مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 17/12/2019

السلام قبل كل كلام

مقالات

إفشاء السلام ... شعيرة من الشعائر التي تترجم هوية أفراد المجتمع، بل هي مظهر من مظاهر الآدب الإسلامية والمسلمات النبوية التي لا يمكن لمسلم يعتز بدينه وإسلامه أن يهجرها.


والسلام هو التحية التي أخبر الله عز وجل سيدنا آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام بأنها ستكون تحيةَ ذريته من بعده. ففي الصحيحين عنْ أبي هُريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قال: (خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ الْمَلائِكَةِ جُلُوسٌ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ).


وفي قوله تعالى: (فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا على أنْفُسِكُم تحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً). كما في قوله تعالى: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتَّى تَسْتأنِسُوا وَتُسَلِّمُوا على أهْلِها). بيان من الله عز وجل لعباده بأن الأصل في التحية هو السلام وليس شيئاً آخر سوى السلام.


ومع ذلك، ها نحن نرى اليوم كيف يتخلى المسلمون شيئاً فشيئاً عن التحية التي شرفهم الله عز وجل بها، فحيثما ولجت ستلحظ غربتك عندما تتمسك بالسنة النبوية وتلقي السلام، لأن الشائع اليوم في الغالب صباح الخير أو مساءه .. أو ما أشبه هذه العبارات. استبدلوا سنة السلام بعبارات ما عرفها المسلمون من الرعيل الأول ولا من بعدهم، حتى غدا السلام أمراً مستهجناً عند البعض، وغريباً عند آخرين؛ نرجع القهقرى إلى تحية هي أقرب لجاهلية ما قبل الإسلام من تحية الإسلام، والتي كانت كما تعلمون: عِم صباحاً أو مساءً.


هكذا كان الجاهليون قبل الإسلام يحيي بعضهم بعضاً، وعندما جاء الإسلام نسخ كلَ الألفاظ التي تعارف عليها الناس وعاد بهم إلى الأصل في التحية، ألا وهو السلام عليكم ورحمة الله.


وكم حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على إفشاء السلام وإحياء هذه السنة بين الأنام، وذلك في أحاديثَ كثيرةٍ متفقٍ على صحتها، عبارتها واضحة بينة لا تحتاج شرحاً ولا بياناً. منها: ما رواه عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما أنَّ رجلاً سأل رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أيُّ الإِسلام خَيْر؟ قال: (تُطْعِمُ الطَّعامَ وَتَقْرأُ السَّلام على مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِف)، وعن البراء بن عازب رضي اللّه عنهما قال: أمرنا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بسبع: (بعيادةِ المريض واتِّباعِ الجنائز وتشميتِ العاطسِ ونصرِ الضعيفِ وعوْنِ المظلومِ وإفشاءِ السَّلامِ)، وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا وَلا تُؤْمِنُوا حتَّى تحابُّوا، أوْلا أدُلُّكُمْ على شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُم) وأحاديث أخرى كثيرة يضيق المقام عن سردها، ثم بعد ذلك نرى من يضرب بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض الحائط، ويستحي من إفشاء سنة السلام!


ومما أخبرنا به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن المسلم يثاب على السلام بكل جملة عشرَ حسنات، ففي سنن الترمذي جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فقال: السلام عليكم فردّ عليه ثم جلس فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: عَشْرٌ، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللّه فردّ عليه ثم جلس فقال: عِشْرُونَ، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاتُه فردّ عليه فجلس فقال: "ثلاثُونَ"، ففي كل جملة عشر حسناتٍ، ومَن يأتي بالسلام كاملاً فله ثلاثون حسنة.


فإن كنت يا أخي قد علمت أن إفشاء السلام سنة، فاعلم أن رد السلام فرض. يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: "اعلم أن ابتداء السَّلامِ سنَّةٌ على الكفاية، وأما ردّ السلام، فإن كان المسلَّم عليه واحداً تعيَّنَ عليه الردّ أي أنه فرض، وإن كانوا جماعةً كان ردّ السلام فرضَ كفايةٍ"، وقال: إذا سلّم عليه إنسان ثم لقيه على قرب يُسنّ له أن يُسلِّم عليه ثانياً وثالثاً وأكثر.


ثم قال الإمام النووي: السنّة أن يبدأ المسلِّم بالسلام قبل كل كلام، والأحاديثُ الصحيحة وعملُ سلف الأمة وخلفُها على وفق ذلك، فينبغي لكل واحد من المتلاقين أن يحرص على أن يبتدىء بالسلام، وفي سنن أبي داود قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنَّ أوْلَى النَّاسِ باللَّهِ مَنْ بَدأَهُمْ بالسَّلامِ)، وفي رواية الترمذي قيل: يا رسول اللّه الرجلان يلتقيان أيّهما يبدأ بالسلام؟ قال: (أوْلاهُما باللّه تعالى)


كما يستحبّ إذا دخل المسلم بيته أو بيتاً لغيره ليس فيه أحد أن يُسلِّم وإن لم يكن فيه أحد وليقل: السَّلامُ عَلَيْنا وعلى عِبادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ.


فماذا عن صباح الخير؟


صباح الخير .. صباح النور .. ومساءه .. عبارات شاعت فاستحكمت في عادات المسلمين على حساب الانصياع لرب العالمين، يحسب أحدهم أنه بذلك يمشي في ركاب المتحضرين، فما موقف العلماء ممن يقابلك ويحييك بمثل هذه العبارات؟


قال الإمام النووي: "إذا ابتدأ المارُّ فقال: صبَّحكَ اللّه بالخير أو بالسعادة أو قوّاك اللّه أو غير ذلك من الألفاظ لم يستحقّ جواباً، يَتْرُكَ جوابَه زجراً لإهماله السلام وتأديباً له ولغيره في الاعتناء بالابتداء بالسلام". وقال الإمام ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية تحت عنوان: "مطلب تكره التحية بصباح الخير، حيث لم تكن ألفاظ اليهود المشهورة كصباح الخير ..".


وبناء عليه .. كل عبارة نستبدل بها سنة السلام مردودة، ابدأ بالسلام، ثم قل ما شئت وحيي بالعبارة التي تريد، فإن السلام قبل كل كلام، إذ السلام شعيرة تعبر بها عن اعتزازك بدينك، وشعاراً تبرز به هويتك، وسمة تنبئ به عن شخصيتك.


ووالله الذي لا إله غيره لن نجد الخير عندما نهجر سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، لن نجد الخير في الحياة ولا بعد الممات، لن نجد الخير لا في الصباح ولا المساء، لن نجد الخير وإن قلنا صباح الخير ومساء الخير ألف مرة، الخيرُ كلُ الخير باتباع سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم، الخير كل الخير بالانضباط بمنهجه وبالتزام سنته. فأحيوا سنة السلام تفلحوا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما رواه الترمذي: (من أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة). 

تحميل