مميز
EN عربي
الكاتب: العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
التاريخ: 15/01/2017

ذكر الله ذلك الجانب المنسي في حياة أكثر المسلمين اليوم

مقالات

ذكر الله ذلك الجانب المنسي في حياة أكثر المسلمين اليوم


محاضرة للإمام الشهيد البوطي أمام الملك الحسن ملك المغرب في أحد الدروس الحسينية


ما رأيته وقفت على آية يواسي فيها الله عز وجل رسوله أمام شدة انتابته، إلا ويدعوه فيها إلى علاج من ذكر الله تعالى. ألم يقل فيما تنزل عليه: {فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39]

ألم يقل {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ﴿24﴾ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان:24-25]. 


 وما رأيته يتحدث عن جيش من الأعداء، يحدقون بالمسلمين ويبحث المسلمون عن علاج آنذاك يحررهم من ذلك البغي والعدوان إلا ويضع كتاب الله تعالى ذكره عز وجل في مقدمة هذه العلاجات كلها.


ألم يقل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45].


ثم إننا نقرأ ما يشبه الدستور التام الجامع لهذه الحقيقة الكونية الكبرى في الآية التي هي منطلق درسنا هذا، وهي قول الله عز وجل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205].


هذا إلى جانب ما ألاحظ، من إعراض كثير من المسلمين عن هذه الضرورة الكبرى التي يوصي بها الله تعالى عباده، صباح مساء.


فهذا ما حملني على معالجة هذا الموضوع وبيانه وتحليله، لعلنا نتنبه بذلك إلى الضرورة التي أمرنا الله أن نتنبه إليها.


ولكني أقول أيضاً: أليس في القناعة العقلية بما تنزل من عند الله عز وجل من حقائق الإيمان، ما يغني عن الذكر والمداومة عليه؟ أليس في العقيدة التي مركزها العقل ما يجعل العقل خير هاد للإنسان إلى صراط الله عز وجل؟.. وهل بعد ذلك من ضرورة تدعو إلى وضع كر الله عز وجل في هذه المرتبة الفريدة العليا؟


غير أني عرفت الجواب عن هذه الأسئلة، من خلال القاعدة العلمية التي ما زال علماء النفس والتربية يرددونها، وهي أن انقياد الإنسان لعواطفه الإنسانية، أشد وأقوى من انقياده لقراراته وقناعاته العقلية.


فكلما قام تناقض بين يقين عقلي اصطبغ به الفكر، وهوى من أهواء النفس يصبو إليه الوجدان، فإن الغلبة، في الغالب، إنما تكون لهوى النفس.. تلك الحقيقة كانت ولا تزال علمية ومدروسة.


ومن هنا كانت الحاجة على التربية، إذ التربية مهما تطورت وتنوعت، ومهما اختلفت سبلها وفنونها، فإنما هي على كل حال عبارة عن السعي إلى تطويع العاطفة لقرار العقل.


ولولا أن العاطفة هي تهتاج بصاحبها دائماً، وتدعوه إلى أن يقفز فوق قناعاته العقلية، لما كانت ثمة حاجة إلى التربية قط.


وهنا قد يتساءل الإنسان: فإذا وقف أحدنا أمام مفترق طرق بين يقين عقلي يدعوه إلى اتباع صراط الله عز وجل، وبين أهواء وعواطف وشهوات جامحة تجمح بكيانه، ورأى أن الغلبة إنما هي لهذه العواطف والأهواء، إلى من الملاذ؟ وكيف السبيل إلى أن يتحرر من عواطفه وأهوائه، لينقاد إلى قرار عقله؟


الملاذ هو ذكر الله عز وجل!..


عندما تتنوع التربية عند علماء التربية، ويتفننون في بيان السبل إليها، فإن السبيل إلى أن ينقاد الإنسان ليقينه العقلي ولقراره الاعتقادي متحرراً من شهواته وأهوائه، إنما هو المداومة على ذكر الله عز وجل.


وأنا لا أعني بذكر الله تعالى يرددها اللسان، وإن كان ذلك يسمى ذكراً ويثاب الإنسان عليه. بل إننا لنعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال لسابك رطباً بذكر الله).


