مميز
EN عربي
الكاتب: الشيخ محمد مهدي شمس الدين
التاريخ: 09/04/2014

موقف الإسلام من العولمة في المجال الثقافي والسياسي

بحوث ودراسات

مقدمة

أ‌- العولمة اصطلاحاً ومفهوماً

يعبر مصطلح العولمة الذي تداول المفكرون والباحثون استخدامه منذ عقد من السنين (منذ نهاية الثمانينات) عن تحول عالمي في رؤية كثير من المرتكزات في مجال القيم الأخلاقية والاقتصاد والسياسة، التي كانت سائدة على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية بين البشر. كما ويستبطن هذا المفهوم رؤية جديدة حول الهوية، هوية المجموعة وهوية الجماعة وهوية القوم. وحول شخصية المجتمع وشخصية الدولة على المستويات الوطنية والقومية بالنسبة إلى المجتمعات التي تعاني من ضعف في سيادتها أو في اقتصادها أو في قوتها، أي لتلك المجتمعات التي تعتبر مغلوبة على أمرها في مجال المنافسة على المستويات الاقتصادية والسياسية والأمنية والعلمية والثقافية وما عدى ذلك.

هذه الظاهرة (العولمة) تبدو للناظر وكأنها كائن خارق الإمكانات، خارق القوى، يتهيأ لافتراس كل ما يقع بين يديه على المستوى العالمي من جماعات ودول وشعوب. وتأتي في مقدمة الفرائس التي تستشعر الخطر أو التي ينبغي أن تستشعر الخطر الأمة العربية والأمة الإسلامية، لأن في تقديرنا أنه كلما كان مجتمع ما أو أمة ما تتمتع بمضمون ثقافي يمكن تطويره وتثويره ليعيد صياغة هذا المجتمع وهذه الأمة، وليكون له دور فعال وأصيل على المستوى العالمي، ولا يكون مجرد تابع – كلما كان المجتمع ما وأمة ما من هذا القبيل – فإنه يكون فريسة نموذجية لهذا الكائن (العولمة) الذي يهدف إلى أن يلغي كل الأغيار، ويدمج كل التنوعات في صيغته الخاصة، وهو ما يمكنه من أن يمتص ويستحوذ على كل القدرات في الطبيعة وفي الإنسان لمصلحته الخاصة، لمصلحة قوته ومتعته واستهلاكه، بل على جميع المستويات المعنوية والمادية.

هل يعبر هذا الفهم عن حقيقة موضوعية؟هل غدت العولمة في السنوات العشر الماضية حقيقة حاسمة في الاجتماع البشري، أو أنها لا تزال افتراضاً يمكن أن يتحقق ويمكن أن لا يتحقق؟

نحن لا نرى أنها مجرد وهم كما لا نرى أنها حقيقة غالبة وراهنة، هي شيء في دور التكوين قطع شوطاً يعتد به حتى الآن في إبراز معالم ذاته. نرى ذلك في السياسات الاقتصادية، ونرى ذلك في السياسات الأمنية ونرى ذلك في الظاهرة الثقافية (في المجال الثقافي). إذن العولمة هي شيء غير مكتمل الآن ولكنه ليس ساكناً، بل ينمو.

نحن في مواجهة مشروع استحواذ جديد يتكون، وقد مر في مراحل متنوعة منذ القدم، ولكنه يتمتع الآن بأقصى قدراته، وذلك لما أتاحه العلم الحديث في جميع حقوله من قدرات خارقة لمن يمتلك ناصية القوة والنفوذ. ومن هنا فإن الحديث عن هذا المشروع والتهيؤ له من قبلنا عرباً ومسلمين يعتبر من حسن الفطن، لأن استباق الأخطار أفضل من مواجهتها بعد أن تقع، استباق الخطر بالتهيؤ له، والتحكم ضده، وتهيئة الوسائل المناسبة لمواجهته ومكافحته، هي خير من عدم المبالاة.

ب- العالمية والنظام العالمي

وقبل الدخول في بحث مضمون العولمة وتحديد الموقف منه، نرى من المناسب التمييز بينه وبين مصطلحين آخرين:أحدهما مصطلح النظام العالمي، والثاني مصطلح العالمية.

أما مصطلح النظام العالمي فيبدو أنه لغة للتعبير عن طموح نحو إيجاد نظام سياسي عالمي تهيمن فيه أو تفرض فيه قوة وحيدة أو تحالف قوى، هيمنة سياسية انطلاقا من مصالحها المادية ونظرتها الفلسفية (أساساً من حيث مصالحها المادية) على أكبر قدر ممكن من دول وشعوب العالم.

لقد شهد العالم عدة أنظمة عالمية شمولية منذ العهد الروماني تمثل فيما سمي (العالم الروماني، والسلام الروماني) وتمظهر بعد ذلك في عدة صيغ إلى أن ظهر الإسلام وتكونت الدولة الإسلامية التي تطورت إلى نظام عالمي كان جديداً في حينه، وبعد ذلك جاءت أنظمة عالمية أخرى تتابعت إلى العصر الحديث حيث شهد هذا العصر عدة تجارب كان آخرها ما سمي النظام العالمي الجديد الذي برز بوضوح بعد انهيار الإتحاد الإسلامي السوفييتي.

