مميز
EN عربي
الكاتب: العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
التاريخ: 24/07/2016

استغلال الدين في الصراعات السياسية

مقالات

استغلال الدين في الصراعات السياسية

الإمام الشهيد البوطي

أحمد الله وأصلي وأسلم على نبيه المصطفى وعلى رسله وأنبيائه أجمعين وبعد:

تأملت، فلم أجد فرقاً في المضمون بين كلمتي (الأسلوب) و(السياسة) .. كلاهما يعني اتباع طريقة ما في الوصول إلى غاية، وربما ازدادت كلمة (السياسة) خصوصية اليوم بأنها غدت علماً يُدرس، وبأنها كثيراً ما تعني، لا سيما في المصطلح الغربي، فن المكر والتحايل على الآخرين. فكلمة Politicأو Politician لا تعني السياسة بمعناها العام فقط، بل تعني أيضاً الرجل الماكر والسياسي النفعي.

من هذا المنظور ينبغي أن نتبين موقف الدين (من حيث هو دين) من السياسة، وموقف السياسة من الدين.

ولكن فما هو المنظور الجامع والشامل أولاً لكلمة: الدين؟

إنه يعني _ بكلمة جامعة _ الخضوع المطلق للمالك المطلق. ولا شك أن الخضوع المطلق هو العبادة، وأن المالك المطلق هو الله، وهذا في يقيني تعريف جامع لكلا الدينين: الإسلام والمسيحية.

إذن فالدين ممارسة سلوكية واعتقادية لما تقتضيه هوية الإنسان، من حيث كونه عبداً لله عز وجل، وبتعبير آخر هو أن يمارس الإنسان عبوديته لله بالسلوك الاختياري كما قد خلق عبداً له بالواقع الاضطراري. ولئن كان الدين تحت سلطان هذه الحقيقة واحداً، فإن الاجتهادات (بقطع النظر عن مدى مبرراتها) هي التي حولته إلى أديان متعددة .. المهم أن الدين في حياة الإنسان مطلب غائي وحقيقة مستقرة ثابتة، وليس نهجاً إلى غاية ولا أسلوباً أو سياسة لبلوغ مقصد.

أما السياسة، فقد غدت اليوم تحت سلطان الاستعمار الاقتصادي والثقافي والحضاري الجديد، فناً من المكر وأساليب الاستدراج فالإيقاع .. يستعمل أداة لهيمنة الأقلية القوية الطامعة على الأكثرية الضعيفة المطموع فيها .. وما شعار النظام العالمي الجديد الذي تلاه شعار العولمة، إلا ترجمة لهذا الواقع المرير!..

وللمكر السياسي الذي يجند اليوم، ابتغاء الوصول إلى هذه الغاية، أساليب شتى ولكنها تكاد تتلاقى على نهج عريض واحد، هو سياسة التجزئة، وتفكيك القوى، وتأليب الفئات من المجتمع الواحد، بعضها على بعض. ولا شك أن اختلاق الحساسيات الطائفية وإحياء الخلافات العرقية، واستثارة الرؤى المذهبية، أغلى أداة وأخطر سلاح لذلك. ولنصغ إلى شهادة باحث يهودي غربي عن سياسة التجزئة هذه.

يقول برنارد لويس في كتابه الذي سماه (The Middle East And West) (الواقع أن إلحاق المنطقة بالغرب، لم يكن ممكناً إلا عن طريق تفكيكها وتجزئتها. ولو أعطيت لأي سياسي في العالم مسألة يسألونه فيها أن سعى إلى إلحاق المنطقة العربية بالغرب، لما اختار غير الأسلوب الذي اختاره الغرب فعلاً. وهو تفكيك المنطقة بالفتن الطائفية، والتفتيت الاجتماعي والثقافي، وافتعال الفروقات والخصومات، وتوسيع مواطن الاختلاف، والمبالغة في إبرازها. وليس من شك أن من يسعى إلى هذا، يحزنه مشهد السلام بين الطوائف، ويسعده اندلاع التقاتل بينها. ولعل من يستبعد دور الغرب في إشعال فتيل هذا التهارج، واحداً من اثنين: خادع أو مخدوع).

ونحن لا نستبعد أن يكون حديث هذا الباحث البريطاني اليهودي في تحبيبه السلام إلينا وتحذيره من التقاتل الذي ينفخ الغرب في أواره، ترويجاً للسلام على الطريقة التي تنادي اليوم بها إسرائيل، غير أن المصغي الحصيف من أفراد أمتنا هذه، ينبغي أن يقتطف الشهادة التي هي جوهر الحديث ولبه، وأن يضرب صفحاً عن السياق الذي يرمي إليه الباحث.

إذا تبين هذا، فإن الشأن في الدين الذي هو مطلب وغاية كما علمنا، أن يتعالى فوق السياسة التي هي أداة ومنهج، أي إن منطق الواقع يقتضي أن تدور السياسة بالخدمة على محور الدين، لا أن يدور الدين بالخدمة على مكر السياسة وأحابيلها.

