مميز
EN عربي
الكاتب: العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
التاريخ: 23/02/2014

من هو الإنسان؟ وما هي وظيفته؟

مقالات مقالات في قضايا فكرية

من هو الإنسان؟ وما هي وظيفته؟

العلامة الشهيد البوطي

الآن.. وقد علمنا أن سيادة القدر في الكون ليست إلى الإنسان، مهما أوتي من قوة، ومهما بلغ عمله، وفي أي عصر أو مكان وُجد، فمن عسى أن يكون الإنسان إذاً؟.. وما هو المركز الذي يتبوؤه في خضم هذا الكون؟

والجواب: أن الإنسان هو ذلك الحيوان المعقد العجيب الذي لم يفهم العلم منه إلا أنه جملة هيكل وعضلات وأعضاء وأنسجة وسوائل وشعور..

غير أن العلم أدرك رغم هذا أن الإنسان ليس مجرد هذه الكتلة؛ وإنما هو حقيقة خفية أخرى، تكمن وراء هذه الأمشاج!..

إنه تلك العلاقة الخفيَّة المجهولة بين المخ والشعور..

وهو تلك الصِّلة المبهمة بين الأعضاء والعضلات من جهة، ووجوه النشاط العقلي والروحي من جهة أخرى.. وهو ذلك السر الغامض العجيب الذي يغشى الجملة العصبية فنسميه الإرادة.

وهذا يعني: أن الإنسان مُنْفَعِل في ذاته أكثر من أن يكون فاعلاً.

أي: إنه_ حتى وهو يُمارس التعلُّم ويسعى وراء الاكتشاف وينبش عن مكنونات الأرض_ متأثِّر أكثر من أن يكون مؤثِّراً؛ لأنه لا يمارس شيئاً من هذا بتخطيطٍ منه لجوهر هذه الممارسة.

وحسبك _ لتفهم ما أقول _ أن تلاحظ أنه لا يعلم شيئاً عن كنه ذاته.

إنه يتعلَّم، ولكنه لا يدرك كيف تعلم!

وإنه يقرر ويريد، ولكنه لا يفهم إطلاقاً كيف انبعثت الإرادة من كيانه وكيف عزم وقرر!..

يفرح، ولا يعلم كيف فرح..

ثم يحزن ولا يدري كيف حزن!!..

تجده عاكفاً على موضوع علمي عويص، ينبش دخائله ويحلل عناصره بذهن متفتح وقاد.. وفي لحظة واحدة تختفي منه هذه الذات.. ويَفجؤك منه هيكل بارد جامد قد انخطفت منه السيما التي كانت تؤنسك، والذات العجيبة الفياضة التي كانت تناجيك وتحسُّ بك. فكأنه _ وهو لا يزال هو بلحمه وعظمه وهيكله _ شيء آخر غير ذاك الذي كان يقف أمامك قبل قليل!

حقا إن الإنسان منفعل في حياته أكثر من أن يكون مؤثراً، حتى وهو يشتد صاعداً في مراقي العلم والحضارة والفكر.

وانظر كيف يعبر بيان الله عزَّ وجلَّ عن هذا المعنى الدقيق بكلمة واحدة في هذه الآية: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}الإسراء70

إنها كلمة (كرّمنا)، فهي تقول: لم يكن الإنسان هو المكرم لذاته ولم يكن هو المبدع لأسباب عوّه وسموّه على سائر المظاهر الكونية الأخرى؛ وإنما سيق إلى التكريم سوقاً، سيق إليه من حيث لا يعلم، وغُرست في كيانه مقومات الكرامة والسيادة دون أن يفقه منها شيئاً، فقد كُرّم من قِبل غيره، ولم يكن هو صاحب الفضل في تكريم ذاته وإبداع أسباب الأفضلية فيها.

والإنسان _ بناءً على ذلك _ كائن لا يملك من أمر ذاته شيئاً؛ محكوم بيد ذاك الذي أبدعه مع جملة ما قد أبدع من مظاهر هذا الكون، وهو الله الخالق الباري عزَّ وجلَّ.

