مميز
EN عربي
الكاتب: أ. د. حسان الطيان
التاريخ: 21/09/2010

علم الأصوات عند العرب

بحوث ودراسات

علم الأصوات عند العرب


علم الأصوات Phonétique علم جديد قديم:


جديد لأنه واحد من فروع علم اللسانيات linguistque الذي لا يعدو تأسيسهُ مطلعَ هذا القرن على يد اللغوي السويسري فردينان دوسوسّور (1857 ـ 1913).


وقديمٌ لأنه واحد من العلوم التي تقوم عليها كل لغة، فاللغة أصوات تتألف منها كلمات تنظم في جمل فتؤدي معاني شتّى، أو هي على حد تعبير ابن جني: (أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم). والصوت كما قال الجاحظ: (هو آلة اللفظ، والجوهرُ الذي يقوم به التقطيع، وبه يوجد التأليف، ولن تكون حركات اللسان لفظاً ولا كلاماً موزوناً ولا منثوراً إلا بظهور الصوت. ولا تكون الحروف كلاماً إلا بالتقطيع والتأليف).


ولما كان الأمر كذلك فقد عُني أصحاب كلِّ لغة بأصواتها منذ أقدم العصور، من ذلك ما أُثِر عن قدماء اليونان كأفلاطون وأرسطو من ملاحظات صوتية متناثرة، وكذا ما ورد عن قدماء الرومان أمثال بريسكيان وترنتيانوس.


أما الهنود فكانوا أكثر اتساعاً وأعمق أثراً في آرائهم الصوتية، وهم أول من نظر إلى الدراسات الصوتية على أنها فرع مستقل من فروع علم اللغة، واشتهر منهم بانيني بكتابه المسمى Ashtadhyayi.


وجاء العرب المسلمون فخطَوا بهذه الدراسات الصوتية خطوات واسعة، وضربوا فيها بسهم وافر، شهد بذلك نَصَفَةُ الدارسين من الغربيين، غير أولي الهوى والزيغ، حتى قال قائلهم: (لم يسبق الأوربيين في هذا العلم إلا قومان العرب والهنود).


وقال المستشرق الألماني شادِه عن الأصوات عند سيبويه: (فيستحق ما قد وصل إليه من غايات علم الأصوات أن نعتبره كما أجمع على تسميته كل من درسه من علماء الشرق والغرب مفخراً من أعظم مفاخر العرب).


ومع أن علم الأصوات لم يعرف بهذا الاسم عند العرب إلا في مرحلة لاحقة، فإنه لم يغب عن مصنفات المتقدمين من علماء العربية (نحوها وصرفها وعروضها وبلاغتها وموسوعاتها الأدبية) والطب والحكمة والموسيقى والقراءة والتجويد... ذلك أنه مازج هذه العلوم المختلفة وداخَلَها حتى لا تكاد تقع على كتاب فيها يخلو من كلام في علم الأصوات أو أثارةٍ منه. قال أبو نصر الفارابي: (وعلم قوانين الألفاظ المفردة يفحص أولاً في الحروف المعجمة عن عددها، ومن أين خرج كل واحد منها في آلات التصويت وعن المصوت منها وغير المصوت وعما يتركب منها في اللسان وعمّا لا يتركّب).


ويمكن أن نصنّف العلوم التي أسهمت ولو على نحوٍ ما في علم الأصوات، في زمرٍ ثلاث:


1 ـ علوم العربية: النحو والصرف والبلاغة والعروض...


2 ـ علوم الحكمة والفلسفة والطب والموسيقى.


3 ـ علوم القراءة والتجويد والرسم والضبط.


أولاً: علوم العربية:


أما الزمرة الأولى فتبدأ بظهور أول معجم في العربية، وهو كتاب العين المنسوب إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي (175هـ) والذي بُني على أساس صوتي، وصدِّر بمقدمة صوتية تعد أول دراسة صوتية منظمة وصلت إلينا في تاريخ الفكر اللغوي عند العرب. ولا غروَ فصاحبها الخليل مفتاح العلوم ومصرفها، وصاحب العروض، ذو الباع الطويل بالموسيقى وغير ذلك مما له مساس بعلم الأصوات، بل إن حمزة الأصفهاني ينسب إليه كتاباً مستقلاً في الأصوات اسمه (تراكيب الأصوات).


