مميز
EN عربي
الكاتب: الباحثة نبيلة القوصي
التاريخ: 07/03/2017

العلامة ابن قاضي شهبة

أعيان الشام

المؤرخ العلامة الشيخ أبو بكر بن أحمد بن محمد بن عمر بن محمد الأسدي


تقي الدين، الشهبى، الشافعي

ابن قاضي شهبة، صاحب "الطبقات الشافعية"

(797 / 851 هجري = 1377 ـ 1448 م)

إخوتي السائحين قراء زاوية "معالم و أعيان":

إن من أسرار سياحتنا هذه السماحُ لأرواحنا، بإشراف عقولنا، أن تتلمّس كل نسمة إيمانية روحانية منبعثة من خلال الوقوف معاً عند أي معلم أو عين، لنستفيد ونتزوّد، فالروح تنشط بذكر الصالحين، والعقل يزداد بهم معرفة وعلماً، أن كيف يحيا و يعمّر هذه الأرض؟

إن فوائد السياحة لجليلة إن حدّدنا الهدف منها بقصد الفائدة ومن ثم المتعة...

إخوتي القراء:

شيخ الشافعية "ابن قاضي شهبة" جزاه الله عنا خير جزاء، هو من سكان دمشق الذين تعشقوا الإرث المحمدي وعملوا على ترسيخه، فتركوا من بعدهم عظات وعبر، وسطروا إلهاماً في سيرهم، عدا عن العلم والدين القوي المتين ...

عندما قرأت سيرة قاضي "تقي الدين"، وجدت أن لقبه (ابن قاضي شهبة) ليس له وحده، إنما حملت عائلته من الجد والأب والولد والعم نفس اللقب، لنتوصل إلى أهمية التربية المنزلية، حيث لا تتجلى آثارها إلا بعد وقت وحين من الزمن... فعندما نقرأ الكتب التربوية الإسلامية نجدها تتحدث عن أهمية الأسرة في بناء مجتمع صالح قوي معافى ومتماسك، ومن الأسرة تبدأ عملية الشذب والجذب ... شذبُ وتقليمِ أي خُلق مذموم، وجَذب كل ما هو محمود للفرد ولغيره ...

وابن قاضي شهبة قد منّ الله عليه أن نشأ وترعرع في بيت علم ودين، جدّه قاضٍ ووالده قاضٍ ومن ثم ولده كذلك، تميزت سيرتهم بألَق رائع ساحر، فهل تشوقنا لمعرفة كيف كان ذلك؟

من المعروف أن ابن قاضي شهبة هو صاحب كتاب "الطبقات الشافعية"، لكن عندما تقرأ في المصادر والكتب تجد الكثيرين ممن عُرفوا بابن قاضي شهبة، فمن هو صاحب الكتاب الشهير هذا الذي بسببه دُلّ على مكانة أسرته العلمية الدينية المميزة؟

اسمه:

أحمد بن محمد بن عمر بن محمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب بن محمد بن ذؤيب، تقي الدين، المعروف بابن "قاضي شهبة" ، الدمشقي ،الشافعي، فقيه الشام و مؤرخها و عالمها، اشتهر بابن قاضي شُهبة بضم الشين لأن أبا جده نجم الدين عمر الأسدي أقام قاضيا بشُهبة السوداء، و هي قرية من قرى حوران، أربعين سنة.. فنُسب أبو بكر إلى جده هذا.

ـ جده: محمد بن عمر بن عبد الوهاب ، شمس الدين، أبو عبدالله الأسدي الدمشقي المعروف بابن قاضي شهبة، 691 ـ 782هجري.المعروف "بابن قاضي شهبة".

ـ وعمه: يوسف بن محمد بن عمر بن محمد بن عبد الوهاب، أبو المحاسن، 720 ـ781هجري. والمعروف أيضاً "بابن قاضي شهبة".

ـ والده: أحمد بن محمد بن عمر بن عبد الوهاب، شهاب الدين، أبو العباس، الأسدي المعروف بابن قاضي شهبة، 737 ـ 790هجري. كان شيخ الشافعية، وألف كتاب الفرائض.

ـ ولداه أيضاً ممن اشتهروا "بابن قاضي شهبة"، وهما: ـ محمد بن أبي بكر أحمد، بدرالدين، تولى منصب القضاة وأخذ عن والده وله مؤلفات، توفي 874هجري، ـ حمزة بن أبي بكر أحمد، سرى الدين، والمعروف "بابن قاضي شهبة"، أخذ عن والده ودرس وله مؤلفات، توفي 860هجري.

هؤلاء ممن اشتُهروا باسم "ابن قاضي شهبة" في مدينة اشتُهرت منذ القِدم أنها مباركةٌ أرضُها، يجتبي إليها المولى خيرة عباده، والإنسان الخَيّر المُستخلف عن الله هو الذي يقيم في كيانه الإنساني شرع الله المنشود قبل أن تَصدُقه أعماله على الأرض، وإن هذه الأسرة الجليلة نموذجٌ لأسرة تطمح بمباهاة سيد الخلق يوم العرض أمام رب العزة والجلال ...

مولده:

وُلد بدمشق سنة 779هجري، في بيت كريم كثير العلم، تفقّه بوالده الذي كان يُحضره مجالس العلم منذ صغره، وقرأ عليه صحيح البخاري في حداثة سنه... توفي والده وهو في الحادية عشر من عمره ليتابع على ما نشأ عليه، فأخذ عن عمه يوسف العلم والدين المتين ـ أهمية الأسرة في النشأة، وتلقى العلم أيضاً من أكابر أهل العلم، وهم كُثر نذكر منهم:

السراج البلقيني 805 هجري، الملكاوي 803هجري، و الشهاب بن حجي 813 هجري، وآخرون كثر يصعب حصر عددهم.