ثم إن من المفروض أن يكون الدين، عندما يصدق أصحابه في اتباعه ولا يكون مجرد انتماء تقليدي، أقوى أداة تجمع الشمل، تمد نسيج الألفة والتعاون، وتقهر أسباب استثارة الفرقة والخصام.

ولن يوهن تعدد الدين (عندما يتوفر الصدق في اعتناقه) شيئاً من سلطان الجامع، ولن يقضي على شيء من أسراره التي تبعث على صدق التآلف والتعاون .. إذ إن من شأن الجذع الواحد الجامع فيه أن يتغلب على الخلاف في نقاطه ومسائله التفصيلية.

ولقد كان من المفروض أن يؤدي الدين في نفوس الصادقين من أهل هذا الدور الفعال، في التغلب على سياسة التجزئة والتفتيت ووسائل استهلاك القوى، وأن يكون لأهله من المنفعة، واجتماع الشمل أمام محاولات التغريب اليوم، مثل الذين كان لأسلافهم في البلاد الشامية أمام غزو الصليبين بالأمس .. أقول: كان من المفروض أن يتحقق هذا، لولا توجه كثير ممن يسمون اليوم بالإسلاميين إلى تسييس الإسلام، ولولا توجه كثير من المسيحيين إلى الاستجابة لسياسية التغريب.

ودعوني أوضح أولاً ما أعنيه بتسييس الإسلام، كي لا يلتبس ما أعنيه (وأنا أنكره) بنقيضه الذي أؤمن به وأبصّر به وأدعو إليه.

مما لا شك فيه أن أحكام الشريعة الإسلامية شاملة لما يسمى بالنظم الدستورية، ولعلاقة الأمة بالسلطة الحاكمة، وعلاقة الدولة الإسلامية بالآخرين في كل من حالتي السلم والحرب. فالإسلام إذن، فيما ينطق به نظامه، دين ودولة. وكتب الأحكام السلطانية (حسب التعبير القديم) تفيض ببيان ذلك مفصلاً.

غير أن هذا يتجلى عندما يتاح للإسلام أن يبسط سلطانه وينفذ أحكامه. أما في مرحلة الدعوة إليه واتخاذ السبل إلى فهمه والاقتناع به بين يدي تطبيق نظامه على المجتمعات الإسلامية، وهي المرحلة التي يتحرك فيها الإسلاميون أو الجماعات الإسلامية، فإن الضمانة الأولى لنجاح هذا السعي إنما تتمثل في السمو بأعمال الدعوة الإسلامية عن المنعرجات السياسية الكامنة في الطريق، وفي التعالي عن الطموحات السياسية المتمثلة في السعي إلى القبض على أزمة الحكم .. وهذا ما لم يقتنع به إلى اليوم كثير من المسلمين مع الأسف..! ومن ثم فإن مصطلح الدعوة الإسلامية في أنشطتهم إنما يعني النهوض بالتحركات السياسية الرامية إلى بلوغ كراسي الحكم. وهذا ما أعنيه بتسييس الإسلام. ولعل التعبير الأدق؛ تسييس الدعوة الإسلامية.

إنهما آفتان خطيرتان تكمنان في هذا النهج.

الآفة الأولى: تتمثل في أن التوجه السياسي إلى سدة الحكم، تستدعي بالضرورة انجذاب أصحاب هذا التوجه إلى محور من المحاور السياسية، ولا بد أن يؤدي ذلك إلى حتمية معاداة أو مخاصمة المحاور الأخرى. ونظراً إلى ما هو معروف من أن المذاهب السياسية في المنطقة معرضة لقوى أجنبية يمكن أن تتسرب إليها خفية فتهيمن عليها وتحركها لحسابها، وإن لم تستطع أن تهيمن عليها، فما أيسر لهذا القوى الأجنبية أن تحيل خلافات تلك المذاهب إلى صراع وشقاق، وما أيسر أن تستثمر هذا الشقاق لتفتح منه نافذة تتسرب منه إلى اقتناص ما يطيب لها أن تقتنصه من حقوقنا وثرواتنا .. أقول: نظراً إلى هذا الذي هو معروف، فإن القوى الإسلامية الداخلة في هذا الصراع لا بد أن تتحول داخل هذه الدائرة إلى ما يشبه قطعة من جهاز، لا تملك أي حركة إرادية ذات قيمة، وإنما تتحرك آلياً بحركة المجموعة كلها. والواقع المشاهد أبين شاهد على ذلك.