وكان الخليل أسبق من ذاق الحروف ليتعرف مخارجها: (وإنما كان ذواقه إياها أنه كان يفتح فاه بالألف ثم يظهر الحرف نحو: أَبْ، أَتْ، أَحْ، أَعْ، أَغْ، فوجد العين أدخل الحروف في الحلق، فجعلها أول الكتاب ثم ما قرب منها الأرفع فالأرفع حتى أتى على آخرها وهو الميم).


وتلاه كتاب سيبويه ـ حاوي علم الخليل ـ الذي تضمن دراسات  صوتية أوفت على الغاية دقةً وأهميةً، وتنوّعت بتنوع مادتها؛ فكان منها ما يتعلق باللهجات والمقايسة بينها والاستدلال لها، ومنها ما يعرض للقراءات، ومنها ما يتحدث عن ظواهر صوتية مختلفة كأحكام الهمز من تحقيق وتسهيل وهمزة بين، والإمالة والفتح وما يتعلق بهما من أحكام.. والإعلال والإبدال والتعليل الصوتي لهما... إلى غير ذلك من مباحث صوتية مبثوثة في طيَّات الكتاب بأجزائه الأربعة. ويستأثر الجزء الرابع بأجلّ هذه المباحث وهو باب الإدغام الذي استهله سيبويه بذكر عدد الحروف العربية، ومخارجها، ومهموسها، ومجهورها، وأصولها وفروعها، وما إلى ذلك مما يدخل في تكوين النظام الصوتي العربي ليغدو أساساً ومرجعاً لكل من صنف في هذا الباب من النحاة واللغويين والقراء.


ثم تتابعت كتب النحو واللغة بعد سيبويه تنحو نحوه وتقفو أثره في تخصيص حيّز للدراسات الصوتية مرددةً تعبيراته ومصطلحاته في كل ما يتعلق بمخارج الحروف وصفاتها ـ وهو الباب الذي يعنينا هنا ـ وكان على رأسها، مما وصل إلينا، المقتضب للمبرد (285هـ) والأصول في النحو لابن السراج (316هـ) ورسالة الاشتقاق له أيضاً، والجمهرة لابن دريد (312هـ) والجمل للزجاجي (340هـ) والتهذيب للأزهري (370هـ).


ومما يدخل في هذا الباب شروح سيبويه المختلفة وفي مقدمتها شرح السيرافي (368هـ) والرمّاني (384هـ) والأعلم الشنتمري (476هـ) وشرح أبي علي الفارسي (377هـ) المسمى (تعليقة على كتاب سيبويه)، وغيرها من شروح الكتاب، ولعل ما لم يصلنا منها أغزر مادة صوتية مما وصلنا فهي كثيرة أربت على الخمسين شرحاً.


وتلا ذلك كله كتاب المفصل للزمخشري (538هـ) الذي نسج على منوال سيبويه أيضاً فختم كتابه بباب الإدغام مستهلاً بذكر حروف العربية ومخارجها وصفاتها، وكان بهذا المادةَ الصوتية التي بنى عليها ابنُ يعيش (643هـ) شرحَهُ الغنيَّ بالدراسة الصوتية. ولا يكاد يدانيه في ذلك إلا الرضيُّ الأَسْتَراباذي (’686هـ) في شرحه للشافية حيث تداخل علم الصوت بعلم الصرف.


ولا بد من الإشارة إلى أن ثمة كتباً تحمل اسم الأصوات أو ما يشاكلها لم تصل إلينا، لكن المصادر حفظت أسماءها، مثل كتاب الأصوات لقطرب النحويn(206هـ) تلميذ سيبويه، والأصوات للأخفش (215هـ) وليعقوب بن السكِّيت(246هـ) ولابن أبي الدنيا (281هـ).


