مميز
EN عربي
الكاتب: ياسر السيد أحمد مدين
التاريخ: 03/10/2010

التصوف ... المفهوم والمصطلح

مشاركات الزوار
التصوف .. المفهوم والمصطلح
ياسر السيد أحمد محمد مدين
بسم الله الرحمن الرحيم
التصوف: تحديد المراد بالمصطلحات تحديدًا دقيقًا يمنع كثيرًا من سوء الفهم والخلاف والجدل، ومصطلح «التصوف» مصطلح كثر استخدامُه في غيرِ ما وُضِعَ له، فحصل كثيرٌ من سوء الفهم والجدل، فالتصوف والمتصوف والصوفي كلُّها مصطلحاتٌ إسلاميةٌ نشأت في البيئة الإسلامية إِبّانَ عصرِ التدوين حين نشأت مصطلحاتُ الفقه والعقائد والكلام وغيرها، وكل هذه المصطلحات أُطلقت على علوم دُوّنت لتصونَ مقاماتِ الدين التي وردت في حديث جبريل، الإسلامَ: وهو مقامُ معرفة أمر الله فيما يتصل بالجوارح والظواهر، والإيمانَ: وهو مقامُ معرفة أمر الله فيما يتصل بالقلوب والبواطن، والإحسانَ: وهو مقام المعرفة بالله سبحانه وتعالى، وهو ثمرةُ المعرفتين السابقتين.
فكما نهض الأئمة الأربعة وغيرهم من المجتهدين والفقهاء بحفظ مقام الإسلام وأعمال الجوارح عن طريق علم الفقه والاجتهاد في بيان وكشف قواعده ومسائله، ونهض الأشعري والماتريدي وغيرهما بحفظ مقام الإيمان مما شابه من ضلالٍ عن طريق علم أصول الدين فوضّحوا أصوله وفروعه، كذلك نهض بعض علماء الأمة بحفظ مقام الإحسان مما ظهر في الأمة من مظاهرَ تُناقضُ ما كان عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وصحابتُهُ رضوان لله عليهم أجمعين، فبينوا حقائقه، وكشفوا دقائقه، ورسموا السبيل إليه.
يقول صاحب الرسالة القشيرية: «اعلموا -رحمكم الله تعالى- أنّ المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسمّ أفاضلُهم في عصرهم بتسميةِ عَلَمٍ سوى صحبةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا فضيلةَ فوقها، فقيل لهم: الصحابةُ. ولمَّا أدركهم أهلُ العصرِ الثاني سُمّيَ من صحبَ الصحابةَ: التابعين، ورأوا في ذلك أشرفَ سِمةٍ. ثم قيل لمن بعدهم: أتباعُ التابعين. ثم اختلف الناس، وتباينتِ المراتب، فقيل لخواصّ الناس مِمَّن لهم شدةُ عنايةٍ بأمرِ الدينِ: الزّهادُ والعُبادُ. ثم ظهرتِ البدعُ، وحصل التداعي بين الفرق، فكلُّ فريقٍ ادَّعَوْا أنّ فيهم زهادًا، فانفرد خواصُّ أهلِ السُّنةِ المراعون أنفسَهُم مع الله تعالى الحافظون قلوبَهُم عن طوارقِ الغفلة باسم التصوف. واشتهر هذا الاسمُ لهؤلاءِ الأكابرِ قبل المائتين من الهجرة».
وإذا كان ذلك كذلك كان ما وقع فيه البعض من ترجمتهم محاولاتِ الزهد والتقشف من غير المسلمين، ومحاولاتِ الاتحاد المباشر بين الروح البشرية ومبدأ الكون اتحادًا يُنتَجُ وجودًا ومعرفةً أغربَ وأعلى من الوجود والمعرفة العاديين، والقبَّالاه اليهودية، والنظرياتِ التي يهيم أصحابها في بيداء الوهم والاعتماد في إدراك الحقيقة على العاطفة والحدس والخيال أكثر من الملاحظة والتجربة الحسية والاستدلال –خطأً محضًا. فالتصوف قمةُ الإسلام وذروةُ حقائقه، والإسلام فرَّقَ بين الخالق والمخلوق، وجعل أعلى المراتبِ مرتبةَ العبودية لله التي وصفَ بها صفوةَ خلقه صلى الله عليه وسلم في أكثر من موضعٍ من القرآن الكريم، والإسلام أعلى من شأن العقل، وأمر بالتدبر والتفكر والتعقل، وكل هذه المعاني الإسلامية