مميز
EN عربي
الكاتب: الباحثة نبيلة القوصي
التاريخ: 20/11/2011

الجامع الأموي الكبير ( مسجد بني أمية )

مساجد الشام

الجامع الأموي الكبير


الباحثة نبيلة القوصي


إخوتي القراء :


يقول ابن عساكر ت: 571هـ،  في (تاريخ دمشق)، في باب ذكر شرف المسجد الجامع بدمشق و فضله، و قول من قال أنه لا يوجد في الأقطار مثله، عن قتادة قال : أقسم الله تعالى بمساجد أربعة، قال : و (التين) و هو مسجد دمشق، و (الزيتون) و هو بيت المقدس، و (طور سينين) و هو حيث كلم الله تعالى موسى عليه السلام، و (البلد الأمين) و هو مكة.


و قال ابن عساكر في رواية أخرى : أن حيطان مسجد دمشق الأربع هي من بناء هود عليه السلام، و ما كان من الفسيفساء إلى فوق فهو من بناء الوليد.


و في رواية أخرى: أنه يُعبد الله عز وجل فيه بعد خراب الدنيا أربعين سنة.


و في رواية أخرى وصْفُها بالمنقطع : أن النبي صلى الله عليه صلى في موضع المسجد ليلة أسري به.


و عن كعب الأحبار قال: ليُبنينّ في دمشق مسجد يبقى بعد خراب الدنيا.


و قال الحموي، ت: 626هجري، في (معجم البلدان) : أن هود عليه السلام نزل دمشق و أسس الحائط الذي قِبَلي جامعها، و قال شيوخ دمشق الأوائل: أن دار شداد بن عاد بدمشق في سوق التين، يفتح بابها شاماً إلى الطريق.


و قال البدري في (محاسن الشام)، و ما ورد في فضل مسجدها نقلاً عن بعض المفسرين : أن المقصود بالقسَم بالتين هو مسجد دمشق، و أنهم أدركوا فيه شجراً من تين قبل أن يبنيه الوليد، و في رواية أخرى قال : أن التين مسجد دمشق، كان بستاناً لهود عليه السلام و فيه تين قديم.


و قال الطنطاوي رحمه الله : هذا الأموي له حياة طويلة و لحياته تاريخ طويل، تاريخ لا يدري إلا ببعضه التاريخ، لأن الأموي وُلد قبل أن يكتب التاريخ، لا نعرف و لا يعرف أحد من الذي وضع الحجر الأول فيه، و لا متى شُيّد، فكأنه قام ليصل الأزل بالأبد، صارع النار و الدمار، وثبت على الأدهار و الإعصار، تكسرت على جدرانه موجات القرون كما تتكسر الأمواج على صخرة الشاطئ، ثم ترتد عنه ميتة و هو حي قائم.


كنيسة صارت إلى مسجد                    هدية السيد للسيد


صلى الله على سيدنا المسيح        و على سيدنا محمد خاتم الأنبياء 


هيا إخوتي القراء سائحي دمشق الحبيبة، تعالوا معاً لرحلة رائعة في أقدم و أعرق أرض، و من الجهة الشرقية الجنوبية لدمشق القديمة، فلنبدأ هذه الرحلة، نرى من الخارج معلماً دينياً و صرحاً علمياً كبيراً، قد شهد عهوداً و عصوراً متتالية، فعنده الخبر و الحكاية.


واسم الصرح " جامع بني أمية الكبير "، نُسب إلى بني أمية، و المؤكد في كتب التاريخ أن الفن العربي الإسلامي قد وُلد في ظل الدولة الأموية وقتئذٍ، لأن دمشق مثّلت المركز الأول بين مراكز الحضارة العربية الإسلامية.