وكتاب الصوت والبَحَّة ليحيى بن ماسويه. ومن ذلك أيضاً كتاب الصوت لجالينوس الذي نقله إلى العربية حنين بن إسحاق. ولعل من أعجب ما ذكر ابن النديم في هذا الباب كتاب آلة مصوتة تسمع على ستين ميلاً لمورطس.


على أن أول من أفرد المباحث الصوتية بمؤلف مستقل، ونظر إليها على أنها علم قائم بذاته ابنُ جني (392هـ) في كتابه سر صناعة الإعراب الذي بسط فيه الكلام على حروف العربية: مخارجها، وصفاتها، وأحوالها، وما يعرض لها من تغيير يؤدي إلى الإعلال أو الإبدال أو الإدغام أو النقل أو الحذف، والفرق بين الحرف والحركة، والحروف الفروع المستحسنة والمستقبحة، ومزج الحروف وتنافرها.. إلى غير ذلك من مباحث بوّأَتْهُ المقامَ الأول في هذا الفن’، فعدَّ بحقٍّ رائدَ الدراسات الصوتية، وهو يعني ذلك إذ يقول: (وما علمتُ أن أحداً من أصحابنا خاض في هذا الفن هذا الخوض، ولا أشبعه هذا الإشباع، ومن وجد قولاً قاله، والله يعين على الصواب بقدرته).


ولا تقتصر جهود ابن جني الصوتية على ما في سر الصناعة وإنما تتعدّاه إلى كتبه الأخرى، وفي مقدمتها الخصائص الذي تضمن مادة صوتيةً غنيّةً جاء بعضها منثوراً في تضاعيف الكتاب، وأُفرد بعضها الآخر في أبواب مستقلة مثل باب في كمية الحركات، وباب في مطل الحركات، وباب في مطل الحروف... إلخ.


ويبدو أن موضوع طول الحركات والأصوات قد استبدّ بابن جني إلى حدٍّ جعله يفرد له رسالةً، لم تصلنا، سماها (رسالة في مدّ الأصوات ومقادير المدات) ذكر ياقوت أنّه كتبها إلى أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري وأنها في ست عشرة ورقة بخطّ ولده عال([45]).


هذا وإن من وراء ما ذكرناه من كتب في علوم العربية كتباً أخرى حوت مادة صالحة في الصوت وما إليه، نذكر منها: كتابَ الجيم حيث عني أبو عمرو الشيباني (206هـ) بلغات القبائل ولهجاتها المختلفة، والبيانَ والتبيين حيث تكلم الجاحظ (255هـ) على اللثغة، والصوت ونسج الكلمة العربية وتردّدِ الحروف فيها، والزينةَ حيث تكلّم أبو حاتم الرازي (322هـ) على جرس حروف المدّ وقابل بين العربية والفارسية من حيث أصواتُ كلٍّ منهما مما يدخل تحت علم اللغة التقابلي، وإعجازَ القرآن حيث تكلم الباقلاني (403هـ) على صفات الحروف وعلاقتها بفواتح السور، وسرَّ الفصاحة حيث عقد الخفاجي (466هـ) فصلاً مفرداً للأصوات تكلم فيه على ماهيتها وإدراكها، وفصلاً مفرداً للحروف تكلم فيه على حدِّها واختلافها ومخارجها وصفاتها، ثم تناولها موضوع تأليف الحروف وتنافرها، والتفسيرَ الكبيرَ حيث تكلم الفخر الرازي (606هـ) على الأصوات وتولّدِها وأقسامها وعلاقتها بعلم التشريح. والمباحثَ المشرقية في علم الإلهيات الطبيعيات له أيضاً حيث تكلم على آلية التصويت كلاماً مُعجِباً يتوافق مع كثير مما جاء به علم الفيزياء الحديث.