صفاته:

برع في العلوم وكان شديد الذكاء عاليَ الهمة رحبَ الصدر متحلياً بأحلى الأخلاق، وقوراً مُهاباً بين الناس، وكان مولعاً بالنسخ مُجيداً للخط، حياته موزعة بين التدريس والتأليف والقضاء والنسخ، وسمع منه كبار العلماء في دمشق والقدس، فطار صيته في الآفاق، وعدد تلاميذه لا يحصى، كما قد اشتهر بالفصاحة والشهامة والتقوى وحسن السيرة.

مناصبه:

ـ مربياً مسؤولاً في بـيته، وولداه خير من يُستدلّ بهما على حسن سيرتهم.

ـ مدرساً، حيث درّس في عدد كبير من المدارس: الظاهرية والشامية البرانية والجوانية، والناصرية، الركنية وغيرها من المدارس في دمشق فكان عدد تلاميذه كبير جداً.

ـ قاضياً تولى منصب نيابة القضاء بدمشق عام 820 هجري، ثم ارتقى إلى رئاسة القضاء مستقلاً به عام 837 هجري، وكان موضع ثقة بالغة.

ـ مؤلفاً، فما لبث أن اعتزل القضاء وانقطع إلى العلم والتأليف... لم يؤلف كتاباً خاصاً بالشافعية، وإنما شرح أمهات كتب المذهب الشافعي: "منهاج الطالبين للنووي" و "التنبيه للشيرازي".

مؤلفاته:

بلغ عددها 25 أهمها: في الفقه والتاريخ والتفسير والطبقات: "طبقات الشافعية" و "طبقات اللغويين والنحاة" و "طبقات الحنفية"، "الذيل على تاريخ ابن كثير"، "المنتقى في الأنساب لابن السمعاني" و " المنتقى من نخبة الدهر في عجائب البر والبحر"، و "المنتقى من تاريخ ابن عساكر"، وغير ذلك من المؤلفات الهامة.

استمر في طلب العلم ولقاء علماء عصره حتى طارت شهرته في بلاد الشام، وأصبح إماماً علّامة في الفقه والتاريخ وغيرهما، وتصدّى للإفتاء والتدريس، وحدّث في بلده دمشق وبيت المقدس، وسمع منه الفضلاء من أهل العلم، فانتفع به خلق وعباد كثر، وجاء إليه طلاب العلم من كل حدب وصوب، وشهد له علماء عصره في البلاد، فانطبق عليه حديث المصطفى: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به، أو صدقة جارية).

وفاته:

أطال في شرح وفاته السخاوي لعظة تحتاج منا التأمل، يروي عن ولده بدر الدين، حيث قال: (كان والدي يُدرّس فذكر الخلاف في موت الفجأة، ثم قال: و أنا أختاره لمن هو على بصيرة لأن أقلّ ما فيه أمنُ الفتنة عند الموت، ثم ركب على بغلته عائداً للبيت فقال لولده: و الله يا بني ما بقي فينا شيء)...

ثم توجه للناصرية فدرّس بها وجوه الكلام في فضل الموت من يوم الجمعة و ليلتها، ثم سأل الله الوفاة في ذلك فأجابه الله.. لما كان في اليوم التالي بعد عصر الخميس _ليلة الجمعة_ جالساً يُحدّث ولده والقلم بيده وهو يكتب، وضعه في الدواة واستند إلى المخدة و التوى رأسه فقام ولده يلتمسه فوجده قد مات، و قال: (و الله ما أعلم أنه حصل له ألم الموت).

وهكذا فقد توفي يوم الخميس بعد العصر، 851هجري، وطار الخبر في العالم فحضر جنازته أعيانُ وعلماءُ وقضاةُ وصلحاءُ البلد وعامةُ الناس، لا يحصى عددهم، ودُفن في مقبرة الباب الصغير مع والده وجده وعمه ثم ولديه من بعده، بالقرب من تربة سيدنا بلال الحبشي رضي الله عنهم ورحمهم جميعاً، وجزاهم عنا خير جزاء ...

انتهت رحلتنا هذه التي سافرنا بها بين الحروف والسطور في زمن ما من الماضي لنتزود من المعرفة التاريخية لعقولنا ولأرواحنا نسمات إيمانية تنبعث من سير الصالحين ففي قراءة سيرهم فائدة تقوي وتشحن الهمم للأفضل وأثناء ذلك تستيقظ الفطرة السليمة التي فطرنا الله عليها لتنبعث من جديد مطلقة نداء خفي لذاك الإنسان المستخلف عن الله ولكنه تاه في ظلمة النفس والهوى ووساوس الشيطان، فيا رب إنا نعوذ بك من ضعف الصبر على الطاعة و الاستقامة و فراغ النفس و ضياع الأمل في الفوز برضاك .

المصادر و المراجع :

الضوء اللامع لأهل القرن التاسع/ للسخاوي

شذرات الذهب في أخبار من ذهب/ لابن العماد

الدارس في تاريخ المدارس/ للنعيمي

الأعلام/ للزركلي

معجم البلدان/ للحموي

معجم المؤلفين/ لعمر كحالة

تحميل