ولكن تحريك اللسان بالذكر، إنما هو سبيل إلى غاية، والغاية يقظة العقل والقلب وتوجه كل منهما إلى التأمل في عظمة الله عز وجل، وامتلاء الوجدان بصفات الربوبية في ذاته عز وجل.


ومن ثم يقول الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205] ثم يؤكد هذا المعنى ثانية فيقول: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}.


فهذا هو الدواء الذي لا دواء من بعده ولا من قبله.. هو الدواء الذي يحرر الإنسان من رق أهوائه، ويجعله منقاداً لقناعاته العقلية ولإيمانه الفكري.


وأنا أستأذنكم يا مولاي أن أزيد هذه المسألة إيضاحاً وتحقيقاً إن أمكن..


نحن نعلم أن الإنسان، كما قال العلماء قديماً، ثلاثي التركيب. أي إنه مركب من هذا القفص الجسدي الذي لا قيمة له في الحقيقة، ثم إنه مركب أيضاً من جلمة غرائز أرضية حيوانية تهتاج به، وتدفعه8 إلى كثير من الشهوات والأهواء، ولذلك حكمة ووظيفة لا مجال لشرحها هنا. ثم إنه مركب من عنصر ثالث، هو هذه الروح التي هي سر من أسرار الله عز وجل. هذا السر الذ إذا أشرق على الدماغ تكون منه الفكر والوعي، وإذا أشرق على عضلة القلب تكونت منه العاطفة والوجدانيات الدافعة والرادعة والممجدة. أي عاطفة الحب، والتعظيم والخوف. وإذا أشرقت أو انعكست هذه الروح على الخلايا تكون من ذلك الشعور والإحساس.


وهكذا فإن مصدر الوعي في الدماغ والعواطف في القلب والإحساس الساري في كل انحاء الجسد، واحد، ألا وهو الروح.


هذه الروح هابطة من الملأ الأعلى، وليست خارجة من الأرض ولا من تراب الأرض..


ثم إن هذه الروح تظل في حنين دائم إلى العالم العلوي الذي أهبطت منه. أجل.. ألم يقل الله عز وجل خطاباً للملائكة عن سيدنا آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29] إنها روح منسوبة إلى الله، نسبة تشريف وتكريم. نسبة تجعل الإنسان في يأس من أن يعلم كنهها وحقيقتها.


إذن فهذه الروح  تظل في حنين إلى خالقها.. في شوق دائم إلى بارئها أياً كان الجسد الذي تقبع فيه هذه الروح.


وهذا معنى من معاني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، ثم عن الشياطين فاجتالتهم)). أتتهم وهذا معنى قول الله عز وجل {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].


ولكن لماذا لا نشعر بشوقها هذا إلى العالم الذي أهبطت منه؟ لماذا، ونحن نتأمل جيداً، لا نشعر بحنينها هذا؟


السبب في ذلك أن هذه الروح محاطة بعالم يضج بمظاهر الأهواء، وبوارق الشهوات التي تستثير الغرائز التي قلنا إنها تشكل العنصر الثاني من العناصر الثلاثة التي يتألف منها الإنسان.


فإذا تصدعت مشاعر الروح حنيناً صافياً إلى عالمها العلوي الذي تنتسب إليه، تصيدتها مشاعر الأهواء والشهوات التي تلهبها الغرائز، وصادرتها لحسابها، وترجمت حنينها العلوي لمشاعرها الغريزية.


وعلى سبيل المثال نقول: الإنسان نزاع إلى حب الجمال، وهذا في أصله شعور روحاني تتجه به الروح إلى الملأ الأعلى، حيث معين الجمال كله، وحيث الجميل الأوحد، وهو الله عز وجل.. ولكن هذا الشعور العلوي ما يلبث أن يصطدم بمشاعر الغريزية المتجهة إلى بوارق الشهوات والأهواء الأرضية، ثم لا يلبث هذا الشعور العالي أن يترجم لمصلحة المشاعر الغريزية ويتحول إلى تعبير عنها.


ويقف الإنسان مغلوباً على أمره أمام هذا الصراع الذي تتغلب فيه مشاعر الغرائز والأهواء الأرضية والحيوانية. فيقف مفتوناً أمام الصور والأشكال والمظاهر، دون ان يتمكن من مواصلة طريقه إلى الملأ الأعلى الذي تتجه الروح إليه.