ولا نكاد نجد بعد هذا في كتب المتأخرين من النحاة واللغويين ما يمكن أن يتّسم بالأصالة في دراسة أصوات اللغة، سوى تلك المحاولة التي جاءت في كتاب مفتاح العلوم للسكاكي (626هـ) من رسم بدائي لأعضاء النطق.


ثانياً:علوم الحكمة والفلسفة والطب والموسيقى:


وأما الزمرة الثانية ـ زمرة الفلاسفة والأطباء والحكماء ـ فيقدُمُها فيلسوفُ العرب الكندي (260هـ) الذي كانت له عناية متميزة بالأصوات، تبدّت في أكثر من مصنّف، وعلى رأس ذلك رسالته في استخراج المعمى حيث تكلم على تردّد حروف العربية ودورانها في الكلام معتمداً على إحصاء صنعه بنفسه، وتقسيمِها إلى مصوتة وخرس (صامتة).


وذكر قانوناً لغويًّا عامًّا يسري على كلِّ اللغات وهو كونُ المصوتات أكثر الحروف تردداً. ونبّه على اشتمال المصوتة على المصوتات العظام، وهي حروف المد، والمصوتات الصغار، وهي الحركات. Les voyelles longueset les voyelles breves ثم بسط الكلام على نسج الكلمة العربية باستفاضة، إذ أورد ما يقرب من مئة قانون من قوانين ائتلاف الحروف واختلافها أو تنافرها.


وللكندي رسالة أخرى ذات ـ مساس بالصوتيات بل بتطبيقٍ دقيق من تطبيقاتها هو ما يدعى اليوم بأمراض النطق Troubles de la parole، وهي رسالة اللثغة، وقد قدّم لها ببيانٍ وافٍ لآلية النطق، وعلاقتها بالحروف، وما تحتاجه كل لغة من اللغات السائدة آنذاك من الحروف، ثم تكلم على أسباب اللثغة وما يعرض للسان من التشنج أو الاسترخاء، ووصف مخارج حروف العربية وهيئات النطق بها وصفاً تشريحيًّا فيزيائياً على نحو يختلف عما عهدناه عند سيبويه وخالفيه، ثم حدّد حروف اللثغة، وسمّى أعراضها وأنواعها وختم الكلام بعللها.


ومخالفة نهج سيبويه في تتبع مخارج الحروف تفضي بنا إلى ملاحظة هامة تتعلق بطبيعة تناول هؤلاء الحكماء للصوت، إذ هي تنزع نحو فيزيائية الصوت أو ما أطلق عليه بعض الباحثين اسم علم الصوتيات المَوْجي السمعي Acoustique phonetique ولا غروَ فقد عرض حكماؤنا لمصدر الصوت، وكيفية انتقاله في الهواء، والمميزات الخاصة التي يتصف بها، وكيفية وصوله إلى الأذن، وإدراكه، والتمييز بين الأصوات اللغوية وغير اللغوية، ووضع المعايير السمعية لتقسيم الأصوات اللغوية، والنغمة الصوتية، وشدة الصوت... إلخ.


والفارابي (339هـ) المعلم الثاني واحد ممن عُني بهذه الدراسات، إذ انطوى كتابه الموسيقى الكبير على الكثير منها: من ذلك كلامه على حدوث الصوت والنغم، وربطه بين المبدأ الطبيعي لحدوث الصوت وكيفية حدوث الكلام، وعنايته بدرجة الصوت (حدّته وثقله) وإشارته إلى وجوب استعمال الآلات للقيام ببعض القياسات التي يصعب تحديدها بالسمع.


ومما ينحو هذا النحو رسالة الموسيقى لإخوان الصفا (القرن الرابع الهجري) وقد اشتملت على عدة فصول أهمها فصل في كيفية إدراك القوة السامعة للأصوات، فيه كلام على الأصوات، وأنواعها، ومصدرها، وماهيتها، ونغمتها.


