مميز
EN عربي
الكاتب: العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
التاريخ: 30/06/2014

مفخرة شرعة الوقف في التاريخ الإسلامي والبحث عن سبيل لاستعادتها

بحوث ودراسات

إنَّ من الأمورِ التي لم تعد خاضعةً لأيِّ ريبٍ أو نقاش: التّلازمُ القائمُ والدّائمُ بينَ الشّريعةِ الإسلاميّةِ وحقيقةِ المصالحِ الإنسانيّة... إنّهُ تلازمٌ سارٍ بينَ طرفين. فحيثُما لاحت لكَ مصلحةٌ حقيقيّةٌ تجرُّ خيراً إلى الإنسانِ أو تصدُّ عنهُ شرّاً، لا بدَّ أن تجدَ في الشّريعةِ الإنسانيّةِ تبنّياً لها ودعوةً إليها ومهما وقعت عيناكَ على حكمِ اللهِ عزَّ وجلَّ في شريعتهِ الخالدة، فلابدَّ أن تجدهُ يحملُ إلى الإنسانِ خيراً يسعدهُ أو يصرفُ عنهُ شرّاً يشقيه.

وكثيراً ما يكونُ الحكمُ الشّرعيُّ هو المنبِّهَ إلى المصلحةِ الإنسانيّةِ أو الاجتماعيّةِ الموجودةِ في تضاعيفهِ بحيثُ لو لم يخاطبِ اللهُ عبادهُ بذلكَ الحكم، لما تنبّهوا إلى تلكَ المصلحة التي لا بدَّ لصلاحِ حياتِهم منها. ولعلَّ أكثرَ الأحكامِ الشّرعيّةِ من هذا القبيل.

وربّما كانَ الأمرُ على العكسِ من ذلك. يشعرُ النّاسُ بالمصلحِ التي لا بدَّ لحياتهمُ الفرديّةِ أو الاجتماعيّةِ منها. فيشرّعُ اللهُ لهم من الأحكامِ ما يفتحُ لهم السّبيلَ إلى بلوغِ تلكَ المصلحةِ. وبوسعكَ ان تجدَ أمثلةً كثيرةً على هذا في آياتِ الأحكامِ التي تنزّلت بمناسبات. فقد كانَ أثرُها استجابة لحاجات وتحقيقاً لمصالح، أو دفعاً لشرور وأضرار.

ومن أبرز ما يدخل في القسم الأوّل شرعة الأوقاف ونظامها. وما أظظنُّ أنَّ في النّاسِ من لا يتبيّنُ أهمّيّة المصلحة التي تتكفّل بها هذه الشّرعة، والمستوى الحضاري الباسق الذي يعبّر عنهُ هذا النّظام الفريد، من خلالِ رسمهِ لأسمى مظاهرِ التّكافل الاجتماعيّ.

ومع ذلك، فإنَّ النّاس -على اختلافِ مستوياتهم- لم يتبيّنوا احتياجهم إلى هذهِ الطّريقةِ المثلى لإرساءِ نظاِ التّضامنِ الاجتماعيِّ فيما بينهم، إلا بعدَ أن بصّرهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ بشرعةِ الأوقافِ هذهِ وآخذهم بها.

ولقد كانَ كتابُ اللهِ عزَّ وجلَّ هو المؤسِّسَ الأوّلَ لهذه الشّريعةِ والواضعَ لهذا النّظام.. ثمَّ إنَّ السّنّةَ النّبويّةَ المطهّرةَ قامت بدورِ الشّارحِ لها والمشرفِ على تنفيذِها.. ثمَّ كانَ دورُ أئمّةِ الشّريعةِ الإسلاميّة وهو دورُ الاجتهادِ المنضبط السّليم، في تطبيقِها على المصالحِ وتفريعِ الصّورِ والحالاتِ المتنوّعةِ لها، وتيسيرِ تطبيقِها على أوسعِ نطاقٍ اجتماعيٍّ واستثمار أكبر قدر من المصالح الاجتماعيّة والاقتصاديّة منها.