وعلى سبيل المثال أيضاً: هذه الروح نزاعة إلى حب واحد، لا ثاني له، حب بارئها.. حب خالقها.. حب مصورها.. ولكن هذا الحب إذا يتعالى من أعمق أعماق القلب، يصطدم بالشهوات والأهواء والغرائز، فتصادر هذه الغرائز حب الروح، لحسابها.. وتتجه بها إلى الصور والأشكال والرغائب النفسية.


وهكذا يعيش أحدنا، وهو يتصور أن حبه موزع بين الصور والأشكال الأرضية، وأن تأثره موزع بين هذه الدنيا وشهواتها وأهوائها. والحقيقة ليست كذلك.


فما هو الدواء الذي يحرر الروح من أسر هذه الشهوات والأهواء؟ ما هو الدواء الذي إن استعملناه أدركناه حنين هذه الروح وعرفنا إلى من تهفو وتتشوق، وتفاعلت مشاعرنا مع أرواحنا هذه.


لا دواء لذلك أبداً إلا مراقبة الله عز وجل. لا دواء لذلك إلا العكوف على ذكر الله عز وجل. أي تذكره سبحانه وتعالى. لا دواء لذلك سوى أن أربط بين المخلوقات وخالقها، فأنظر إلى ما أبدع الله عز وجل، ولكن على أن أنظر إليها من خلال صفات الخالق، من خلال صفات المبدع عز وجل.


كيف السبيل إلى ذلك؟


السبيل إلى ذلك، فالدوام والاستمرار على ذكر الله عز وجل، كما أمر الله سبحانه وتعالى، وهذا المعنى الذي أقول، إنما صدر عنه العلماء من خلال قرار علمي، قبل أن يصدروا عنه من خلال التصور الديني. ولعل القصيدة المشهورة لأبي علي بن سينا، جاءت تعبيراً عن هذا الكلام، وهي التي يقول في مطلعها عن الروح:


 


هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ * وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّـــعِ


مَحْجُوبَةٌ عَنْ كُلِّ مُقْلَةِ عَارِفٍ * وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَـعِ


وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبَّمَا * كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفَجُّعِ


أَنِفَتْ وَمَا أَلِفَتْ فَلَمَّا وَاصَلَتْ * أَنِسَتْ مُجَاوَرَةَ الخَرَابِ البَلْقَـعِ


تَبْكِي إِذَا ذَكَرَتْ عُهُودًا بِالْحِمَى * بِمَدَامِعٍ تَهْمِي وَلَمَّا تُقْلِــعِ


حتى إِذَا قَرُبَ الرُجُوعُ إلى الحِمَى * ودَنَا الرَحِيلُ إِلَى الفَضَاءِ الأَوسَعِ


أَخَذَت تُغَردُ فَوقَ ذُروَةِ شَاهِقٍ * والعِلمُ يرفَعُ كُلَ  مَن لمَ يرفع


هذه حقيقة ذكرها العلماء من خلال منظور علمي، قبل أن يتبونها من خلال نقول دينية. وإنما يسجد العلم في هذا لحقائق الدين.


فإذا أدركنا هذه الحقيقة، فإن بوسعنا أن نعلم أن الإنسان إذا أسلم نفسه لإيمانه العقلاني بالله عز وجل، وانقاد لهذا الإيمان العقلي المجرد، فهيهات أن يصل من خلال ذلك وحده إلى الله عز وجل.


إن تضاريس الشهوات والأهواء، تقف له على الطريق. إذ أن الغرائز المجنحة عن يمين صراط الله وشماله، عندما تتجاذبه، لا بد أن يأوي منها إلى ركن ركين عن طريق استعمال هذا الدواء .. وهو الديمومة المستمرة على ذكر الله عز وجل.


هذا الدواء هو الذي يحرر الروح من هزاتها، هذا الدواء هو الذي يحرر الروح من أسر الشهوات والأهواء التي تحيط بها .. ولسوف تقوى ثم تقوى، وتشتد، إلى أن تهيمن على الغرائز وجموحاتها.


