مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور بديع السيد اللحام
التاريخ: 07/01/2019

تطور تصنيف الحديث النبوي حتى القرن العاشر الهجري

بحوث ودراسات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصَّلاة والسَّلام على أَشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أَجمعين.
وبعد:
بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى قام صحابته رضوان الله عليهم بتأدية الأمانة، وتوزعوا في الأمصار يدعون إلى الدين القويم على بصيرة فهاهو ذا معاذ بن جبل في الشام، وعبد الله بن مسعود في الكوفة، وعبد الله بن عمرو في مصر، وأنس بن مالك في البصرة ... وغيرهم المئات من الصَّحْب الكرام دخلوا هذه البلاد وغيرها من الأمصار معلِّمين لكتاب الله تعالى وراوين لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد وفَّق الله تعالى سيدنا أبا بكر الصديق إلى جمع القرآن الكريم في مصحف واحد، وجاء من بعده سيدنا عثمان بن عفان فنسخ نسخًا متعدِّدة لكتاب الله تعالى وزَّعها على الأمصار، لتكون المرجع عند الاختلاف.
أما بالنسبة إلى الحديث النبوي الشريف فقد اعتمد الصحابة على روايتها شفاها في الأعم الأغلب إلا ما ورد عن بعضهم أنه كانت لديه صحف قد كتبها يحدِّث منها، واشتهر من بين تلك الصحف:
- (الصَّحيفةُ الصَّادِقة) لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ويتجاوز عدد أحاديثها أربعمئة حديث، روى الخطيب البغدادي عن مُجاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قالَ: ما يُرَغِّبُني في الحَياةِ إِلا خَصْلَتانِ: الصّادِقَةُ والوَهْطَةُ ، فَأَمّا الصّادِقَةُ: فَصَحيفَةٌ كَتَبْتُها عَنْ رَسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه، وأَمّا الوهْطَةُ فَأَرْضٌ تَصَدَّقَ بِها عَمْرو بْنُ العاصِ كانَ يَقومُ عَلَيْها. وفي رواية، قالَ: «ما آسَى عَلَى شَيْءٍ إِلا عَلَى الصّادِقَةِ والوَهْطِ» وكانَتِ الصّادِقَةُ صَحيفَةٌ إِذا سَمِعَ مِنَ النَّبيِّ شَيْئًا كَتَبَهُ فيها، والوَهْطُ أَرْضٌ كانَ جَعَلَها صَدَقَةً.
- (صَحيفةُ سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه) التي كان يحتفظ بها في قِراب سيفه، وكانت تتضمن بعضًا من الأحكام مثل أَسنانِ الإبلِ، والجِراحات، وحرمة المدينة ... عَنْ أَبي جُحَيْفَةَ، قالَ: قُلْتُ لِعَليِّ بْنِ أَبي طالِبٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتابٌ؟ قالَ: "لاَ، إِلا كِتابُ اللهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ ما في هَذِهِ الصَّحيفَةِ. قالَ: قُلْتُ: فَما في هَذِهِ الصَّحيفَةِ؟ قالَ: "العَقْلُ، وفَكاكُ الأَسيرِ، ولاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكافِرٍ"
- (صَحيفةُ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنهما): أَخرجَ ابنُ سَعدٍ عن قَتادَةَ قوله: "لأَنا بِصَّحيفَةِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ أَحْفَظُ مِنّي لِسورَةِ البَقَرَةِ" وكانَتْ قُرِئَتْ عَلَيْهِ. كما ذَكَرَ أَنَّ مُجاهِدَ بنَ جَبْرٍ كان يُحَدِّثُ عَنْ صَحيفَةِ جابِرٍ.
- وجمعَ الصَّحابيُّ الجليلُ سَعْدُ بنُ عُبادَةَ أَحاديث في صَحيفةٍ رَواها عنه ابنُه
- (الصَّحيفةُ الصَّحيحةُ) وقد ضمَّنها هَمَّامٌ بنُ منبِّهٍ ما رَواه عَنْ أَبي هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنهُ، وهذهِ الصَّحيفةُ قدْ وصَلَتْنا كاملةً، وقد قامَ على تَحقيقِها وطَبْعِها الدكتور مُحمَّد حميد الله رحمه الله، وبلغ عددُ أَحاديثها (140 حديثًا).
وغير ذلك من النسخ والصحف
بدء التدوين الرسمي للحديث:
على الرغم مما تقدم من وجود تلك الصحف والنسخ الحديثية إِلا أنَّ السِّمة الشائعة لتلك المرحلة هي الرواية الشّفاهية - كما تقدَّم -، أما تدوين الحديث فقد بقي بين أخذ وردٍّ إلى أن أفضت الخلافة لعمر بن عبد العزيز الأموي (مجدد المئة الثانية) إذ رأى أن يأمر علماء الأمة وحفاظ الحديث فيها بجمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم خشيةً عليها من الضياع مع تطاول الزمن وتكاثر الفتن، فأرسل إلى عمّاله على الأمصار كُتبًا يأمر كُلَّ عامل منهم بجمع ما يرويه حفاظ الحديث في مِصره، ويكفي في هذا السياق أن أذكر أُنموذجًا من تلك الرسائل، وهي رسالته إلى أبي بكر بن حزم الحزمي - عاملِهِ على المدينةِ المنوَّرةِ -، فقد جاء فيها: (انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه أو سنَّة ماضية أو حديث عَمْرَة فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء)، وكذلك كتب إلى أهل الآفاق (انظروا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه) وهكذا بدأ تدوين الحديث يشيع ويتسع. قال الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري: "اعلم أنَّ آثار النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن في عصر الصّحابة وكبار التابعين مدونة في الجوامع ولا مرتبه لأمرين:
أحدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نُهوا عن ذلك كما ثبت في صحيح مسلم خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.