أمّا دورُ التّأسيسِ كانَ إليهِ فضلُ التّنبيهِ إلى هذهِ هذهِ المصلحةِ والكشفِ عن مدى أهمّيّتِها، ورسمِ أوسعِ نموذجٍ تشريعيٍّ تشريعيٍّ لها، فيتجلّى واضحاً في الآياتِ الأربعةِ التي نزلت في سورةِ الحشر، بياناً لحكمِ الأراضي التي أفاءَها اللهُ على المسلمينَ من يهودِ بني النّضير، وهي قولُ اللهِ تعالى:

((ما أفاءَ اللهُ على رسولهِ من أهلِ القُرى فللهِ وللرّسولِ ولِذي القُربى واليتامى والمساكينِ وابنِ السّبيلِ كي لا يكونَ دُولةً بينَ الأغنياءِ منكم وما آتاكمُ الرّسولُ فخذوهُ وما نهاكم عنهُ فانتهوا واتّقوا اللهَ إنَّ اللهَ شديدُ العقاب * للفقراءِ المهاجرينَ الذينَ أُخرِجوا من ديارِهم وأموالِهِم يبتغونَ فضلاً منَ اللهِ ورضواناً وينصُرونَ اللهَ ورسولهُ أولئكَ همُ الصّادقون * والذينَ تبوَّءُو الدّارَ والإيمانَ من قبلهم يحبّونَ من هاجرَ إليهم ولا يجدونَ في صدورهم حاجةً ممّا أُوتوا ويؤثرونَ على أنفسهم ولو كانَ بهم خصاصةٌ ومن يوقَ شُحَّ نفسهِ فأولئكَ همُ المفلحون * والذينَ جاؤوا من بعدهم يقولونَ ربّنا اغفر لنا ولإخوانِنا الذينَ سبقونا بالإيمانِ ولا تجعل في قلوبِنا غلّاً للّذينَ آمنوا رَبَّنا إنّكَ غفورٌ رحيم)).

فهذهِ الآياتُ الأربع تُعَدُّ النّصَّ التأسيسيّ لمشروعيّةِ الوقف، ولبيانِ أهمّيّةِ المصلحةِ المترتّبةِ عليه، ولفتِ النّظرِ إلى الفرقِ بينهُ وبينَ سائرِ الصّدقاتِ الأخرى.

إنّكَ لترى كيفَ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يأمرُ بحبسِ عينِ المالِ الذي يخضعُ للبقاء، ولا يستهلكُ جوهَرهُ الاستعمالُ وهو الأرضُ والعقارات التي أفاءها اللهُ على المسلمين، عن تمليكِ ذاتِا والتّصرّفِ بأعيانِها، على أن يُصرَفَ خراجُها على إلى مصالحِ المسلمين وأفرادهم خلالَ العصورِ جيلاً بعدَ جيل، بدءاً من المهاجرين فالأنصار فمن سيأتي بعدهم إلى قيامِ السّاعة، إن أمكن، لتشترك هذه الأجيال كلّها في الاستفادة من ريعِها والنَّيلِ من ثمارِها وخيراتِها.

وقد فهمَ عمرُ بنُ الخطّاب هذا المعنى الواضح من هذه الآيات، واحتجَّ بها على ما قضيَ بهِ من حبسِ سوادِ العراق وأراضي مصر عن التّملّك والتّداول، ليستمرَّ ريعُها صدقةً جاريةً يستفيدُ منها المسلمونَ عصراً بعدَ عصر، ولقد أيّدهُ في ذلكَ معظمُ أصحابِ رسولِ اللهِ رضوانُ اللهِ عليهم.

روى أبو عبيد بن أو بنُ الحدثان عن عمرَ بن الخطّاب أنّهُ تلا قولَ اللهِ تعالى يومَ طالبهُ بعضُ الصّحابةِ بتقسيمِ سوادِ العراقِ بينَ المقاتلين: ((واعلموا أنَّما غَنِمْتُم من شيءٍ فأنَّ للهِ خُمُسَهُ)) "الأنفال:41" -الآية-، فقالَ هذه لهؤلاء، ثمَّ تلا قولهُ تعالى: ((إنّما الصّدقاتُ للفقراءِ)) "التوبة: 60" -الآية-.

فقال: وهذه لهؤلاء، ثمَّ تلا قولَ اللهِ تعالى: ((ما أفاءَ اللهُ على رسولهِ من أهلِ القرى فللهِ وللرّسولِ ولذي القُربى)) "الحشر: 7". إلى أن قال: ((للفقراءِ المهاجرينَ الذينَ أُخرِجوا من ديارِهِم)) "الحشر: 8". إلى أن قال: ((والذينَ تبوَّءُو الدّارَ والإيمانَ)) "الحشر: 9". إلى أن قال: ((والذينَ جؤوا من بعدهم)) "الحشر: 10". قال: فاستوعبت هذه الآية النّاس، فلم يبقَ أحدٌ من المسلمينَ إلا ولهُ فيها حقّ.

