مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 22/09/2021

فقه القوة

مقالات

فقه .. عرفه أسلافنا وجهلناه، فقه نتجمل بعباراته ونفتقر إليه، فقه نملك مفاتيحه وتجردنا عنه.


وأول ما يفتح مغاليق هذا الفقه في العقول، ويرسخها في القلوب هو الإيمان بالله عز وجل، لخص هذه الحقيقة سيدُنا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه عندما قال: "والله ما نقاتل عدونا بكثرةٍ ولا عدد، وإنما نقاتله بهذا الدين الذي أكرمنا به الله عز وجل".


والعقيدة التي اعتنقها أسلافنا بالأمس، هي ذاتها التي ندين لها بالولاء اليوم. لكن عندما تمثّلوا هذه العقيدة في قلوبهم خشية ومهابة من الله، نصرهم الله. وعندما جمّلنا ألسنتنا بهذه العقيدة وغيّبنا حقيقتها عن قلوبنا، خذلنا الله.


إنه فقه القوة، فقه لا يتمكن منه إلا كل من أيقن بأن الله عز وجل هو القوي الذي لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب ولا يرد قضاءه راد، ينفِّذ أمره، ويمضي قضاءه في خلقه، ولا يستولي عليه عجز في حال من الأحوال. ومن ذا ينطبق عليه هذا الوصف سواه؟!


فقه لا يملك مفاتيحه إلا من أدرك أبعاد: (لا حول ولا قوة إلا بالله) فاستشعر معناها.


وقد ذهل عن هذا الفقه أقوامٌ آمنوا بالله، وتاهوا عن معنى (لا حول ولا قوة إلا بالله)، حتى باتت هذه العبارة عندهم شعاراً يجمّلون بها اللسان، ولا تحرك شيئاً في الجنان. ولو أنهم أدركوا معناها لتوكلوا على الله حق التوكل، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)، لكنهم توكلوا على نفوذ المتنفذين وعنجهية المتجبرين، توكلوا على أصنام وهياكل وتماثيل على هيئة أفراد وهيئات ودول، قرعوا أبوابهم وعكفوا على أعتابهم يستنجدون بهم ويستنصرونهم من دون الله، فوكلهم الله إليهم، ومن هنا بدأ الضعف والهوان.


يحدثك عن قدراتهم وأموالهم التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ونداء الله عز وجل يتردد صداه على مسمعه: (إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)


 ويحدثك عن أسلحتهم وعتادهم مبهوراً، وقد جحظت عيناه وفغر فاه، وهي لا تعدو في ميزان الله خردةً، يبطل فاعليتها - أنى شاء ومتى شاء - بقوله: (كن). (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ).


فُتِنا بهالات تحت مسمى دول.. فتنا بجيوش.. فُتِنا بقدرات.. فتنا بتقنيات متعهم القوي العزيز بها، فنحن اليوم نتخذ كل وسيلة وحيلة ولا نفكر بالالتجاء إلى القوي العزيز جل جلاله؛ ومن عجب أن ننسب التصرف والتدبير لمخلوق تافه وننسى الخالق.


لسان حال هذه المصنوعات التي يتبجح بها طغاة الأرض يقول لك: (إنما نحن فتنة يمحّص الله بنا إيمان المؤمنين، ويمضي بنا سنته في الكافرين فلا تكفر).


إن من فقه القوة، ألا تشهد في الكون سوى الله، وما سواه - من هيئات ودول وأمم وأفراد، من حكام ومتنفذين، من جبابرة ومتسلطين - لا يملك من أمر نفسه حولاً ولا قوة، لا يملك من أمر نفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياتاً ولا نشوراً .. فكيف يملك من أمر غيره؟!


المتصرف هو الذي لا راد لأمره ولا ناقض لحكمه، وكل ما سواه في الكون هياكل وأوهام، وجودها عرضي، وهلاكها حتمي، خاضع لتدبيره، ومُسيّر بمشيئته، فإن كنت تظن أن فيهم من يملك قراراً بحقك من دون الله عز وجل فاعلم أن توحيدك مخروم، وعقيدتك تحتاج لتصحيح.


وإن من فقه القوة أيضاً أن تعلم بأن الله عز وجل يأمرك بالنهوض لاتخاذ الأسباب، ويحرم عليك الركون للضعف والهوان، فقال: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ)، فنقوي أجسادنا لأن "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"، ونشد عزيمتنا، ونشحذ هممنا، ونتخذ عدتنا، ونكون على أهبة.


وبعد اتخاذ الأسباب عليك أن تتبرأ من أوهام حولك وقوتك، وتستمد قوتك وعزيمتك من عونه. وقل بلسان حالك: يا (مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين) فإن النصر لا يحسمه عدد ولا عدة، وإنما تظفر بالنصر بالتوكل عليه والتذلل على بابه، بهذه الوسيلة فتح المسلمون القلوب والبلدان، وبهذه الوسيلة ذلت لهم أعناق الجبابرة، وخضعت لهم رؤوس الطغيان.


أتذكر يوم قالوا: (لن نغلب اليوم من قلة)، فطاشت كفة النصر ورجحت لأعدائهم، وما رجحت كفة النصر لهم إلا عندما استحضروا معاني فقه القوة في نفوسهم. فأنت إن اتكلت على الأسباب وكلك الله إليها، وإن توكلت عليه فلن يخذلك. فمن كان القوي معه فمن عليه؟! ومن كان القوي عليه فمن معه؟!


وأنّى لنصر يثلج صدورنا، إن لم نترجم إيمانناً بالله توكلاً عليه، والتجاءً إليه، وتذللاً على بابه!

تحميل