وثانيهما: لسعة حفظهم وسيلان أذهانهم ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة، ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار وتبويب الأخبار لما انتشر العلماء في الأمصار"
وكان من أوائل من جمع الحديث في هذا العصر من الأئمة:
- ابن شهاب الزهري أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله المدني (ت: 124هـ): عن سليمان بن داود قال: أول من دوَّن العلم ابن شهاب. وعن ابن شهاب قال: "أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا"
- ابن جريج أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز (ت: 150 هـ): عن سفيان بن عيينة قال: سمعت ابن جريج، يقول: "ما دوَّن العلمَ تدويني أحدٌ"، وهو أول من صنَّف الحديث بمكة.
- ابن إسحاق أَبو بكر محمد المطَّلبيُّ المدَنيّ (ت: 151هـ)، أحد الأعلام، قال الذهبي في حقِّه: كان بحرًا في العلم حبرًا في معرفة أيام النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
- الإمام مالك بن أنس الأصبحي (ت: 179هـ)، إمام دار الهجرة، صنَّف (الموطأ) بإشارة من الخليفة العباسي، رتَّبه على الأبواب، وضمَّنه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وآثار الصحابة، وفتاوى التابعين، وما عليه العمل عند أهل المدينة المنورة، قال الحافظ ابن حجر: "توخَّى فيه القوي من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم"
- الإمام عبد الله بن المبارك المروزي (ت: 181هـ) فريد الزمان وشيخ الإسلام، وهو أول من صنَّف الحديث بخراسان ...
وغيرهم من الحفاظ، فكان أول من صنَّف:
في اليمن مَعمَر بن راشد الصنعاني (ت: 154هـ).
وفي الشام الأوزاعي أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو (ت: 158هـ).
وفي الكوفة الثوري أبو عبد الله سفيان بن سعيد (ت: 161هـ).
وفي البصرة حماد بن سلمة بن دينار أبو سلمة (ت: 167هـ).
وفي واسط هشيم بن بشير (ت: 173هـ).
وفي مصر الإمام الليث بن سعد الفهمي (ت: 175هـ).
وفي الري جرير بن عبد الحميد (ت: 188هـ).
وكَثُر تدوين العلم، وكان النَّهجُ السّائد عند هؤلاء ومن في طبقتهم أن يجمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مُختلطاً بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، مع ضمِّ الأبواب بعضها إلى بعض في كتاب واحد
التدوين في القرنين الثالث والرابع:
تعدُّ هذه الحقبة الزمنية أزهى عصور السنة وأسعدها بأئمة هذا الشأن، فقد ابتدأ فيها تصنيف الحديث على المسانيد - وهي جَمْع ما يُروى عن الصحابي في موضع واحد - وممن صنَّف مسندًا:
- أبو داود الطيالسي سليمان بن داود القرشي البصري (ت: 204هـ) وقيل: إن مسنده أول مسند صُنِّف.
- أسد بن موسى الأموي (ت: 212هـ) .
- عبيد الله بن موسى العبسي (ت: 213هـ) .
- إبراهيم بن نصر السوريني (ت: 213هـ).
- الحميدي أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى القرشي الأسدي (ت: 219هـ) وهو من مشايخ البخاري، قال الحاكم: كان البخاري إذا وجد الحديث عن الحميدي لا يَعْدوه إلى غيره
- مُسدَّد بن مُسَرْهد (ت: 228هـ) .
- نعيم بن حماد الخزاعي (ت: 228هـ).
- ابن أبي شيبة أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي (ت: 235هـ).
- ابن راهويه إسحاق بن إبراهيم بن مخلد التميمي الحنظلي النيسابوري (ت: 238هـ)، وهو قرين الإمام أحمد بن حنبل.
- العدني أبو عبد الله محمد بن يحيى ابن أبي عمر العدني (ت: 243هـ).
- أحمد بن منيع بن عبد الرحمن أبو جعفر البغوي (ت: 244هـ).
- عبد بن حميد الكِشي (ت: 249هـ).
- ابن أبي أسامة الحارث بن محمد بن داهر التميمي (ت: 282هـ).
- أبو يعلى الموصلي أحمد بن علي بن المثنى التميمي الحافظ (ت: 307هـ) وله فوق المئة من العمر، وصنَّف مسندين صغير وكبير، وقد قيل في مسنده الكبير: (المسانيد كالأنهار ومسند أبي يعلى كالبحر).
