مميز
EN عربي
الكاتب: العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
التاريخ: 25/10/2010

لا أخلاق بغير دين، ولا دين بغير تربية

مقالات مقالات في قضايا تربوية

شغلت مسألة الأخلاق كثيراً من الباحثين قديماً وحديثاً. ولقد ذهبوا في الاهتمام بها وتشقيق الحديث عنها مذهباً جعلت منه عِلماً مستقلاً بذاته، سمي بعلم الأخلاق.

ولقد رأى كثيراً منهم أن أدق تعريف للأخلاق الفاضلة أن يقال: إنه إيثار مصلحة الآخر على مصلحة الذات عند التعارض بحافز من الفطرة.

ولكن مشكلتين واجهتا الباحثين في هذا الموضوع، لدى محاولتهم تحويل الأفكار والتصورات إلى وقائع وأحكام نافذة تدين لها المجتمعات والأفراد، استعصيتا على التطبيق. أما إحداهما فالعجز عن الاتفاق على ما يسمى منفعة أو مصلحة تدور على محورها الأخلاق .. وأما الثانية فالعجز عن إخضاع الناس لحقيقة المنفعة أو المصلحة (قيما لو أمكن اتفاق سائر المجتمعات عليها) دون الاعتماد على وازع ذاتي، يحمل على الدينونة لها.

ولقد وقفت على محاولات كثيرة لأمثال: (أبيقور) و(زينون) و(فيثاغورس) ممن استولدوا علم الأخلاق في العصور الغابرة التي سبقت ميلاد المسيح، للعثور على معنى متفق عليه للفضيلة، ولكن محاولتهم لم تأت بشيء .. لقد اصطدمت بالأعراف المختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة وتنوع الثقافات والتيارات الاجتماعية، كما اصطدمت بالرغائب المتعارضة التي تنسجها وتفرضها الرعونات والأهواء.

وإن التاريخ لا يضنّ علينا بأمثلة كثيرة لظاهرة التناسخ التي تواردت على ما يسمى المصلحة بل لظاهرة التعارض الآني فيما بينها. إن مثالاً واحداً من ذلك، كالبغاء الذي يعدّ ذا علاقة شديدة بالنظرية الأخلاقية، يكشف لنا كيف تسلسلت المعايير المتعاكسة له. إذ حسبنا أن نعلم أن كثيراً من الشعوب المتحضرة في العصور القديمة كقدماء الكنعانيين والبابليين كانوا ينظرون إلى البغاء نظرة قدسية ويعدّونه في كثير من الحالات عملاً مبروراً. أما كثير من شعوب شرق أفريقيا فيرون أن البغاء أمر طبيعي ما لم تقترن الفتاة بزوج .. أما جريمة القتل فما كانت تعتبر جريمة في كثير من الأحيان لدى دولة الرومان، فقد كان يحق للرجل أن يغمس طفله الذي ولد للتوّ في دن كبير من النبيذ ثم ينتشله بعد ثوان محدودة، فإذا اختنق مات غير مأسوف عليه، إذ يدل ذلك على أنه لن يكون صالحاً للحياة العسكرية المثالية في نظر روما إذ ذاك، أما إن أخرج من الدن حياً يختلج فقد أثبت بذلك جدارته للحياة والبقاء.

وهكذا بدا لأولئك الباحثين أن كلمة (الأخلاق الفاضلة) لا تنطوي على حقيقة ثابتة، فضلاً عن أن تتصف بالخلود والبقاء. وإنما الذي يمكن أن يتسم بالبقاء كلمة (الخُلُق) وحدها، مجردة عن معناها، إذ تغدو ثوباً فضفاضاً يُكسى به كثير من أنواع السلوك التي قد تكون في مجموعها متضاربة متنافرة.

وعلى الرغم من هذا، فقد ذهب كل منهم مذهباً في تفسير المنفعة التي تتبعها الفضيلة. فمنهم من اعتدّ بما سماه المنفعة العامة دون أن يقيم وزناً لما قد يعارضها من منفعة الأفراد. ولهذا المذهب أنصار من علماء الأخلاق في العصور الغابرة وفي العصر الحديث. ومنهم من ذهب إلى نقيض ذلك ورأى أن السعادة الشخصية هي مقياس الأخلاق الفاضلة، ومن أبرز من ينتصر لهذا المذهب اليوم الوجوديون بكلا قسميهم المعروفين.