المحضة تُنافي تلك المعانيَ والمفاهيمَ، فترجمتها بالتصوف فيه إساءةٌ لمصطلحٍ إسلاميٍّ أصيلٍ، وإساءةٌ للإسلام، وإساءة للمنهج العلميّ السديد. ومثل هذه الإساءات حاصلةٌ وواقعةٌ عند إطلاقِ هذا المصطلح على أهل الجهل والبدع والأهواء أيضا، وطريقة الاصطلاحِ العلميِّ تقضي بإطلاق اصطلاحات أخرى كالتمصوف والمتمصوف والاستصواف والمستصوف وغير ذلك؛ للتمييز بين الأصفياء والأدعياء، والأصلاء والدخلاء. ووجود أولئك وتنسبّهم إلى أهل التصوف لا يقدح في أصل هذه الحقيقة العلية الشريفة، وهم يماثلون من ادعى الفقه من غير أهله، أو من ابتغي به غير وجه الله، ومن أدخل -بقصد أو بغير قصد- في العقيدة ما ليس منها، فكما أن وجود أولئك لا يقدح بصورةٍ من الصور في علم الفقه من حيث هو ولا في الفقهاء الأصلاء، ولا يقدح في علم أصول الدين من حيث هو ولا في أهله الأصلاء، كذلك الشأن هنا تماما، فوجود الدخلاء والأدعياء لا ينفي ولا يؤثر في وجود الأصلاء والأصفياء.
بقيت أمور ينبغي أن ننبه عليها فكثير من الناس لا ينبَهون لها: أولها: أن التصوف علم وسلوك، ومن حيث هو علمٌ ينبغي ألّا يؤخذَ إلّا عن أهله العلماء به، فكما أن الفقهَ لا يؤخذ إلا من فقيه، والتفسيرَ لا يؤخذ إلا من مفسر، فكذلك التصوف لا يؤخذ إلا من شيخ صوفيّ، وينبغي أن يُعلَم أن لهذا العلم مصطلحاتِهِ الخاصّةَ به كما أن لغيره من العلوم مصطلحاتِها الخاصةَ بها، وعدم مراعاة هذا يوقع في سوء فهم كبير، ونُمثّل لهذا بمصطلح النفس، فليس المراد من إطلاق لفظ النفس عند الصوفية الوجودَ، ولا القالبَ الموضوع، إنما أرادوا بالنفس ما كان معلولًا من أوصاف العبد، مذمومًا من أخلاقه وأفعاله، فإذا وجدْتَ ذمًّا وهجومًا في كتب القوم عليها فتنبه إلى مصطلحهم. ثم إن الكتب التي تُكتب عن التصوف لتُعرّفَ به وتدعوَ إليه يُراعى فيها حال من وُجّهت إليهم، وطبيعةُ العصر الذي كُتبت فيه، فتعتني بأمورٍ معينةٍ وتبرزها أكثر من غيرها، وليس معنى هذا أن هذه الأمورَ وحدَها هي التصوف، ولكن هي الجوانبُ التي احتاجت إلى مزيدِ بيانٍ مراعاةً لحال المدعوين وطبيعة عصرهم، فإذا اعتنى الداعية الصوفي بجانب العزلة أو جانب الكرامات ليس هذا معناه أن التصوف هو العزلة وحدَها، أو العناية بالخوارق وحدَها، ولكنها أمور تُذْكر ويُعتنى بها مراعاةً لحال المدعوّ كما اعتنى القرآن الكريم بذكر بعض المعجزات والكرامات مَنْبَهةً على أمورٍ لولاها لما تَنبّهَ الناسُ لها، والداعية الصوفي في هذا قد يذكر قصصًا واقعيةً أو رمزيةً فيها مبالغة وهذا يدلّ على أن المجتمع المدعو قد أفرط في الجهة المقابلة إفراطا ينبغي أن يقابل بشدة ليعود إلى الوسطية الإسلامية.
هذا، والتصوف من حيث هو سلوكٌ يسلكه العالم وغيره، والصادق وغيره، ينبغي ألّا تؤخذَ أخطاءُ سالكيه عليه من حيث هو مقامٌ دينيٌّ وعلمٌ إسلاميٌّ، فإِثْمُ السالك على نفسه كما أن إحسانَه لها، وكما أن خطأ العابد كممارسٍ للأحكام الفقهية لا يؤخذُ على علم الفقه، وسوءُ فهمِه وتطبيقِه لكلام الفقيه لا يؤخذ به الفقيه، فكذلك الأمر هنا، والله أعلم.
الكاتب: ياسر السيد أحمد محمد مدين.
العمل: رئيس قسم البحث والمراجعة اللغوية بالشركة العربية لتقنية المعلومات.
البريد الإلكتروني:
[email protected]

تحميل