، إلا أن الدجالين أفتوا بجواز الهجرة إلى دار الكفر ولو كلّف ذلك المسلمات نزع الحجاب والتخلي عن ثوابت الإيمان، لأنهم في الشام - مثلاً - محرومون من الرفاهية ويعانون من صعوبات المعيشة والضائقة الاقتصادية.


هذا بالنسبة للشق المتعلق بالمتصدّرين للفتوى والقائمين على الأحكام، أما الشق الذي يتعلق بالناس، فكم من مسلم اليوم يقدم مصالحه المادية والمكاسب الدنيوية على شرع الله عز وجل، وهو يعلم بقرارةِ نفسه أن الحق ليس معه، يرضى لنفسه أن يحتكم للشيطان ولا يخضع لحكم الرحمن عز وجل، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل. والله تعالى يقول: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾.


وكم من جراءة على شرع الله عز وجل تحصل في أسواقنا وخصوماتنا وبيوتنا، كم نسمع من عبارات فيها من التطاول على أمر الله ما فيها. يقول قائلهم أو قائلتهم: ليست العبرة بالحجاب والحشمة فكم من سافرة قلبها طيب وكم من متحجبة قلبها ليس بطيب، مع أن الله تعالى أمر بالحجاب دون أن يعلق الحكم على طيبة القلب ولا لونه.


 كم من مسلم قد نصب نفسه مفتياً يصدر الأحكام جزافاً وبالجملة وليست لديه المكنة والعلم، هذا يجوز وهذا لا يجوز، كلُ مؤهلاته معلوماتٌ شردت إلى ذهنه سمعها عرضاً من قناة فضائية أو قرأها من الانترنت .. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه الدارمي: (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار). وآخر يعمل رأيه في مقابل كتاب الله عز وجل. تقول له: الحكم الشرعي كذا. فيقول لك: رأيي أنه ما ينبغي أن نشدد على الناس. ومن أنت حتى تعمل رأيك أمام حكم الله! ما كان أغناك يا أخي أن تعرّض نفسك للنار!.


واليوم نحصد النتائج .. هرج ومرج ما زلنا نسمع أخباره صباح مساء، أفعال وردود أفعال وجرائم تقترف وأعمال همجية لا تمُتُّ للإسلام بصلة حصلت أو ما زالت تحصُل. سواء في بلدنا هذا أم في ليبيا أم في اليمن أم في العراق أم في غيرها من البلدان، مسلمون يقتلُ بعضهم بعضاً، رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه البخاري: (إذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بسَيْفَيْهِما فَالقَاتِلُ والمَقْتُولُ في النَّارِ). ولا يمكن لمسلمين أن يقتتلا وهما تحت مظلة الإيمان إلا إذا دخل زغل في قلبيهما.


 مسلمون يقتل بعضهم بعضا رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه ابن ماجه والبيهقي في سننه وأبو يعلى في مسنده: (من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله عز وجل مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله). تمعن النظر وتتأمل فيمن يقوم بهذه الأعمال فتجد أن الفاعل من المسلمين، والضحايا أيضاً مسلمين. لأي هدف أم لأي غاية ترجى أم لمصلحة من؟. لا تدري، بل لا يدري القاتل فيم قَتَل ولا المقتول فيم قُتِل، كما وصف النبي عليه الصلاة والسلام.


نعم .. حصلت الجراءة على الدماء، وعلى الأعراض وعلى الأموال وعلى البيوت .. والحجج التي سفكت بموجبها الدماء: نيل حرية موهومة، أو استرداد حق مسلوب، أو رد ظلم واقع أو متوقع. هكذا يظنون .. والحقيقة أن ما يجري عقاب من الله عز وجل؛ بدليل أنه لم يجني المسلمون من هذه الأعمال سوى الحناظل والنكبات، لم تثمر هذه الأعمال يوماً ثمرة إسلامية ولا فائدة اجتماعية ولا نهضة اقتصادية، ما حصلوا سوى على المصائب والآلام والأحزان. وحسبكم هذا دليل على أنها عقاب من الله عز وجل.


***


خلاصة القول: هي خمسة أسباب أنتجت ما نتقلب به من نكبات وبليات، أوجاع وأمراض لم يسمع بها أسلافنا من قبل، سنين وشدة مؤنة ومزيد من القلة في الموارد والغلاء، ظلم ينحط علينا من هنا وهناك، عدو أخذ بعض ما في أيدينا بل سلبنا بعضاً من أراضينا، بأساء جعله الله فيما بيننا .. ولو ذهبت تسأل المتصدرين للتحليلات والمضيعين أوقاتهم في التفنيدات عن سبب ما حصل للمسلمين من نكبات، لأشبعك كلامك سطحياً حول مؤامرة كونية، أو مخططات خارجية، أو تدخلات دولية .. واللبيب الفطن يدرك أن القضية عقاب وتأديب من الله عز وجل حتى نؤوب ونرعوي، فإذا ما رفعت الأسباب، ارتفع العقاب. 

تحميل