ولس المطلوب هنا، يا سيدي، أن يتحول الإنسان من خلال سمو روحه إلى ملك معصوم عن طريق الذكر، فالبشر من الناس لا بد أن يبقى بشراً وإنسانية الإنسان لن تنفك عنه بل إن مزية الإنسان على الملائكة، إنما تكمن في هذه الخصيصة.


لكن الذي يتم، بعد أن نتعهد الروح بهذا الغذاء العلوي باستمرار، أن صلحاً يتحقق بين الروح والغرائز الحيوانية، وأن تنسيقاً يتم بينهما.. ويكون الحلم، على كل حال، للروح الموصولة النسب بالله عز وجل.


فهذا الإنسان يظل يعيش لرزقه ولطعامه ولشرابه كما كان، ويظل يبحث عما يشبع رغباته وشهواته وأهوائه.. ولكنه يتحرك تحت مظلة حكم الله عز وجل، بقيادة من هذه الروح الموصولة به سبحانه وتعالى.


كيف لا، وهو يقرأ قول الله عز وجل: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) {هود:61} ويقرأ قول الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) {الملك:15}


ولكن شتان بين من يتجه إلى هذه الحياة ليعمرها بدافع من التعلق بها والحب لها، وبين من يتجه إلى هذا العمل ذاته بدافع من عمل وظيفي أقامه الله عليه.


هذا هو فرق ما بين العبد المؤمن حقاً، وهو الذي يتوج إيمانه بذكر الله سبحانه وتعالى، وبين الإنسان التائه أو الشارد عن صراط الله عز وجل.


وأحب هنا ان أوضح حقيقة لعلها تجسد واقعاً له جانب سلبي، وله جانب إيجابي، وأسأله سبحانه وتعالى أن يحررنا من أحوالنا السلبية كلها: عندما نراجع يقيننا الإيماني، نجد أنا مؤمنون بالمعاد، وبمصير الإنسان بعد الموت، وعندما نرجع إلى كتاب الله الذي آمنا بأنه كلامه، نلاحظ بأن الله قد ضمن لنا معاشنا الدنيوي، لكنه طلب منا أن نبني لأنفسنا معادنا الأخروي .. كل هذا نراه مثبتاً في كتاب الله عز وجل، ثم نراه منعكساً إلى إيمان وعقيدة في عقولنا.


ومع ذلك فإنا نعود إلى واقعنا وسلوكنا العملي على الأرض، فنجد أننا نعيش –ويا للأسف- في قلق دائم تجاه ما قد ضمنه الله لنا، ونعيش في طمأنينة تامة تجاه ما قد أمرنا الله بالحذر منه.


أليس هذا التشاكس بين وقعنا، ومبادئ العقيدة المرتكزة في عقولنا، تشاكساً خطيراً يدعو إلى علاج؟


ولكن فلنتساءل أولاً: ما مصدر هذا التشاكس؟


مصدره أننا بعيدون عن ذكر الله عز وجل.. غرسنا الإيمان يقيناً في عقولنا، ثم لم نحوله عاطفة إلى قلوبنا!..


وسبيل تحويل الإيمان من اليقين العقلي إلى الوجدان القلبي. طريق من ذكر الله عز وجل. وأعود فأقول: أي أن يكون القلب يقظاً إلى مراقبة الله.


وإننا لنلاحظ يا مولاي كيف أن القرآن يجعل للذكر ثمرتين قد تبدوان متناقضين. يقول مرة:


(الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) {الرعد:28} ويقول أنا آخر: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) {الأنفال:28}.


كيف هذا.. كيف يكون الذكر آناً يبعث الطمأنينة الراضية في القلب، ويبعث في الوقت ذاته نقيضه، وهو الوجل والاضطراب؟


ليس في الأمر تناقض أو اختلاف قط!


ذلك لأن معنى بيان الله عز وجل في الآية الأولى أن الإكثار من ذكر الله تعالى يجعل الإنسان مطمئناً بالنسبة لحياته الدنيوية التي يعيشها، لا يقلق فيها من أجل رزق، على الرغم من أنه يسعى للحصول عليه.. لا يقلق من أجل ضمانة معاشه الدنيوي، على الرغم من أنه مكلف بالسعي إليه.. لا يقلق لشيء من ذلك، لأن ذكر الله عز وجل زاده ثقة بالله في كيانه، ألم يقل الله عز وجل: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) {طه:132} ألم يقل أيضاً: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) {النحل:97}.


