مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 22/04/2022

الأعمال بالخواتيم .. والعبرة بالثبات

مقالات

من المعلوم أن الثبات على المبرات عنوان للفلاح، وإتقان الأعمال من أمارات النجاح، و(أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) كما أخبرنا بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما ورد عنه في الصحيحين.


ومن المعلوم أيضاً أن خلاصة الأعمال تتجلى في خواتيم الأعمار، ذلك لأن (الأعمال بخواتيمِها)، وهي (كالوعاءِ، إذا طاب أعلاه طاب أسفَلُه، وإذا خبُث أعلاه خبُث أسفلُه)، كما أخبرنا أيضاً بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وابن حبان.


ومن هنا ندرك أن التفاعل الآني - وهو الذي لا يعقبه ثبات - مع العبادات لا يعوّل عليه، بل هو أشبه ما يكون بقرقعة جوفاء، أو بجعجعة طحن (خُلبيّة) سرعان ما تنجلي عن خِواء.


وإذا تأملت في حال كثير من المسلمين في مواسم الطاعات لوجدت أن قلةً من يوفق للثبات على الطاعات، متمثلين قول الشاعر:


لكل إلى شأو العلا حركات

ولكن قليل في الرجال ثبات


تجده يتكلف السهر ليمضي هزيعاً من الليل قائماً داعياً وربما باكياً - وقيام الليل من نوافل القربات كما هو معلوم، ثم تراه أخيراً ينام عن صلاة الفجر، أو يصليها؛ لكن منفرداً، أو يصليها لكن سرعان ما يسلم عينيه للرقاد؛ ينام قبل شروق الشمس دون أن يعمر وقت الفضيلة بالمبرات.


وبذلك تكون ليلته العامرة تلك قد خلت عن أمارات القبول، ولو أنه نام الليل بطوله، ثم صلى الفجر جماعة وجلس في مصلاه إلى شروق الشمس، يعمر هذا الوقت المبارك بالمبرات لكفاه، لأن الأعمال بخواتيمها والعبرة بالثبات.


وكذلكم من يُمضي ثلثي شهر رمضان عاكفاً في المساجد، مواظباً على الصلوات وربما في صفوفها الأولى، فإذا ولج الثلث الأخير من الشهر فترت همته وخبت جذوة النشاط من عزيمته، ويمم وجهه شطر الأسواق ومواطن الغفلات، ليغتنم المرابح في موسم الأعياد.


وميزان الربح والخسارة عند ذوي الفطانة مختلف، فإن الرابح عندهم من لحق بركب العتقاء بثباته، والخاسر من بات في ركب المتخلفين بنكوله. فمن كان له قدم سبق في الطاعات أول الشهر ثم نكص على عقبيه في العشر الأخير منه فقد غبن نفسه، وآثر دنياه على آخرته، وفوّت ما هو خير وأبقى. ونداء الله عز وجل يقرع الآذان (وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).


ولو أنه أصغى السمع لنداء الله عز وجل، لشد من أزر نفسه، ولعاد فانتصب للعبادة مرة أخرى بهمة وعزيمة وفق المبدأ الذي خطّه رب العزة جل شأنه في كتابه: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ).


***


وقد شاء الله عز وجل أن يجعل أمر الخاتمة خفياً عن خلقه، منطوياً في مكنون غيبه، مستوراً في علمه الأزلي القديم، ولا يمكن لذي عقل مهما بلغت حصافته وفطانته أن يتنبأ به. لذا كان سيدنا علي رضي الله عنه يقول آخر ليلة من رمضان: (ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه).


وإذا كان سيد العُبّاد والزهاد عليه الصلاة والسلام رغم اغتنامه لكل أسباب الفلاح والنجاح، دائم الوجل من خاتمته، حتى كان أكثر دعاءه (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك). فما أحرانا أن نكون على وجل دائم من خواتيم الأعمال والأعمار.


فالحذر الحذر من الكسل والملل أن يتسلل إلى نفوسكم، فتفتر منكم الهمة أو تخبو العزيمة. فإن الموفق من قبضه الله عز وجل إليه وهو مقبل، لا من ختمت حياته وهو مدبر.


فأسألك اللهم أن تقبضنا إليك مقبلين لا مدبرين ولا مفوّتين، وأن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك.

تحميل