والآفة الثانية: أن هذا التوجه السياسي لا بدَّ أن يبعثر العاملين في الحقل الإسلامي على جماعات شتى تباعد ما بينها المنعرجات السياسية المتنوعة بل المتناقضة. وكما في الناس اليوم من ينظر فيتعجب من أن يكون الإسلام الذي جمع شتات العرب بالأمس، ثم ضفر المجتمع الإسلامي بمسلميه ومسيحييه في ظل من الألفة العميقة والتعاون الجاد، قد تحول هو ذاته إلى سبب لتجزئته وتقطيع أوصاله!!..

غير أن المتأمل يدرك أن الإسلام هو هو، كان ولا يزال يحمل في داخله مقومات التوحيد وجمع الشمل، كان ولا يزال يحتضن المجتمع ويرعاه بكل طوائفه وفئاته، شهدت بذلك القرون المتطاولة والعصر الذهبي للحضارة الإسلامية .. ولكن الدخيل هو الذي تسرب ففرق .. ولم يكن لهذا الدخيل أن يتسرب لولا التسييس الذي صبغت به الدعوة الإسلامية، فتشرذم منهجها الواحد المعروف إلى سبل متفرقة شتى، تتبدى للناظر مذاهب في العمل الإسلامي، وهي في الحقيقة سبل سياسية.

ولقد فشلت الجهود الغربية الرامية إلى تصديع الإسلام الواحد إلى مذاهب إسلامية متناقضة، كما فشلت هذه الجهود الغربية في إحياء دفين الفرق الإسلامية التي سادت ثم بادت قبل أن ينطوي العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فاستعاض أرباب تلك الجهود عن ذلك بالدفع إلى تسييس حركات الدعوة الإسلامية، وبعبارة أدق: استعاضت عما عجزت عنه بالتوحيد إلى الإعراض عن أعمال الدعوة الإسلامية من التعريف به والتحبيب به وإزالة الشبهات التي قد تطوف به، والعمل على إحلال الأنشطة السياسية الإسلامية محلها.. ولما كانت أزمة السياسة التي تتحرك في الشرق الأوسط موصولة بشكل مباشر أو غير مباشر بصانعي المكر السياسي في الغرب، فقد غدت أنشطة هؤلاء الإسلاميين دافعة بسبب ذلك، في فلك الجاذبية الغربية، شاءوا أم أبوا.

وعندما نستعرض اليوم الرؤى الفكرية الإسلامية المتخاصمة، وأشكال الغلو الذي يبرأ منها الإسلام، ومذاهب التكفير وألوان التفنن فيها، والمواقف الكيدية اللا إسلامية، باسم الإسلام، من الكتابيين هنا وهناك، فلنعلم أن ذلك كله نتيجة لوقوع كثير من الأنشطة الإسلامية الحركية في فلك الجاذبية الغربية، وما كان لهذه الجاذبية أن تمتد فتطول حركة الإسلاميين وأنشطتهم لو لم ينزلوا عن علياء دعوتهم إلى الله إلى ساحة المعارك السياسية المعقدة.

بقي أن أقول كلمة موجزة عن المسيحيين الذين يحلو لهم الاستجابة لسياسة التغريب.

إنني أفترض أن هؤلاء المسيحيين مخلصون لمسيحيتهم معتزون بتدينهم، وفي هذه الحالة أقول:

لو كان الغرب، على مستوى الساسة والقادة، معنياً بالدين والإيمان بالله، إذن لقلت أن سياسة التغريب إذ يتجه إليها بعض المسيحيين لن تكون وبالاً على دينهم بل ربما تكون عوناً على مزيد من التمسك به والإخلاص له.

ولكن صانعي السياسة الغربية غير معنيين بالدين من حيث هو، بل إنهم ينهجون منهج التضحية بالدين أياً كان، ويتجهون إلى استغلال أكبر المؤسسات الدينية المسيحية في العالم، وإخضاعها لمصالحهم ورعوناتهم.

إن الغرب لا يعنيه أن يصطفي شطراً دون شطر في عالمنا العربي هذا، ذلك لأنه لا يريد أن يحمِّل نفسه تكاليف رعايته، وإنما يعنيه أن يضرب الشطرين واحداً منهما بالآخر، غير مبال بالطرف الخاسر أياً كان، ليفوز من خلال تطاحنهما بالمغانم.

ومن قرأ التقرير الخفي لصادر عام 1991 من مجلس الأمن القومي الأمريكي علم حقيقة ما أقول. ومن قرأ كتاب (من يحمي المسيحيين العرب) لفكتور سحاب وقف على مزيد من التفاصيل والبينات.

فلتتحصن هذه الأمة إذن بسياج الدين، ولتتخذ من نسيجه وقاية يحميها من أطماع أي دخيل. وإذا صدق الكل في إيمانهم بالله والتمسك بتعاليمه وهديه، فلن يضير وحدتها ولن يجرح ودادها الساري ما بين فئاتها، ولن يحول دون تعاونها، تعدد المذاهب الصاعدة بإخلاص إلى استرضاء الله، والمتجهة إلى المثول بصدق في ساحة العبودية له.

تحميل