كان هذا الكلام يمر بالذهن، دون أن يقف صاحبه عنده بطمأنينة وثقة.. فلما أكثر من ذكر الله، تنامت الثقة والطمأنينة بكلامه هذا بين الجوانح، ومن ثم أصبح يعيش هذا الإنسان في طمأنينة تجاه معيشته مهما رأى معكرات الحياة ومخاوفها من حوله.


لكن هذا الذكر ذاته يفجر بين جوانحه قلقاً من نوع آخر.. إنه يفجر بين جوانحه القلق من المآل.. الخوف من العاقبة التي هو آيل إليها.


ذلك لأنه يعيش مع قول الله عز وجل: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) {المؤمنون:60} ومن المعلوم أن هؤلاء الذين يتحدث عنهم بيان الله عز وجل، إنما هم الذين يقدمون ما يقدمونه من الطاعات والمبرات، ولكنهم مع ذلك في قلق دائم. لعل شائبة من شوائب الرياء أو الأهواء قد تسربت إلى عمل أحدهم.. لعل سوءاً بدر منه، فأطار قيمة كل الصالحات التي وفقه الله إليها.


وهكذا فإن ذكر الله تعالى يحقق نتيجتين قد تبدوان ولكنهما متكاملتين في الحقيقة، والإنسان المؤمن لا يمكن ان يكون عضواً في هذا المجتمع الإنساني المسلم، إلا إن صار مطمئناً إلى وعد الله بما قد ضمنه له في حياته الدنيا هذه، ثم سار خائفاً قلقاً بالنسبة للمآل الذي ينتظره.


وكل هذا لا يتحقق إلا من خلال ذكر الله تعالى، ومع ذلك فالمشكلة التي تشغل البال، لا تكمن في هذا الجانب فقط، إنما الذي يشغل بالي، يا سيدي، والذي دعاني إلى طرح هذا العلاج أملاً في أن نستعمله فنتخلص بذلك من كثير من المشكلات، أننا ونحن ننشط للنهوض بكثير من الأعمال الإسلامية (وأنا لا أتحدث عن الجانحين، ولا عن الشاردين، الذين أسأل الله لنا ولهم الهداية، بل أتحدث عن الناس الذين ينشطون في الأعمال الإسلامية وينهضون بما يرونه دعوة إلى الله وسعياً إلى إحياء شرع الله وجمع الناس على صراطه) فلا أرى إلا صراعاً وتطاحناً عجيبين، يظهران للملأ كله على هذا الطريق، وبين من؟ .. بين فئات كان ينبغي أن تكون فئة واحدة، وأن تكون مضرب المثال في التضامن، وفي الوحدة والتآلف، نلاحظ أن مظاهر من التشاكس تتنامى بين هذه الفئات، وننظر لنتبين أن الجهود كثيرة وأن الأعمال وفيرة، لكننا نبحث عن الثمار، فلا نكاد نعثر على شيء، بل أكاد أقول: إننا نجد أنفسنا أمام ذلك المثل العربي القائل: (أسمع جعجعة ولا أرى طحناً).


تلك هي مشكلتنا الكبرى، التي نشعر نحن جميعاً بها!..


ترى ما سببها؟ وإلى م مردها؟ مردها إلى طريقة نظرنا إلى الإسلام، وهو أشبه ما يكون بشجرة عظيمة الجذع. كثيرة الأغصان، نظرنا إلى هذه الشجرة المباركة وأقبلنا إليها، فتعاملنا منه مع أغصانها الفوقية فقط، ضعنا بين أغصانها المفرقة، دون أن نلتفت إلى الجذع الجامع لها فنتخذ منه أساساً جامعاً لأشتاتنا!..


إننا نتعامل من حقيقة الإسلام وجوهره، مع أنظمته الفوقية فحسب.. نحن نفهم، أو نأخذ من الإسلام، أو نخدم من الإسلام، مجموعة ما يبدو لنا من أحكامه الفوقية، من حيث هو مجموعة نظام تقارع الأنظمة الأخرى!.. من حيث إنه مبادئ سلوكية نقارنه بمبادئ سلوكية أخرى!..


