مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 16/04/2021

خير زاد

مقالات

إنه القلب السليم ... ولا يتمتع بالقلب السليم إلا إنسان طهر قلبه من الأحقاد، وتسامى عن الضغائن والخلافات، ثم حرر نفسه من أغلال أحقاد رانت على قلبه، فلم يعد يستشعر لذة عبادة، ولا متعة ذكر.


كم في المسلمين رجالاً ونساءً اليوم من قد فرقتهم الخصومات، كلما تلاقت فيما بينهم الوجوه، أشاح كل منهما بوجهه عن أخيه فلا يبش ولا يلقي السلام .. مضى عليهما الحول والحولان على هذه الحال، قد خضعت منهم الجوارح وما خشعت القلوب، والله عز وجل يطلع على ما ينطوي عليه قلبيهما من سواد الخصومات. والنبي ﷺ يقول فيما رواه الشيخان: (لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثٍ، يلتقيان فيُعرض هذا، ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام).


ويوشك والله أن يموت أحدهما أو كلاهما .. عندئذ لن ينفع الندم، ولا مجال ليصلح المخطئ ما أفسد، وكلاهما مخطئ إن لم يسع لمرتبة الخيرية التي تحدث عنها النبي ﷺ إذ قال: (وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام).


كم في المسلمين اليوم من يحمل سبحته ويتمتم بلسانه، لكن قلبه المظلم مشغول بكيفية الكيد لفلان، وبالحسد لنعمة يتقلب بها فلان. يتقلب بحقد، وينام على بغض، ويصحو على حسد. ينشغل عن صلاته وعن لذة مناجاته وذكره بتوافه خصوماته، يعكر صفو حياته ومماته بل وما بعد مماته .. كل ذلك ضريبة قلب معكر قد سودته ظلمة الضغائن والأحقاد.


والدنيا قصيرة، وأيامها معدودة، والكل سيرحل قريباً إلى محكمة الديان، ليقف كل خصمين بين يدي أحكم الحاكمين. أوتجد يا هذا أن قضيتك التي عكرت عليك صفو حياتك ولذة عبادتك كانت تستحق هذه الأحقاد! ثم طول الموقف يوم المعاد؟!


فخير ما يتزود به المسلم لشهر الطاعات، القلب السليم، خير ما يهيئ المسلم نفسه لاستمداد التجليات وقطف الثمرات أن يتلمس قلبه فيصلح منه ما فسد، ويطهره مما يعكر صفوه من معكرات ومكدرات، أن يصفي نفسه من الضغائن والأحقاد؛ ليكون على استعداد لتلقي الأنوار والتجليات.


وعلامة سُقم القلب أن تجد صاحبه يخوض مع الخائضين، ولا يتورع عن الخوض بأعراض المسلمين والحنق على المسيئين. بخلاف صاحب القلب السليم، الذي تجده يتسامى عن المناكفات لا ينشغل بفلان ولا بفلان، لا يشغل نفسه بقيل ولا بقال، ولا يعكر صفو قلبه الترهاتُ ولا المخاصمات. فهو خاضع الكيان، خاشع القلب، مستعد للاستمداد من رب العباد.


أنسه بالله، وسلواه ذكر الله، ومنهجه كتاب الله، فتراه إن دخل في صلاته يلتذ بخشوعه؛ فلا ينشغل فكره بتجارته، ولا بما نابه من أقرانه.


وإن جلس ليقرأ في كتاب الله عز وجل، لم يعكر صفو فكره ظلمٌ أو سفاهةٌ نالته.


وإن لقي أحداً من العباد تقيهم أو شقيهم، صالحهم أو طالحهم بادل المحب منهم بالحب، وبادل المسيء بالعفو والصفح.


وإن صام عن الطعام والشراب، صامت جوارحه - يده ولسانه وسمعه وبصره عما يفسد صومه. وكم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش. كما قال النبي ﷺ فيما رواه ابن ماجه: )ربَّ صائمٍ ليسَ لَه من صيامِه إلَّا الجوعُ، وربَّ قائمٍ ليسَ لَه من قيامِه إلَّا السَّهرُ(.


وكم من صائم ذو قلب سقيم، قد صام عن الطعام والشراب لكنه لا يتحاشا المنكرات، يصوم ولا يتوانى عن الغيبة والنميمة، يشقي نهاره جائعاً عطشاً ثم لا يجني من ثواب عباداته وجهده شروى نقير؛ إذ لم يحفظ جَوارِحَه عن الآثامِ كما حفظ فمه عن الطعام.


القلب السليم لا يكلف صاحبه كثير عبادات، ولا قياماً بالأسحار، ولا كثيراً من الأوراد والأذكار.. ومع ذلك يفوز من وُفّق إلى حمل مثل هذا القلب بين جوانحه بسعادة الدنيا والعقبى، وعلى الرغم من قلة عبادته يكرمه الله عز وجل برضوانه. لأن صاحب القلب السليم مشغول بأسمى الغايات عن المناكفات والمناوشات. ألا وإن أسمى الغايات الوصولُ إلى مرضاة رب العباد.


فهنيئاً لكل ذي قلب سليم ما يتقلب به صفاء في الحياة ونعيم بعد الممات، هنيئاً له هذا الاستعداد لتلقي التجليات.


وصدق من قال: (قليل من الطاعات قد يكفي مع قلب طاهر سليم، ولكن كثيراً من الطاعات لا يغني مع قلب حاقد سقيم). فإن سيدنا ابراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، لم يدع الله تعالى أن يوفقه إلى كثير من الطاعات والعبادات، وإنما قال: ﴿لَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. 

تحميل