هذا النظام العالمي هو آلية لممارسة سياسة للتأثير، تنطلق وترتكز على المصالح التي تسعى إليها أو تدافع عنها مجموعة القوى العظمى. في مرحلتنا الراهنة تمحورت هذه القوى العظمى في الولايات المتحدة الأمريكية وليس ثمة ضرورة تدعو إلى أن يكون لهذا النظام علاقة بالثقافة والحضارة. هو يمكن أن يتعايش ويتفاعل مع ثقافات متنوعة ومختلفة ومع أنماط حضارية مختلفة. إن جوهره هو ممارسة السلطة لمصلحة نظام المصالح الغالب.

أما العالمية، فهي تعبير عن مجال قد يكون بعيداً عن السياسة والاقتصاد، بل هي تعبير عن النوع الثقافي. فالعالمية تعني الاعتراف بالأدوار، بحيث يكون العالم منفتحاً على بعضه مع الاحتفاظ بتنوعاته، ولقد كانت هذه هي السمة البارزة في الحضارة والثقافة والإيمان الإسلامي بشكل خاص:الاعتراف بالآخرين، احترام خصوصيات الآخرين. وهو الأمر الذي أنتج حالة الحوار بين الثقافات والحضارات والدول والشعوب والمصالح والأديان وما إلى ذلك.

إذن العالمية لا تعني الهيمنة الاقتصادية كما لا تعني في الوقت نفسه أيضاً الهيمنة الثقافية، وإنما تعني التنوع وانفتاح الثقافة الخاصة على الثقافات الأخرى، تعني التعارف وفقاً للمبدأ القرآني:

" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا. . ".

ج- مضمون العولمة

أما العولمة، كما عرفت وكما يبدو من تطبيقاتها، فهي تقوم على اجتياح للثقافات الأخرى ومحوها محواً كاملاً، وإذا كان لهذه الثقافات من بقاء فسيكون بقاء فلكلورياً لمجرد الاستمتاع وليس لتنمية وإخصاب الذات الإنسانية، إنها سيطرة القوى الكبرى والغالبة، وهي إلى جانب السيطرة الاقتصادية والسياسية تمارس السيطرة الثقافية وتستخدم كل تنوع ثقافي في سبيل التنكيل بالآخرين وإرهاب الآخرين لأجل استتباعهم ثقافياً.

إن العولمة بالصيغة الأمريكية التي يحاولون فرضها على العالم لا تمثل تحدياً بقدر ما تمثل غزواً، فهي مشروع يتسلم واقع الهيمنة على السياسة والاقتصاد من جهة، وبالقدرة غير المسبوقة في توجيه الإعلام من جهة أخرى، كما أنها تتسلح أيضاً بالقدرة على التشريع على المستوى الدولي.

ولذا فإن العولمة لا تمثل في نظرنا تحدياً، بل تمثل غزواً وهذا الغزو لابد من مقاومته.

إننا نعتقد أن دعاة العولمة يهدفون إلى السيطرة الاقتصادية تحت شعار دعوى أنها تؤدي إلى ارتفاع مستوى الحياة للدول. وإلى إتاحة توزيع أفضل للاقتصاد. كما يهدفون إلى السيطرة الثقافية التي تؤدي إلى تشويه أو تذويب الشخصية الخاصة.

ومن جهة أخرى فإن العولمة تؤدي إلى تشجيع عوامل التفتت والانقسام داخل المجتمعات الأخرى، والى إثارة التناقضات العرقية والدينية والمذهبية بين الأقوام داخل المجتمعات، وتؤدي بهذه المجتمعات إلى حروب وتوترات داخلية تتيح الاستيلاء عليها، والهيمنة عليها وعلى اقتصادها، أنها تتيح تفتيت البنى الثقافية والأخلاقية و أنظمة القيم داخل مجتمع وداخل كل حضارة لمصلحة تيار الحداثة، كما يتجاوز فيما يسمى الحضارة الأمريكية والثقافة الأمريكية ونمط الحياة والعيش الأمريكي.

هذا يفرض علينا، يفرض على كل شعب، كل حضارة، كل ثقافة، مسؤوليات تحصين الذات من جهة والانفتاح من جهة أخرى تحصين الذات بما لا يعني الانغلاق، والانفتاح بما لا يعني الذوبان.

بالنسبة لنا في العالم العربي والإسلامي فإن هذا يفرض مسؤوليات تربوية في الأسرة وفي المدرسة وفي الجامعة وفي الحياة العامة. وهي مسؤوليات أكبر وأثقل ضرورة وإلحاحاً مما كانت عليه الحال قبل نشوء الموجة الثقافية والتيار الثقافي الماحق والساحق الذي يتدفق بواسطة الإنترنت والتلفزيون والسينما والصحافة وما إلى ذلك تحت عنوان الحداثة.

د- الحداثة والعولمة

لقراءة البحث كاملاً يرجى تحميل الملف أدناه

تحميل