ثم عن أصحاب المذهب الأول تساءلوا: أمن الممكن أن يكون مجرد اليقين بأن الفضيلة تكمن في تحقق المنفعة لأوسع رقعة في نطاق المجتمع الإنساني حاملاً على التحلي بها والانضباط بمقتضاها؟

لم أر في الباحثين، قديماً وحديثاً، من ذهب إلى إمكان ذلك. ذلك ما أكده حتى فلاسفة ما قبل عصر المسيح، وهو ما قد قرره العالم البريطاني بنتام في كتابه (أصول الشرائع)، وهو ما قرره ستيورات ميل في كتابه الحرية. كلهم قرروا أن مجرد الإيمان بالفضيلة لا يكفي أن يكون حافزاً على التحلي بها - ولقد سخر جان جاك روسو ممن صدّق خياله القائل: إن في الفضيلة ذاتها حافزاً يدعو إلى التحلي بها، سائلاً من هذا الذي يقنعني بالابتعاد عما أجد فيه متعتي باسم الفضيلة؟ إن ركوني إلى تحقيق لذائذي هو الوجه الثاني للفضيلة عندما يغيب الوازع الخارجي.

إذن ما هو الوازع الخارجي الذي لا بد منه لازدهار الأخلاق الفاضلة ولحماية المجتمع من نقائضها المتمثلة في الأخلاق المرذولة؟

لم يعثر أولئك الباحثون الذين حدثتك عنهم من القدامى وعلماء هذا العصر، إلا على وازع واحد لا ثاني له، ألا وهو الوازع الديني إذ يهيمن سلطانه على النفس. ذلك ما عاد فقرره بنتام وهو ما أكده ستيورات ميل، وهو ما ذكّر بضرورته روسو في كتابه (إميل) وعلى أساس ذلك سار وانتشر المثل البريطاني القائل: (لا أخلاق بدون دين، ولا دين بدون أخلاق).

بل إن هذا ما يقرره القرآن من قبلهم جميعاً، عند كل دعوة إلى التحلي بمكارم الأخلاق. إنه يمهد لذلك بتأسيس العقيدة الإيمانية بالله في العقل والدعوة إلى الاصطباغ بها عبودية لله في النفس والسلوك، ثم يبني على ذلك دعوته إلى مكارم الأخلاق.

تأمل في هذه الدعوة التمهيدية التي يجعل منها القرآن أساساً لطائفة هامة من الأخلاق الإنسانية الفاضلة، يوصي بها الناس جميعاً، إنها قوله:

{لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً, وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ..}

ثم يخاطب الناس بسلسلة من مكارم الأخلاق يدعوهم إليها، بدءاً من قوله: }وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً{ إلى آخر عشرة مبادئ أخلاقية يوصي بها. ثم إنه يعود فيختمها بالأساس الذي بدأ فأقامها عليه. قائلاً:

{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً }الإسراء39, إذن فإن أخْذَ الناس أنفسهم بالتربية الإيمانية بضوابطها وآدابها، هو الحصن الذي لا بديل عنه لحماية الأخلاق وغرسها في تربة القوة والبقاء.

* * *

ولكن دعوة تنطلق اليوم من مؤسسات عالمية متخفية، وتتمركز في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية، تخالف كل هذا الذي انتهى إليه جميع علماء الفلسفة والأخلاق قديماً وحديثاً (باستثناء الوجوديين وقادة الفلسفة المادية) .. تقول هذه الدعوة: إذا كانت الغاية من معرفة الدين والتحلي به، التمسك بالأخلاق المثلى، فلتكن دعوتنا إلى هذه الأخلاق مباشرة، ولنختصر الطريق إلى الغاية دون أن نقيم المسافات الطويلة بيننا وبينها. واختصار الطريق يعني، فيما يصرحون به، طيّ سبيل التربية الدينية لا سيما في المدارس، والاستعاضة عنها بتدريس الأخلاق مباشرة.