وجاء ابن سينا (428هـ) فجمع هذا كله في رسالته الفذّة أسباب حدوث الحروف، التي عالج فيها أصوات اللغة على نحو فريد لا نكاد نقع عليه عند أحد من المتقدمين، وهو يتصل بما يسمى علم الأصوات النطقي phonetique articulatoir  فقد جاء حديثه فيها حديثَ العالم الفيزيائي حين أشار إلى كنهِ الصوت وأسبابه، وحديثَ الطبيب المشرِّح حين وصف الحَنجرة واللسان، وحديثَ اللغوي المجوِّد حين عرض لوصف مخارج الحروف وصفاتها، وحديثَ عالم الأصوات المقارنة حين تصدى لوصف أصوات ليست من العربية، وحديثَ فقيهِ اللسان وأسرار الطبيعة حين ربط بين أصوات الطبيعة وأصوات الحروف.


 وتميّز كلامُهُ في ذلك كلّه بمصطلحاتٍ لا نحسِب أحداً من علماء العربية يَشْرَكُهُ فيها. من أجل هذا سنخصّ رسالته بفضل بيان وتفصيل.


قسم ابن سينا رسالته ستة فصول:


ـ أولها: في سبب حدوث الصوت حيث ردَّ ذلك إلى القلع أو القرع اللذين يلزم عنهما تموّجٌ سريعٌ عنيفٌ في الهواء يُحدِث الصوتَ.


ـ وثانيها: في سبب حدوث الحروف حيث يبيّن أن حال المتموِّج في نفسه من اتصال أجزائه أو تفرقها تفعل الحدة والثقل ـ وهما يمثلان شدة الصوت([69]) pitch ـ وأن حاله من جهة الهيئات التي يستفيدها من المخارج والمحابس في مسلكه تفعل الحرف، ثم يُعرِّفُ الحرفَ، ويقسم الحروف إلى مفردة ومركّبة موضحاً طبيعة كلٍّ منها.


ـ وثالثها: في تشريح الحَنجرة واللسان: حيث تبدّت عبقريّة ابن سينا الطبيّة، فشرَّح الحنجرة مبيِّناً غضاريفَها الثلاثة (الدَّرَقي، والطِّرْجِهاري، وعديم الاسم) وكيفيَّةَ تركّبها وارتباطها بعضها ببعض عن طريق المفاصل والعضلات التي عدّدها وحدّدها تحديداً دقيقاً بعد أن قسمها إلى عضلاتٍ مضيقة للحجرة وأخرى موسّعة، وأشار إلى ارتباط بعضها بأنواع معيّنة من العظام (كالعظم الشبيه باللام). ثم شرَّح اللسان مبيّناً عضلاتِه الثماني وارتباطاتها المختلفة.


ـ ورابعها:  في الأسباب الجزئية لحرف حرف من حروف العربية وهو بيت القصيد من الرسالة إذ تناول فيه حروف العربية حرفاً حرفاً مبيّناً سببَ حدوثِها وما يعتري كلاً منها من عمليّات عضوية تتبدّى في دفع الهواء، وحبسه، وكيفية هذا الحبس، والوسط الذي يتردّد فيه الهواء المدفوع من رطوبةٍ أو يُبُوسة أو ما إلى ذلك. 


ولعلّ من أهم ما في هذا الفصل تفريقَ ابنِ سينا بين الواو والياء الصامتتين، والواو والياء المصوتتين، ثم بيانه العلاقة بين المصوّتات الطويلة والمصوّتات القصيرة ومحاولته تحديد زمن حصول كلّ منها.


ـ وخامسها: في الحروف الشبيهة بهذه الحروف وليست في لغة العرب، حيث عرض لحروف أعجمية (فارسية ويونانية وتركية) تشبه بعض حروف العربية مثل G وV وP والزاء الظائية في مثل (يصدر) واللام المطبقة في مثل (الصلاة) بتفخيم اللام.


وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعضَ هذه الحروف موجود في بعض اللهجات العربية القديمة، ومن ثمَّ فقد اشتملت عليه بعض القراءات القرآنية، كما جاء في قراءة حمزة والكسائي {           } [القصص: 23] بإشمام الصاد صوت الزاي وكما جاء في قراءة ورش {   } [البقرة: 3] بتفخيم اللام.