و الأمويون أسرة عربية عريقة من مكة المكرمة، فكان لانتقال مركز الخلافة من المدينة إلى دمشق أثر كبير على الشام و على الحضارة الإسلامية، و ما يهمنا هنا الحضارة التي تخضع لتأثير التقليد و الاقتباس من حضارات أخرى، مع زيادة بعض التأثيرات الفنية التي تلائم العقيدة الإسلامية.


من الجامع الأموي نتعرف على خصائص و ميزات حضارات توالت على مرّ عصور شهدت لقاطنيها و أهلها بعشقهم و حبهم أرضاً بوركت على لسان نبينا العدنان. 


ألا ليت يعود عهدك يا دمشق ! فقد كان لأهلك حكاية عشق مع الإبداع، وإن أهل الشام اشتهروا بذلك منذ عهود، قد ألفوا الناس و أخذوا و اقتبسوا ثم ازدادوا بروح الحب و التعظيم الأسمى ..


من المعروف أن أقدم المساجد و أولها مسجد النبي بالمدينة، و عرفناه بشكله المربع البسيط، فأصبح أساس المسجد يتكون من : صحن و حرم تحيط به أروقة مسقوفة، و بدأت تخرج عن بساطتها هنا في الأموي، متأثرة بحضارات مضت، و قد عرف التاريخ مساجدَ كالأموي في شكله في عدة مدن للعالم الإسلامي، لكن تعديلات كثيرة طرأت عليها مع الزمن.  


تاريخياً :


وُلد الأموي مع الفتح الإسلامي لدمشق بعد تحريرها من الحكم البيزنطي سنة 14هجري/ 635ميلادي، وقع اختيار المسلمون على هذه الأرض المقدسة لإقامة المسجد، لشهرة هذه الأرض منذ آلاف السنين.


كان المسجد معبداً للإله حُدُد الآراميّ في الألف الأول قبل الميلاد، ثم معبداً للإله جوبيتر في العهد الروماني، ثم تحول هذا المعبد في أواخر القرن الرابع الميلادي إلى كنيسة يوحنا المعمدان، و على الأرجح كانت تحتل الجانب الغربي من المعبد، ثم اقتسم المسلمون المعبد مع المسيحين و شيّدوا مسجد الصحابة في الجانب الشرقي، و مع قدوم بني أمية أصبحت الحاجة مُلحّة لإقامة جامع كبير يليق بالخلافة، و فعلاً بعد سبعين عاماً في عهد خلافة الوليد بن عبد الملك 86هـ، بدأ العمل على تشييد صرح كبير يناسب زيادة عدد المسلمين، حيث ما عاد المسجد يتسع لأعدادهم الكبيرة، فشهد التاريخ حكاية المفاوضات و التصالح التي تمت بين الوليد بن عبد الملك والمواطنين المسيحيين، و حينها قال جملته الشهيرة : " إني أريد أن أبني مسجداً لم يبني من مضى قبلي و لن يبني بعدي مثله "، و هكذا ظهر الأموي من جهود تضافرت بين مبدعي الشام دمشق من مهندسين و فناني الخط و الزخارف، و بدأت عملية التشييد لهذا الصرح الجميل، و لم يقف عند ذاك العهد، بل تتالت العصور و العهود، و كلٌّ يضع بصمته المميزة الفنية و المعمارية، و الأهم الروحية، في هذا الصرح الذي شهد لعلماء و شيوخ من مختلف المذاهب يتسابقون لنيل الفوز بمباهاة سيد الخلق بهم .


و الآن نمضي و ندخل الباب الرئيسي للأموي، و نرى أنه تصويرياً وصفياً :


جامع مستطيل الشكل ( 97 ـ 156 ) متر، يحتل قسمه الشمالي صحن مكشوف تحيط به أروقة مسقوفة، و القسم الجنوبي هو الحرم و المصلى، و له ثلاثة أبواب رئيسية تؤدي إلى الصحن، لتصله إلى جهات المدينة الثلاث، الشرقية و الغربية و الشمالية، و هناك بابُ راعٍ في الحرم في الجانب الغربي منه.


