مميز
EN عربي
الكاتب: د. عبد الله الشامي
التاريخ: 25/08/2014

إلى الذين نشطوا في الباطل وتكاسلوا في الحقّ

مقالات

إلى الذين نشطوا في الباطل وتكاسلوا في الحقّ

د. عبد الله الشامي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حين يختلف الناس بشأن رجل مات، بين مادحٍ له مُثنٍ عليه، وذامٍّ له قادح فيه، يعرض عقلاء الناس وحكماؤهم، ويترفّعون عن محاكمة الموتى، ويقولون: لقد أفضوا إلى ما قدّموا.. هذا إذا كان الشّخص المختلف فيه يمثِّل نفسه فحسب.. أمّا إذا كان يمثّل فكرة أو مبدأ؛ فإن الأمر يكون مختلفاً، لأنّ الأمر لا يكون حينئذٍ متعلّقاً بشخص، بل يغدو متعلّقاً بمبدأ.

لذا أقول للسادة القرّاء: إن كلامي هذا ليس دفاعاً عن شخص العلاّمة الشهيد البوطي رحمه الله، ولكنه دفاع عن المبدأ الذي كان يمثّله، وهو الإسلام الحقّ .. وهل يحتاج هو إلى دفاع، بعد أن مضى إلى بارئه، ودلائل حسن الخاتمة ونيل السعادة العظمى تكتنف خاتمته المشرّفة من كل جهة؟!([1]).

وكيف لا يكون إظهار حقيقة مواقفه وصواب رأيه فيها دفاعاً عن الإسلام؛ وهو من العلماء القلائل، الذين وُفِّقوا توفيقاً قلّ نظيره في الدّفاع عن الإسلام وعن منهج أهل الحقّ، سواء من خلال ما ألّفه من الكتب، أو ما ألقاه من المحاضرات، أو اشترك فيه من الندوات والمؤتمرات والمناظرات؟!.

إنّ الغيرة على الإسلام تقتضينا أن نبيّن للناس صدق من كان أصدعَ الناسِ بموقف الإسلام، وأصدعهم بكلمة الحقّ، وأبعد العلماء نظراً وأنفذهم بصيرة، وأوسعهم فتوحاً، وأشدّهم غيرة على الإسلام والمسلمين.

وهذه نقاط أربع، أبرز من خلالها أنّ العلاّمة الشهيد كان بحقٍّ رجلَ الأمة وإمامَها؛ إذ كان يرى -بما أوتي من بصيرة نافذة، ونظر دقيق، وبراعة في تحليل الأمور، و قدرة متميّزة على الاستنتاج- ما لم يكن يراه الناس.

النقطة الأولى: قال العلاّمة الشهيد البوطي رحمه الله في بدايات الأزمة: قالوا لي: إنّك تقف مع النظام .. قلت لهم: يا ناس. إن ما يجري في سورية أكبر من أن نتوجّه إلى النظام بمدح أو بذم، الأمر يتعلّق بمصير .. ويتعلّق بباب فتنة، وإذا انفتح الباب انكسر، وهيهات هيهات أن يعود كما كان .. إياكم أن تدخلوا في نفق مظلم ذي اتّجاه واحد، لا تملكون الوقوف فيه .. الطريق منحدر .. الخطوة الأولى ستوصلكم إلى النهاية المظلمة المرعبة؟!.

لقد كان في الناس كثيرون يحلمون يومها بالتدخّل الأجنبي، ويثقون بالوعود السّخية التي كانت تُبذل لهم .. ثم تبيّن أن تلك الوعود لم تكن سوى خديعة وطُعْمٍ، استُجِرَّ به السّذّج إلى فتح باب الفتنة، والولوج في نفقها المنحدر المظلم، الذي لا يعرف أحدٌ له قراراً .. ألا هل يملك أحدٌ في سورية اليوم –دولة وشعباً- خياراً في هذا الذي يجري، ألم يظهر للقاصي والدّاني صدق قول العلاّمة الشهيد وصواب رأيه؟.

النقطة الثانية: منذ أن اندلعت ما يسمّيه البعض بـ(ثورات الربيع العربي!!) -بل قبل ذلك بسنوات- حذّر الإمام الشهيد من مخطّط رهيب، الهدف منه ضرب الإسلام، والقضاء عليه باسم الجهاد، وبيّن أنّ الخطّة هي تشويه مفهوم الجهاد الإسلامي المقدّس الطاهر الرّحيم، بإحلال مفهوم آخر للجهاد، كالح بشيع، دموي مظلم متوحّش، يكون أداة تنفيذه أناساً جهّالاً، جمحت بهم العواطف المهتاجة، التي لم تتهذّب بالعلم والتربية، لتتحوّل إلى عواصف مدمّرة، لا تبقي ولا تذر.