وقد أيّدَ عمرُ في ذلكَ جمهورَ الصّحابةِ فكانت أرضُ مصر والعراق وقفاً للمسلمينَ بحكمٍ من كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ تحبس عن التّداول، ويجري خراجُها ريعاً لهم خلال الأحقاب والقرون.

وقد ذهبَ الإمامُ مالك إلى هذا الذي تدلُّ عليهِ الآيات وقضى به عمر. وذهبَ أبو حنيفة وأحمد والثّوري إلا أنَّ الإمام يتوخّى في ذلكَ المصلحة، وهو قريبٌ من مذهبِ مالك. وانفردَ الشّافعيُّ بالذّهابِ إلى وجوبِ تقسيمِ الأرضِ كبقيّةِ أموالِ الغنائمِ على المقاتلين.

فمحصلُ الأمرِ أنَّ في المسألةِ مذهبين:

-أحدُهُما مذهبِ الجمهور، وهو عدم وجوب قسمة الأرض بينَ المقاتلين على الإمام. سواءٌ قلنا إنّها تكونُ وقفاً بمجرّدِ الاستيلاءِ عليها، أو قلنا يتّبعُ الإمامُ فيها مصلحة المسلمين.

-ثانيهِما مذهبُ الشّافعيّ، وهوَ وجوبُ قسمتِها بينَ الغانمينَ إلّا أن يستطيبَ الإمامُ نفوسهم.

إذاً فهذهِ الآيات هي التي أسّست شرعة الوقف ونبّهت إلى أهمّيّته ووجهِ المصلحةِ فيه، وإلى أنَّ على المسلمينَ أن يجعلوا من مرافقهم ومؤسّساتهم الاقتصاجيّة مناهل ثابتة وباقية ما أمكن، كي ينهلَ من ريعِها وخيراتِها المسلمون كلّهم جيلاً إثرَ جيل.

وغنيٌّ عن البيانِ أنَّ هذا اللونَ من التّكافلِ الاجتماعيِّ السّاري بينَ أجيال المسلمين من خلال توارث عادل ورحيم، لا تعرفهُ قديماً ولا حديثاً إلا هذه الأمّة الإسلاميّة بهديٍ وتبصيرٍ من اللهِ عزَّ وجلّ.

ثمَّ إنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ وسّعَ مجالَ تطبيقِ هذه الشِّرعةِ الإنسانيّةِ المباركة، فلم يتركها مقتصرةً على السّياسة التي ينبغي أن يتّخذها أولياء المسلمين في الفيءِ والغنائم. بل أوصى أفراد المسلمين بأن يجعلوا لهذهِ الشّرعة نصيباً من صدقاتهم وسماها: صدقة جارية. وأوصح مخلالِ تعليماتهِ المتعدّدة للصّحابة أنّها تكونُ في أيِّ وعٍ من الأموال الي يستهلكها ويستنفذها الاستعمال، وإن استهلكها التّقادم وطول العهد وكثرة الاستعمال، كالدّور والأراض والدّواب والمفروشات وأنواع الأثاث وينابيع المياه.

فمِن ذلكَ قولُ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم، فيما رواهُ مسلمٌ والبخاريُّ في الأدبِ المفرد. من حديثِ أبو هريرة رضيَ اللهُ عنه: "إذا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عملهُ إلا من ثلاث: صدقة جاري، أو علمٍ يُنتَفَعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له".

ومن ذلكَ ما رواهُ الشّيخانِ من حديثِ عمرَ رضيَ اللهُ عنه أنّهُ أصابَ أرضاً بخيبر، فأتى النّبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم يستأمرهُ فيها فقال: يا رسولَ الله إنّي أصبتُ أرضاً بخيبر لم أُصب مالاً قطُّ هو أنفسُ عندي منه. فقال: إن شئت حبست أهلها وتصدّقت بها. فتصدّقَ بها عمرُ على أّهُ لا يباعُ أصلُها، ولا يورَثُ ولا يوهَب. ولا جُناَ على ممن وليَها أن يأكلَ منها بالمعروفِ أن يطعمَ صديقاً غيرَ متموِّلٍ مالاً.