والإسلام فيها هذا كله ولا ريب.. ولكن هذه الأحكام والأنظمة كلها مرتبطة بجذع، متصلة بأساس. فإن أردنا أن نخدم الأحكام أو الأغصان التي شبهناها بها، فالخدمة يجب أن تبدأ برعاية التربة.. ثم برعاية الجذع الراسخ فيها.. نرعى التربة بالتنظيف والحماية، ونرعى الجذع بالسقاية والتعهد.. وإذا الأغصان نامية مخضرة مزدهرة، وإذ هي بعد حين مثقلة بالثمار.. إن نسبتنا عندئذ تكون إلى الجذع الواحد والموحد قبل نسبتنا إلى الأغصان المتفرقة.. إن انتماءنا إلى الأغصان لن تفرقنا عندئذ في متاهاتها، بل ستزيدنا اتحاداً وتضامناً بفضل انطلاقتنا من التربة فالجذع ثم الأغصان.


المشكلة التي نعاني منها، أننا اتجهنا رأساً إلى الأغصان، ولم نتوجه إلى الأغصان من خلال تربية النفس، لم نتجه إلى الأغصان من خلال تعهد غراس العبودية لله في طوايا الفؤاد.


ولا والله، لا سبيل إلى تربية النفس وتزكيتها، ولا إلى صبغ الكيان بصبغة العبودية لله، إلا أن يتخذ المسلم لنفسه وظيفة دائمة من ذكر الله عز وجل.


فلو أننا بدأنا رحلتنا المباركة هذه، سعياً إلى خدمة الإسلام، واتجاهاً للدعوة إلى الله عز وجل، بتهذيب النفوس والقلوب، وتزكية الضمائر، وكان غذاؤنا دائماً على هذا الطريق الإكثار من ذكر الله عز وجل، كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما كان شأنه ودأبه، إذن لرأينا أن الإخلاص بيد كل هذه الأوقات التي نراها، على سطح كثير من الحركات والأنشطة الإسلامية المباركة.


لن يقع حينئذ تنافس.. لن يقع انشقاق.. لن يقع اختلاف.


وفيهم يقع الاختلاف؟ وهل وحد الناس بالأمس إلا إسلامهم؟!. أفيكون الإسلام الذي وحد الناس من قبل، هو الإسلام ذاته الذي يفرق الناس اليوم، لا والله.


لو أننا بدأنا أو اتخذنا لأنفسنا غذاء، ونحن نسير في رحلتنا المباركة سعياً إلى إقامة مجتمع إسلامي، كما نقول ونردد، أقول: لو أننا اتخذنا لأنفسنا غذاء من ذكر الله عز وجل صباح مساء، لأشرقت حنايا قلوبنا بحب عظيم لله عز وجل، تحترق كل أنواع المحبة الزائفة في ضرامه.


ولو رأينا أنفسنا مشدودين إلى واحد لا ثاني له م الأهداف، ألا وهو البحث عن رضا الله عز وجل، لتساقط كل الحواجز وسائر الفوارق التي تتكاثف اليوم فيما بيننا.


قد نعيش في اختلافات، لكنها ستكون اختلافات تعاونية، لا اختلافات تبعث، كما هي الحال الآن، على الشقاق.


لقد بحثت، يا سيدي، طويلاً عن أي طريق آخر، يجعل هذه الأنشطة الإسلامية، على صعيد عالمنا العربي والإسلامي ، مكلوءةً بعناية الله، بحثت عن حصن ما، بقي هذه الأنشطة من العثرات، فلم أجد غير حصن الإكثار من ذكر الله عز وجل.


وأظن أنني لست مبالغاً إن قلت: إن كثيراً من المسلمين، آل بهم الأمر إلى أن يتصوروا أن ذكر الله عز وجل مهمة ينبغي أن ينصرف إليها العامة من الناس، أو أن ينصرف إليها أولئك الذين لا يشغلهم شيء من أعباء الدعوة إلى الله .


ولا ريب أن هذا تصور خاطئ وخطير للغاية.


بل إنني أنا الذي قضى الله عز وجل أن أتجه إلى طريق الدعوة إلى الله، أنا وأمثالي، أحوج ما نكون إلى ذكره عز وجل أكثر من أي فئة أخرى من الناس.


 


 


 

تحميل