ألم يؤكّد العلامة الشهيد السعيد –قبل اندلاع هذه الفتن بأكثر من عشر سنوات- أنّ الإرهاب يطبخ في الغرب، بيد الصهيونية والمسيحية المتهوّدة وأذناب اليهود في الغرب، ثمّ يصدّر إلينا، وألم يقدّم ما يثبت ذلك، بما كان يبرزه من الوثائق المسرّبة، ممّا كان قادة الإرهاب في العالم يتّفقون عليه ويتواصون به في مؤامراتهم ومؤتمراتهم السرية .. ألم يحدِّث الناس عن أناس من اليهود أطالوا لِحاهم وقصّروا أثوابهم، وتوجّهوا إلى بلاد المسلمين، ليحملوا راية الجهاد، ويعيثوا في أرض المسلمين فساداً، ويمارسوا أبشع أنواع الفتك بالمسلمين!!.

النقطة الثالثة: لقد قال الشهيد السعيد في آخر خطبة جمعة له قبل استشهاده –قال وهو يحذّر المعارضة في سورية من الذين وفدوا من الخارج– بزعم نُصرة إخوانهم ضدّ ما أسموه بالنظام الكافر في سورية-: ألا ترون أنّ بلادكم قد امتلأت بأمشاج من غيركم، ولو مُكّن لهم لبدؤوا بقتلكم أنتم.

لقد عجز أكثر الناس يومها عن هضم هذا الكلام، فاستنكره المعارضون أشدّ الاستنكار .. ثم مضت أيام، وحتى قبل أن يُمَكّن لهؤلاء الوافدين- رأيناهم يكشفون الأقنعة عن وجوههم الكالحة، ويظهرون حقيقتهم العدوانية المرعبة، التي تعادي سورية وأهل سورية كلّهم، فينشرون الرُّعب في طول البلاد وعرضها، ويمارسون توحُّشاً رهيباً تبرأ منه الوحوش في غاباتها، وها نحن نراهم اليوم أشبه ما يكونون بالسرطان الذي ينتشر، ويحمل معه الدّمار إلى كل مكان يصل إليه.

كل هذا من أجل ماذا؟.. من أجل تشويه صورة الجهاد الإسلامي، وتبغيضه إلى قلوب الناس، أليس هذا ذبحاً للإسلام ذاته باسم الجهاد، على حدِّ تعبير العلاّمة الشهيد رضي الله عنه؟!.

النقطة الرابعة: تحذيره الشديد من خطر بدعة "اللاّمذهبية": لقد كانت الأمة طوال تاريخها تتبع المذاهب الفقهية التي أسّسها المجتهدون العظام؛ إلى أن ظهرت فئة خرجت على ما كانت عليه الأمة خلال تاريخها، فدعت إلى عدم الالتزام بالمذاهب، بل ادّعت أنّ التمذهب بدعة، وأن أتباع المذاهب اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم –أي أئمة المذاهب الفقهية- آلهة من دون الله .. وعندما تسلّلت نابتة من هذه الحناظل إلى أرضنا الطيبة؛ لم تتقبّل تربة الشام المباركة بذرة الشرّ هذه، واجتهد علماء الشام في بيان زيفها، ولكن أشدّهم على هذه الفئة البدعية كان العلاّمة الشهيد البوطي، فقد ألّف في الرّد عليهم كتابه (اللامذهبية أخطر بدعة تهدّد الشريعة الإسلامية)، واستمر ينتقدها ويردّ على دعاتها ويدعوهم إلى المناظرة العلمية الهادئة، إلى أن أكرمه الله تعالى بالشهادة، وقد كان شديد التحذير منها إلى درجة أن بعض الناس كان يرى أنّه يبالغ في تحذيره هذا .. ثم جاءت الأيام لتبيّن صواب موقفه وسداد رأيه .. ألا ترون أنّه ما من أرض يتنفّس فيه الإسلام وينعم فيه المسلمون بالهدوء والسكينة؛ إلاّ وتوجّهت فئة من دعاة هذه البدعة المنكرة إليها؛ ليحوِّلوا وحدة المسلمين إلى فرقة، وتآلفهم إلى تدابر وتنازع وشقاق، بل إلى تقاتل وتهارج. وكأنّ هذه الفئة موكَّلة من الشيطان بتمزيق المسلمين وزرع أسباب الشحناء والبغضاء فيما بينهم.