أقسام الجامع :


1 ـ السور و الأبواب: كان يحتل زوايا السور أبراج مربعة الشكل، بقي منها البرجان الجنوبيان، و عليهما أقيمت المئذنتان.


2 ـ الصحن و الأروقة: مستطيل مبلّط بالحجر يتخلله ثلاثة مبان صغيرة، في الوسط البحرة، فوقها قبّة على أقواس و أعمدة، والجهة الغربية الخزنة مضلعة الشكل، و الجهة الشرقية قبة أخرى على ثمانية عُمُد تسمى قبة زين العابدين، نلمح تغير مستوى الأرض و ارتفاعها لتتشوه مع الزمن.


3 ـ الحرم و قاعة الصلاة: يتألف من ثلاث بلاطات موازية للقبلة، محمولة على صفين من الأعمدة الحجرية مؤلفة من طابقين، و يغطي الحرم سقوف سنامية الشكل، صنعت من الخشب، مصفحة من الخارج بالرصاص.


و نلمح في الحرم بناء صغيراً شرقي المحراب، هو ضريح النبي يحيى أو القديس يوحنا المعمدان، و يستمد الحرم نوره من نوافذ مفتوحة في جدرانه الشمالية الجنوبية، شبيهة بالقناطر العليا الموجودة في الأروقة.


4 ـ المآذن: كان للمعبد "سابقاً" أربعة أبراج، لم يبق منها سوى الجنوبيين، اتُّخذا مئذنتين، ثم شُيّدت الثالثة إلى جانب الباب الشمالي على هيئة برج مربع، و عُرفت باسم مئذنة العروس، و شُيّدت المئذنة الشرقية فوق برج المعبد و سميت بمئذنة عيسى، أما الغربية التي شُيّدت فوق البرج ثم رُمّمت سنة 893هـ، فقد سُمّيت باسم السلطان قايتباي المملوكي.


5 ـ العناصر الزخرفية: كانت يزين الجامع عنصران رئيسيان هما الفسيفساء و الرخام، و تميز التزيين بخلوّه من الصور، مقتصراً على مشاهد الطبيعة و العمائر و الزخارف النباتية و الهندسية.


هذا الوصف الكلامي يحتاج بجدّ تأمل هذا الصرح العظيم، مشاهدة و تفكّراً، كيف بدأت حكايته ؟ من نية في إظهار عظمة و عالمية الدين الإسلامي، و لا يزال الجامع الأموي يحمل لنا من المعرفة التاريخية و المتعة الروحية، فهناك مشاهد و محاريبُ لمذاهب متعددة، و متحف يحمل لنا من الأسرار المدهشة، كمصحف سيدنا عثمان بن عفان بخطّ يده.


ذاك هو الأموي ! يحمل لنا تنوعاً مدهشاً مذهلاً رائعاً، فقد جلس و اعتكف الغزالي عشرة أعوام فيه، و اشتهرت الغربية بالغزالية، وهناك كتب كتابه الشهير (إحياء علوم الدين).


فهل سنُحيي و نجدّد نفوساً ألِفت الكسل و الخمول و الجهل، بقراءة متبصّرة في سير من سبقونا بالإيمان، طموحهم مباهاةٌ محمديةٌ في أرض بوركت على لسانه الشريف و بأحاديثه المتواترة التي تُنبئ بنزول السيد المسيح هنا، معلناً إقامة دولة الحق و العدل الإسلامي الصحيح، فهلّا لبّينا نداء النبي و عُدنا لننطلق من ركعتين في حرم الأموي بنية تحية المسجد و نية التغيير للأفضل.


المصادر و المراجع :


ـ تاريخ دمشق / ابن عساكر                                                        ـ معجم البلدان / الحموي


ـ محاسن الشام / للبدري                                                            ـ الجامع الأموي / الطنطاوي


ـ الحوليات الأثرية / لمديرية الآثار