ومن ثمَّ فقد انتشرت هذه السّنّة بينَ أصحابِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ فكانَ أحدُهم يحبسُ أرضاً أو إبلاً له، أو أسلحةً عن التّصرّفِ في أعيانِها، ويتصدّق بوجوه الاستفادة منها، ليستمرَّ السّبيلُ إلى ذلكَ جارياً إلى ما بعدِ موته. ومن ذلكَ ما رواهُ الشّيخانِ أنَّ رسولَ اللهِ بعثَ عمرَ بنَ الخطّابِ على الصّدقة، وفيهِ أنَّ رسولَ اللهِ قال: "وأمّا خالدٌ فقدِ احتبس أدراعهُ وأعتادهُ في سبيلِ الله".

ومن ذلكَ ما رواهُ أحمد وأبو داوود والحاكم من حديثِ أمِّ معقل الأسديّة أنَّ زوجها جعلَ بكراً في سبيلِ الله، فأرادتِ العمرة، فسألت زوجها عن البكر فقال لها: إنّي حسبتهُ في سبيلِ الله.

والبكرُ هو الفتى من الإبل. وحديثُ أبي طلحة في وقفهِ لأحبِّ مالهِ إليهِ (بير حاء) صدقةً جارية لله معروفٌ ومشهور.

وهكذا لم يمضِ إلّا سنواتٌ حتّى غدا المجتمعُ الإسلاميُّ في الجزيرةِ العربيّةِ وما حولها مليئاً بممتلكاتٍ ماليّةٍ من نوعٍ فريدٍ لا عهدَ للحضاراتِ ولا للمجتمعاتِ الإنسانيّةِ الشّاردةِ عن الإسلامِ بمثلِها.. ممتلكات؛ ولكن لا يملكُ أن يتصرّفَ بأعيانِها أحد، وإنّما يوجّهُ ريعها ووجوه الاستفادة منها إلى الجهات التي كانَ قد حبسها ملّاكها في سبيلِها من فقراء أو أرامل أو يتامى أو حيوانات أقعدها العجز عن العمل.. أو نحو ذلك.

واستأر هذا الموضوع باهتمام المجتهدين من أئمّة الشّريعة والفقه الإسلاميّ، وساروا قدماً في ترسيخ العلاقة بينهُ وبين المصالح الاجتماعيّة التي شُرِعَ من أجلِها، واستظهروا المشكلات المتعلّقة به، وأجابوا عنها.. وما لبثَ أن تكوّنَ من هذا الموضوع بابٌ فقهيٌّ كبيرٌ ذو فروعٍ ومسائلَ جزئيّة شتّى، يتفاعل كلّها مع نظام المجتمع الإسلاميّ ومصالحه.

تساءلَ الفقهاءُ بادئَ ذي بدء، عن الجهةِ التي تؤولُ إليها ملكيّةُ العينِ الموقوفة. أهي الجهة التي أبرمَ الواقفُ لصالحها من فقراء أو يتامى أو غيرهم؟ أم تظلُّ ملكيّتها باقية للمالك الذي وقف؟ أم تؤولُ ملكيّتُها إلى اللهِ عزَّ وجلّ؟

فذهبَ الإمامُ الشّافعيُّ إلى أنَّ ملكيّةَ العينِ الموقوفة تؤولُ إلى اللهِ عزَّ وجلّ. إذا ذلكَ هو مقتضى حرمةِ التّصرّفِ بها -أي بعينِها- في حقِّ كلٍّ من المالك الواقف والجهة الموقوف عليها. ولو كانت الملكيّة ثابتة لأيٍّ منها لاستلزمَ ذلكَ جوازَ التّصرّف بها من قِبَلِ الشّخصِ المالك.

واختارَ كلٌّ من الإمامين -مالك وأبي حنيفة- أنَّ ملكيّة الموقوف تظلُّ باقيةً لمالِكِها الذي وقَفَها. مستدلّينَ على ذلكَ باستمرارِ الثّوابِ للواقفِ ما اتمرّت العينُ الموقوفة وظلَّ النّاسُ يستفيدونَ منها. إذ لو انقطعت ملكيّةُ المالكِ عنها لاستلزمَ ذلكَ أن ينقطعَ عنهُ ذلكَ الأجر.

أمّا الإمامُ أحمد فيرى أنَّ الملكيّةَ تتحوَّلُ إلى الجهةِ الموقوفِ عليها، نظراً إلى أنّها الجهة المستفيدة.

لتتمة قراءة البحث من خلال تحميل الملف أدناه

تحميل