إنّ دعاة الفتنة وبغاة الفرقة من دعاة اللامذهبية اجتهدوا في إغواء الناس –بقصد أو بغير قصد- فجرّؤوهم على النيل من العلماء، وعلى الكلام في دين الله تعالى بغير علم، فظهرت الآراء المنكرة، وتولّد من جرّاء ذلك التطرّف، الذي توالد منه سلسلة من حلقات، كل حلقة منها أوغل في التطرّف من سابقتها، وأكثر ابتعاداً عن منهج الحقّ .. إلى أن وصلنا إلى هذا اليوم، فرأينا حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يفتون بغير علم، ويستبيحون الدّماء والأعراض والأموال، ويكفّرون بالجملة، وهم بهذا ينفّذون ما أفتى به رؤوسهم الأوائل، الذين حكموا بردّة السّواد الأعظم من المسلمين، بل بردّة من لم يكن على شاكلتهم، وتابعاً لهم في تطرّفهم، وجعلوا الأصل في أمة سيدنا محمد r الشرك والارتداد، وصاروا يكفّرون من خالفهم في المسائل الفرعية، التي تقبل الاجتهادات الكثيرة المتباينة.

ألا ترون أنّ سائر من ينتمي إلى هذه الجماعات المتطرّفة، وجميع الذين يمارسون الإجرام المتوحّش في حقّ المسلمين وغير المسلمين، هم من دعاة اللاّمذهبية، وجموعهم بحمد الله خالية من أتباع مذاهبنا الفقهية.

أليس هذا دليلاً، أبين دليل على صواب قول الإمام الشهيد، أن اللامذهبية أخطر بدعة تهدّد الشريعة الإسلامية، ومن ثمّ تهدِّد الإسلام ذاته والمسلمين؟.

في ختام هذا الكلام أقول: لقد كان الذين يستنكرون أقوال العلامة الشهيد ومواقفه ينشطون في نقد مواقفه وأقواله، ويلبّسون على الناس ويشوِّهون حقيقة موقفه ممّا يجري، وذلك بنشر المقاطع المبتورة والمشوّهة في مواقع التواصل الاجتماعي وعبر النت، وكانوا يدّعون أنّ دافعهم إلى ذلك هو الحرص على بيان الحقيقة وتجليتها أمام أنظار الناس .. فإذا كان هؤلاء صادقين في ما يدّعونه من الغيرة على الحق، والحرص على بيان الحقيقة، فما بال الغيرة على الحقّ رقدت في كياناتهم رقدة الموت، ما بالهم لا يتابعون ما التزموه من بيان الحق، لماذا لايبيّنون الحقيقة للناس اليوم، من خلال نشر مقاطع الفيديو والمقالات التي كان الشهيد السعيد يضع النقاط فيها على الحروف، ويعرّي من خلالها أعداء دين الله ويفضح مؤامراتهم ويكشف مخطّطاتهم، في الوقت الذي كان فيه هؤلاء النشطاء ينفّذون لأعداء الأمة وأعداء دينها مخطّطاتهم من حيث لا يشعرون.

لقد أساء هؤلاء إلى الإسلام أيّما إساءة، حين شوّهوا صورة العلاّمة الشهيد، فحرموا كثيراً من الناشئة والشباب من قراءة كتبه والاستماع إلى محاضراته ودروسه وخطبه .. وهل للأمّة عن تراثه العلمي والفكري من عِوَض؟! .. إنّ على هؤلاء أن يصحِّحوا خطأهم، ويبيّنوا الحقيقة ليرجع الناس كما كانوا- بل أكثر ممّا كانوا - إلى مائدة علم الإمام الشهيد وينبوعه الثّر، ليتزوّدوا منها العلم، ولينهلوا منه الوعي الإسلامي الصافي عن الشوائب، وليتعرَّفوا على الحقيقة الإسلامية الناصعة المبرّأة من كلّ زيف ودَخَل .. لعلّهم إذا فعلوا ذلك أن يكونوا قد أنصفوا الحقيقة التي ظلموها، وأن يصطلحوا معها بعد طول خصام، ولعلّ ذلك يكون شفيعاً لهم، وكفّارة لما اقترفوه من جناية بحقّ إسلامهم و ناشئتهم وشبابهم، وبحقّ عالمهم الربّاني الملهَم.

([1]) أذكِّر القراء الكرام بأنّ العلامة الشهيد قُتل – وأكرم الله تعالى معه بالشهادة أكثر من خمسين من تلامذته البررة الأطهار - بيد التطرّف المجرم، وهو في محراب العلم والعبودية في جامع الإيمان بدمشق، بين يديه كتاب الله تعالى يتدارسه ويفسّره بين جموع غفيرة من تلامذته، وذلك ليلة الجمعة، وقد سال دمه الزّكي على كتاب الله تعالى، وحين أرادوا حمله ليسعفوه لم يستجب لهم، بل أبى إلاّ أن يخرّ ساجداً لله تعالى، ليلقى ربّه في غاية التّذلّل له، فلم يُحمل إلاّ وهو ساجد .. ولا غرابة في ذلك، أليس السجود هو التعبير الأنصع للعبودية الواجفة لله تعالى، وألم تكن العبودية الخالصة لله تعالى هي أكثر ما كان يؤكّد عليه العلاّمة الشهيد طوال حياته .. حقّاً لقد صدق الله فصدقه الله، وصدق الله تعالى القائل:" وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم"؟!

تحميل