إنّ مما لا ريب فيه أنها في الحقيقة دعوة إلى نبذ الأخلاق والقيم الفاضلة، وإلى التحرر من ضابطها، ولكنها تأتي مقنّعة بصورة الدعوة إليها، وهي دعوة شكلية لا تأتي بطائل، لأنها مقرونة في الوقت ذاته بالعمل على اجتثاث الفضيلة بكل قيمها من أساسها الذي لا تُستنبت إلا في تربتها، ألا وهو أساس التربية الدينية بكل فروعها. إن أرباب هذه الدعوة يعلمون كما نعلم أن الأخلاق الفاضلة لا يمكن أن تزدهر في فراغ، وإنهم ليعلمون أن تاريخ الإنسانية لم يشهد أمة أو جماعة التزمت القيم الأخلاقية وتقيدت بضوابطها دون الاعتماد على وازع خارجي يقودها إلى ذلك، وإنهم ليعلمون أيضاً أنه لا يوجد وازع ينجح في حمل الناس، أياًَ كانوا، على هذا الالتزام، إلا وازع الدينونة لله عز وجل، وإنما تستقر هذه الدينونة في نفوس الناس عموماً وفي نفوس الناشئة خصوصاً عن طريق التربية الدينية يؤخذ بها الجيل منذ أول نشأته، قرر ذلك القرآن أولاً، ودان لقراره (من حيث يعلمون أو لا يعلمون) جميع العلماء التربويون والأخلاقيون من أمثال روسّو وبنتام وستيورات ميل في العصر الحديث، ومن أمثال زينون وسقراط وفيثاغورس في العصور الغابرة.

ولقد أنصف الوجودي الفرنسي (سارتر) الحقيقة، وانسجم مع إلحاده عندما قال في مسرحية (الذباب) إنه لا يستطيع الإيمان بوجود قيم أخلاقية في عالم لم يتح له الإيمان بوجود خالق فيه. وهو يعود فيعبر عن هذه الحقيقة المنبثقة عن إلحاده بإلحاح أكثر فيقول: (إن الوجودية تقول: إن عدم وجود الله معناه عدم وجود القيم المعقولة كذلك، وعدم وجود الخير بصورة مسبقة، لأن عدم وجود الله معناه عدم وجود وجدان كامل لا متناه يعقل ذلك الخير، وهكذا يصبح القول بوجود الخير أو بوجوب الصدق والنزاهة قولاً لا معنى له)([1]).

إن المسافة بين كلام سارتر هذا، والذين يدعون إلى تدريس الأخلاق بدلاً عن التربية الدينية، جدّ قصير .. إن كلاً منهما يعلن عن عدم الحاجة إلى البحث عن وجود الله والخضوع لسلطانه، غير أن سارتر أقرّ بما تنطق به الحقيقة عندئذ، من عدم وجود قيم أخلاقية في عالم لا يوجد له فيه إله، أما الآخرون فيؤكدون أن انضباط المجتمع الإنساني بالأخلاق الفاضلة لا يحتاج إلى وساطة إله. ولعمري إنهم ليعلمون أنها لن تكون حينئذ إلا أخلاقاً وهمية وقيماً كلامية، إذ الأخلاق والقيم لا تُفرض على المجتمع إلا من علُ، وهيهات أن يتسابق الناس فينجحوا في أن يفرض بعضهم إياها على بعض.

وأقول بحق: إذا ثبت أنه لا حاجة إلى توظيف الإيمان بالله من خلال تربية النشء تربية دينية، فقد ثبت ما قاله سارتر من أنه لا توجد قيم أخلاقية في عالم لا وجود للخالق فيه .. إذ إن الاعتقاد بعد الحاجة إلى توظيف الإيمان بالخالق، يساوي القول بعدم وجود الخالق، إلا في مقياس المتلاعبين بالعبارات المختبئين وراء لغو الإشارات.

ومرة أخرى أردد المثل البريطاني القائل: (لا أخلاق بغير دين، ولا دين بغير أخلاق) فإن في المسلمين الذين يدعون إلى الأخلاق مع نبذ التربية الدينية لعدم الحاجة إليها، من يثق بالمثل البريطاني أكثر من ثقته بالقرآن.

(1) الوجودية مذهب إنساني لسارتر: ص24-25.

تحميل