مميز
EN عربي
الكاتب: ياسين بن عبيد من الجزائر
التاريخ: 26/11/2014

ماذا يبقى من الدكتور البوطي رحمه الله تعالى؟

مشاركات الزوار

ماذا يبقى من الدكتور البوطي رحمه الله تعالى؟
الكاتب: ياسين بن عبيد من الجزائر
ما الذي تغيّر بموت الدكتور البوطي؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي طرحُه، وقد مرّ على تصفية مَنْ أسميه بـ "آخر المحترمين"، ما مَرَّ من أحداثٍ تسارعتْ فشوّشتْ على كل رأيٍ حَصيفٍ، وتكاثفت فغطت على كل لافتٍ، وتعاظمت فأَرْبَتْ على كل مهمٍّ.
لا شك أن أشياءَ كثيرةً تغيرت، ولكنَّا نرجئها إلى حينٍ، لنستعرض الذي ثبتته وأكدت على حقيقته.
ثبّتت، أوّلاً، أن الإجهاز على بلدٍ محوريٍّ في سياسة رفض الوجود الإسرائيلي، إنما هو استراتيجية بعيدة في تاريخ التعاطي الغربي مع الشرق، تأسيسًا لشرقٍ جديدٍ لا تعلو فيه راية على إسرائيل؛ وثبّتت، ثانيا، أن الرايات المعارضة، بجميع شعاراتها، إن هي إلاَّ دمى تحركها القوى العميلة، خدمة لأهدافها وسعيا لبقائها بأخف الأضرار؛ وثبتت، ثالثا، أن الجناح المسلّح للإسلام السياسي أقلّ شأنا من صياغة مشروع للحكم باسم الإسلام يمكّنه من استعادة الخلافة واسترجاع ما سلّمه بنو الأحمر، آخر حكام الأندلس، للمسيحية المتهودة؛ وثبتت، رابعا، وهو حاصل ما تقدم، أن الأنظمة التي تتحسّس من بقاء الباقين في محور المقاومة ــ مثل سوريا ــ لا تجد من سبيل في الذهاب إلى غاياتها، بعد النيابة عن الغرب في ضرب تمثيليات المقاومة ــ غير استدراج من صنعتهم من "العلماء" لصياغة فتاوى على المقاس، تُسوِّغ ما لا يُسَوّغُ، وتستبيح ما لا يباح من أحكام الشرائع وحرمات العلماء ودماء العُزّل والأبرياء.
هذا هو الأمر الذي تغيّر به المعطى، وتحوّلت من تلقائه الموازين التي جاءت بمن يُفتي بذهاب أنظمة لأنها تزعج الغرب، ويفتي بإقامة أخرى لا مشروع لها إلا التمكين لمنظومات معادية، مرجعيتها الشرق الأوسط الجديد، ومخابرها بين واشنطن ولندن مرورا بباريس، ويفتي باستتباب غيرها ممن ليست في حقيقتها إلا قواعد خلفية وأمامية للصهيونية الجديدة.
كان الدكتور البوطي رحمة الله عليه على وعي بذلك، وكان خطابه، في عزّ قراءته للتكالب الكوني على بلده، ومن خلاله على كل الكيان السياسي الإسلامي، يحذر منه، ويلفت إلى الأخطار الطالعة من ثناياه!
لم يكن، ولا يزال، أقرب إلى الحق من صوته، في دعوة إلى اليقظة من نفيرٍ مَقْدَمُه غيرُ بريءٍ ومَفْضاهُ لا تأتي مِن قِبَله السلامةُ لأحدٍ، والتحذير من أن الذي يؤكل اليوم من بلدان العرب والمسلمين ليس إلا مقدمةً لافتراس بلدان أخرى، ينتهي ــ لا قدّر الله ــ بتحويلنا إلى كيانٍ لا مذكِّر له من أصوله ولا محلَّ له بين غرمائه.
سيبقى من الدكتور البوطي هذا الصوتُ الذي ناشد مُجايِلِيه ممّن أفتوا بتصفيته إلى الاستهداء بمن لم يوالوا حاكما صاحب ثروة ولم يبيعوا لغير الله ذمةً؛ ولم يتوّهموا الحقَّ في جهةٍ لأنها تشتري ولاءهم بما يبيعونها من نفاقٍ كلُّ شيء في طوالعهم يدلُّ عليه؛