ـ وسادسها: في أن هذه الحروف قد تسمع من حركات غير نطقية. وهو فصل طريف يربط فيه ابن سينا بين أصوات اللغة والأصوات الطبيعية الأخرى محاولاً أن يتلمَّس وجوه الشبه بينهما، فالخاء عن حك الجسم ليّن حكًّا كالقشر بجسم صلب، والشين عن نشيش الرطوبات وعن نفوذ الرطوبات في خلل أجسام يابسة نفوذاً بقوة، والطاء عن تصفيق اليدين بحيث لا تنطبق الراحتان بل ينحصر هناك هواء له دوي، والتاء عن قرع الكف بإصبع قرعاً بقوة... إلخ.


ولا تخلو كتب ابن سينا الأخرى كالقانون والشفاء من إلماعات صوتية تدخل فيما نحن بسبيله. كما لا يعدم الباحث إسهامات مشابهة في هذا المجال عند خالفي ابن سينا كعبد اللطيف البغدادي (629هـ) وهو واحد من فلاسفة الإسلام المكثرين من التصنيف في الحكمة وعلم النفس والطبّ... ومن رسائله المتصلة بموضوعنا: (مقالتان في الحواس) و(النفس والصوت والكلام) و(اللغات وكيفية تولدها).


ثالثاً:علوم القراءة والتجويد والرسم والضبط:


وأما الزمرة الثالثة ـ زمرة علماء القراءة والتجويد والرسم والضبط ـ فقد وُسِمَتْ مصنفاتها بأنها أكثر الكتب احتفاءً بالمادة الصوتية؛ وذلك لابتغائها الدقة في تأدية كلمات القرآن الكريم قراءةً وتدويناً إلى حدٍّ جعل بعض الباحثين يذهبون إلى أن هذه العلوم انفردت بالدرس الصوتي وأغنته، على أنها أفادت من علم النحو عامة ومن كتب سيبويه خاصة، يقول برغشتراسر: (كان علم الأصوات في بدايته جزءاً من النحو ثم استعاره أهل الأداء والمقرئون، وزادوا في تفصيلات كثيرة مأخوذة من القرآن الكريم).


والحق أن هذه العلوم تمثل الجانب التطبيقي الوظيفي لكل ما سبق ذكره من دراسات صوتية’، وقد ظهرت في مرحلة مبكرة من تاريخ حضارتنا العلمي صدعاً بالأمر الإلهي {     } ] المزمل:4[ وصولاً إلى الوجه الأمثل لهذه التلاوة، ووصفاً لأوجه الأداء المختلفة التي تبدّت في القراءات القرآنية وانطوى عليها الرسم العثماني للمصحف. لكنها اقتصرت بادئ الأمر على المشافهة والتلقين دون الكتابة والتدوين، ثم ظهرت مصنّفات القراءات القرآنية التي عنيت ببيان وجوهِ الأداء المختلفة معزوّةً إلى ناقليها، ووجوهُ الأداء هذه تشتمل على الكثير من الظواهر الصوتية؛ كإدغام المتماثلين والمتقاربين وإظهارهما، ونبر الهمز وتسهيله وإبداله وحذفه، وإمالة الألف والفتحة وفتحهما.. إلى غير ذلك مما يدخل تحت ما يدعى اليوم بعلم وظائف الأصوات phonologie. 


ويعزو المؤرخون أول كتاب في القراءات إلى أبي عبيد القاسم بن سلام (224هـ) الذي جعل القرّاء خمسة وعشرين قارئاً، أما أول كتاب وصلنا في هذه الفن فهو كتاب السبعة لابن مجاهد (324هـ) شيخ الصنعة وأول من سبّع السبعة، وتواصلت بعده كتب القراءة تترى، تقفو أثره، وتنهل من منهله على اختلاف عدد القرّاء في كلٍّ منها.