وقلَّ حافظ من حفاظ الحديث إلا وصنَّف على المسانيد، ولكن قصب السبق في حسن التصنيف والجمع والفائدة الذي جمع أزمَّة ذلك كله هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل (ت: 241هـ) في (مسنده) الذي يُعدُّ مُقدَّم تلك المسانيد وأعظمها شأنًا، وقد بلغ عدد الصحابة الذين خرَّج لهم الإمام أحمد (904) صحابي وصحابية.
وترسَّم حافظ الأندلس بَقي بن مَخْلَد (ت: 276هـ) خطى الإمام أحمد في جمع المسند، إلا أنه لم يُكتب لمسنده العظيم الانتشار والذيوع، فلم يصل إلينا منه إلا مقدِّمته، وفيها قائمةٌ بأسماء الصحابة الذين خرَّج حديثهم في كتابه، وقد بلغ عددهم (1014) صحابي وصحابية
وكان من طريقة هؤلاء في جمع الحديث إفراد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده بالجمع، فلم يُدخلوا في مسانيدهم أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، ولكنَّهم مزجوا بين صحيح الحديث وضعيفه، سواء صلُح الحديث للاحتجاج أم لا، مكتفين بذكر الأسانيد على قاعدة (من أسند لك فقد حمَّلك) يقول الحافظ ابن حجر: "أكثر المحدثين في الأعصار الماضية من سنة مئتين وهلم جرّا إذا ساقوا الحديث بإسناده اعتقدوا أنهم برؤا من عهدته والله أعلم"
لذلك نرى أن جَمْع الحديث وتصنيفه كان له منحاً آخر على يد إمام المحدِّثين - الموصوف بـأنه (جبل الحفظ) - الإمام البخاري محمد بن إسماعيل (ت: 256هـ) إذ اقتصر على جمع الأحاديث الصحيحة فقط، في كتابه الصحيح المشهور بـ(صحيح البخاري) وتمام عنوانه (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه).
وتبعه على ذلك تلميذه الإمام الحافظ الحجَّة مُسلم بن الحجّاج النيسابوري (ت: 261هـ) في كتابه (الجامع الصحيح).
لقد سلك الشيخان في صحيحيهما طريقة الجمع على الأبواب، وقد سلك مسلكهما في جمع الأحاديث الصحيحة:
- ابْن خُزَيْمَة أبو بكر محمد النيسابوريُّ إمام الأئمة (ت: 311 هـ) وتمام عنوان صحيحه (المختصر من المختصر من المسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم)اشترط أن يُخرج ما نقله العدل عن العدل المتَّصل سنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير قطع في أثناء الإسناد ولا جرح في ناقلي الأخبار.
- وأبو حاتم محمد بن حبان التميمي الدارمي البُستي الشافعي (ت: 354هـ) أحد الحفاظ الكبار، وعَنْون صحيحه بـ(التقاسيم والأنواع)، وذلك أنه مشى في كتابه هذا على ترتيب لم يُسبق إليه، كما لم يُتابعه عليه أحد، فقد قسمه إلى خمسة أقسام، مبينًا ذلك في مقدمته بقوله : "تدبَّرت الصحاح لأسهل حفظها على المتعلمين، وأمعنت الفكر فيها لئلا يصعب وعيها على المقتبسين، فرأيتها تنقسم خمسة أقسام متساوية متفقة التقسيم غير متنافية:
فأولها : الأوامر التي أمر الله عباده بها.
والثاني : النواهي التي نهى الله عباده عنها.
والثالث : إخباره عما احتيج إلى معرفتها.
والرابع : الإباحات التي أبيح ارتكابها.
والخامس : أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي انفرد بفعلها.
ثم رأَيْت كُلِّ قسم منها يتنوع أنواعًا كثيرةً ومن كُلِّ نوعٍ تتنوع علوم خطيرة ليس يَعْقِلُها إلا العالمون الذين هم في العلم راسخون"
- و الحاكم النيسابوري أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه المعروف بابن البيع (ت: 405هـ) وكتابه المعروف بـ(المستدرك على كتاب الصحيحين) مما لم يذكراه وهو على شرطهما أو شرط أحدهما أو لا على شرط واحد منهما.
وممن جمع الأحاديث الصحيحة أيضًا
- الحافظ ابن الجارود عبد الله بن علي أبو محمد النيسابوري، المجاور بمكة (ت: 306 هـ). وكتابه (المنتقى) كالمستخرج على صحيح ابن خزيمة.
- والحافظ ابن الشرقي أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن النيسابوري، من تلاميذ مسلم (ت: 325هـ).
- والحافظ قاسم بن أصبغ أبو محمد البياني القرطبي المالكي (ت: 340هـ) وكتابه على نحو كتاب (المنتقى) لابن الجارود.
- والحافظ ابن السكن أبو علي سعيد بن عثمان بن سعيد البغدادي المصري، نزيل مصر (ت: 353هـ)، وسمى كتابه (الصحيح المنتقى)
لمتابعة البحث قم بتحميل الملف

تحميل