وسيبقى منه دعوته إلى التبصر في أمر الاستجابة إلى استفزازات الدعاة إلى الفرقة لأنها المِعْوَل، ولا أدهى، الفاعلُ في وحدة المسلمين ما تفعله النار في الهشيم؛
وسيبقى منه صرامة الفرز بين الإسلام بروحانيته المحلقة بعيدا في سماء الإنسانية، وبين الإسلاموية المتاجرة بكل مبدأ قيمي يعرفه الناس لغيرها ولا يقرّون به لها؛
وسيبقى منه أن العالِم الذي يكرّس التكفيرية، ويرتفع على أكتاف التكفيريين إحياءً للجاهلية وإيقاعاتها، عالم مغشوش لا قيمة لما يقول ولا مسوّغ شرعي وأخلاقي للاتِّساء به، ولا حرمة لشخصه بين الناس؛ فالخروج على هذا الصنف من العلماء أولى من الخروج على حُكَّامٍ لم يجدوا في طريقهم إلا دعِيًّا عليمَ اللسان منافق الجَنان!!
وستبقى بعده أشباهُ دولٍ تَستَمِدُّ أَوصافَها من مدوّنة الانتكاس "البسيط":
أَلْــقَابُ سَــلْطَــنَةٍ فيِ غَــيْرِ مَمْــلَكَــةٍ
كَالْهِرِّ يَحْكِي انْتِفَاخًا صَوْلَةَ الْأَسَدِ
وتَستمدُّ مواصفات حُكَّامِها من معجم الانبطاح وعُوَّارِ التبعية "البسيط":
اَلْحَاكِمُونَ وَوَاشَنْطُنْ حُكُومَتُهُمْ
اَلــلاَّمِــعُـونَ وَمَا شَـعُّـوا وَمَا غَـرَبـُـوا
اَلْقَاتِــلـُـونَ نُـبُـوغَ الـشَّعْـبِ تَـرْضِــيَـةً
لِلْمُـعْــتَــدِيـنَ وَمَا أَجْـدَتْـهُـمُ الْـقُرَبُ
ماذا لو أصغى الناس، في سوريا وفي غيرها "الجزائر مثلا"، إلى الدكتور البوطي وهو يناشد المتطرفين في التريث، فيما أقدموا عليه، وهم الأداة ــ إن أبوا ــ في أيدي أعدائهم قبل غيرهم؟ ماذا كان يكلفهم الإصغاءُ إليه ــ لو هم فعلوا ــ غير تجنيب بلدهم وأمتهم الواسعة تآكل أرصدةٍ بحساب القيم، وتراجع قرون بحساب الزمن؟ ماذا كانوا يخسرون ــ لو هم التفتوا إلى رأيه ــ غير عدوٍّ لا ينفعهم ولاؤه، ليربحوا مواليا إن لم يستفيدوا من ولائه شيئا لم يخسروا الأمان من جانبه؟
ذهب الذي ذهب بالدكتور البوطي رحمة الله عليه، وبقي المحسوبون على العلم يستثمرون في الفراغ، يموت المسنّون والكهول والنساء والرّضّع بفتواهم؛ وتُهْدَم صوامع ومحاريب وكنائس دمشق وبناتها من عرائس الشام، بفتواهم؛ ويرتدّ تاريخنا الطائفي بسواده وفسيفساء رجعيته إلى غابر عهده القاتم، بفتواهم.
هل كان قدَرًا أن يقضي الدكتور البوطي ــ كما قضى ــ ليبقى هؤلاء على منابر النار، يسألون لأنفسهم عاقبة خطباء الفتنة، ويترجّون العناية الإلهية حشرهم مع خطباء الفتنة؟!
نعم، كأنه قدرٌ جَنَّبَ الدكتور البوطي، وهو العالم شجاع القلب عليم اللسان، عاقبةً عَمِلَ عُمْرَه المْتطاوِلَ لاجتنابها، وهل بعد شقائه شقاءٌ لو هو بَقِيَ بين جماعة لا تحسن الإصغاءَ إليه ولا تستحق الثواب عليه "الكامل":
خَلَتِ الدِّيَارُ فَسُدْتُ غَيْرَ مُسَوَّدِ
وَمِنَ الـشَّقَاءِ تَــفَرُّدِي بِالـسَّـؤْدَدِ
رحمك الله أبا توفيق!!
منقول من جريدة الخندق

تحميل