أما فنُّ التجويد فأول من صنّف فيه ـ على ما يبدو ـ موسى بن عبيد الله ابن خاقان (325هـ) صاحب القصيدة الخاقانية في التجويد، وهي تضم واحداً وخمسين بيتاً في حسن أداء القرآن الكريم، وقد شرحها الإمام الداني (444هـ) صاحب التصانيف العديدة في القراءات والتجويد، ولعل من أهمها في هذا الباب رسالته (التحديد في الإتقان والتجويد). التي ضمَّنها باباً في ذكر مخارج الحروف وآخر في أصنافها وصفاتها، ثم أتى على ذكر أحوال النون الساكنة والتنوين عند جميع حروف المعجم، وأفرد باباً لذكر الحروف التي يلزم استعمال تجويدها وتعمّل بيانها وتخليصها لتنفصل بذلك من مشبهها على مخارجها.


ومن أقدم ما وصلنا بعد القصيدة الخاقانية رسالة (النبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي) لأبي الحسن علي بن جعفر السعيدي المقرئ (461هـ) وهي ذات موضوع طريف يتعلق بنطق الأصوات العربية، ويكشف عن الانحرافات النطقية الخفية التي يمكن أن يقع فيها المتكلم لاسيما قارئ القرآن الكريم حيث يتطلب الأمر عناية خاصّة بأداء الأصوات.


ومما ينحو نحوَها كتابُ (بيان العيوب التي يجب أن يتجنبها القراء وإيضاح الأدوات التي بني عليها الإقراء) لابن البناء (471هـ) وهو لايقتصر على بيان الانحرافات النطقية في الأصوات والعجز عن أدائها وبيان كيفية علاجها، إنما يتجاوز ذلك إلى معالجة موضوعات أخرى تتعلق بكيفيات الأداء، وبيان العادات الذميمة المتعلقة بالهيئات والجوارح مع توضيح معايب النطق الخاصة ببعض الأصوات، مما يدخل في بابي أمراض الكلام والأصول الواجب مراعاتها عند القراءة.


على أن أوسع ما وصلنا في علم التجويد كتاب الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق التلاوة للإمام المقرئ أبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي (437هـ) صاحب التصانيف الجليلة في علوم القرآن والعربية وقد جمع فيه صاحبه فأوعى، ثم زاد فأربى على كل من تقدمه، وفي ذلك يقول: (وما علمت أن أحداً من المتقدمين سبقني إلى تأليف مثل هذا الكتاب ولا إلى جمع مثل ما جمعت فيه من صفات الحروف وألقابها ومعانيها، ولا إلى ما أتبعت فيه كل حرف منها من ألفاظ كتاب الله تعالى، والتنبيه على تجويد لفظه والتحفظ به عند تلاوته)().


وحسبنا أن نشير، تدليلاً على هذا، أنه ذكر لحروف العربية أربعة وأربعين لقباً، بيّنها وشرحها، (وكل واحدٍ من هذه الألقاب يدل على معنى وفائدة في الحرف ليسا في غيره مما ليس له ذلك اللقب)().


وتتابعت بعد ذلك رسائل التجويد تقفو أثر ما تقدم، ولا نكاد نجد فيها جديداً يذكر. ولعل أبرزها ما وضعه الإمام ابن الجزري (833هـ) المقرئ المشهور، وله في هذا الباب أكثر من أثر، من ذلك كتابه (التمهيد في علم التجويد)() وقد تناول فيه كل مسائل التجويد وضم إليها باباً في الوقف والابتداء، وآخر في معرفة الظاء وتمييزها من الضاد().


ومن ذلك أيضاً قصيدته المعروفة بالمقدمة الجزرية وهي أرجوزة في ثمانية ومئة بيت في التجويد والرسم والوقف والابتداء... وقد تداولها خالفوه بشروح عديدة()، أذكر منها (الحواشي المفهمة في شرح المقدمة) لأحمد بن الجزري (827هـ) ابن الناظم، و(الدقائق المحكمة في شرح المقدمة الجزرية) لزكريا بن محمد الأنصاري (926هـ)()’.  

تحميل