وأدق تعبير علمي جامع لهذا الوصف أن تقول: إنه عبد لهذا الإله الخالق.

أي إنه مجرد سلعة ممتازة في البضاعة الكونية العائدة إلى الله عزَّ وجلَّ.

تلك هي هوية الإنسان بحد ذاته، أيّا كان دينه ومذهبه، ومهما كان سلوكه واتجاهه، غنياً كان أو فقيراً، حقيراً كان أو أميراً.

هوية دمغت بها حقيقة الإنسان، فلا انفكاك عنها بحال.

إن هذه الحقيقة بالنسبة إليه، إحدى السنن الكونية القاهرة الثابتة، فلا ينفع في التخلص منها انفلات نحو العلم، أو فرار نحو القوة، أو تقلب محدود على بساط الحريه، أو تربُّع فوق عرش الحُكم والمُلك.

ذلك لأن هذه العبودية من داخل كيانه وليست ملتصقة به من خارج ذاته، فلا مفر منها بحال!

تجد طابعها فيما قد ذكرناه، من كونه منفعلا بالحياة أكثر من أن يكون فالعلا لها، متأثراً بقانونها أكثر من أن يكون مؤثرا فيه.

تجد طابعها في سائر متقلباته الجسمية والعضوية والنفسية.

ينام دون أن يملك من أمر نومه شيئاً، لا الجلب له ولا الامتناع منه. ويستيقظ دون أن يملك من هذه اليقظة شيئاً لا التحقيق لها ولا الفرار منها.

وتسلأل عن السر، فلا تجده إلا في بيان هذا الخالق عزَّ وجلَّ:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}الأنعام60

الله يتوفى الأنفس حين موتها..

يتقلب في مراحل الطفولة اليافعة، فالشباب القوي الغض، فالكهولة الوسطى، فالشيخوخة المدبرة، فالموت الذي لا مفرّ منه؛ إن كتب له أجل وطال به العمر.

ويسأل العلم عن السر، فلا يجيبه إلا قول الله عز وجل {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}الروم54

تجده، إن أقبلت إليه النعمة وأوتْ إليه القوة، سكرانَ منتشيا بكأس نعيمه وبسطة قدرته_ إلا من ألجم نفسه بلجام العبودية لله_، لا يؤمن بربوبية خالق، ولا يرى في عنقه سُنّة لواهب. فإذا أدبرت النعمة عنه، وتحولت القوة ضعفا، وتسللت مصيبة ما إلى حياته استيأس معها من المجير والنصير، تجده وقد انخلع عن جبروته وصحا من سكرة نعيمه، وتعرف إلى هذه العبودية الجاثمة في كيانه، ثم راح يهتف مستغيثاً باسم الله ورحمته وألطافه.

ولستُ أنسى ما عشت _ ظاهرة ذكرتها لسائر طلابي _ يوماً قُطِعَ فيه الطريقُ بنا من ما بين اللاذقية ودمشق، بتراكُم الثلوج.. كان "البولمن" يخوض بنا غمار عاصفة ثلجية أحالت الكون أمامنا إلى كتلة بيضاء؛ لا تستبين فيها أرض ولا سماء، ولا تبدو فيها معالم جبل ولا طريبق، كانت السيارة تترنَّج بنا ذات اليمين وذات اليسار بسبب الجليد، وكانت حوادث الموت والهلاك منتشرة حولنا.

فأذكر أن جميع المسافرين_ وهم بضع وثلاثون راكباً_ استحالوا في تلك الساعة إلى قلوب مؤمنة طاهرة، وألسنة مستغفرة ذاكرة، وقال قائل منهم _ وما عرفته قبل ذلك إلا أشدهم انغماساً في اللهو وأبعدهم عن الدين_: إننا خمسة وثلاثون دعاء لن تُردّ.

إنها إحدى الحقائق الراسخة في فطرة الإنسان وكيانه: تنفخه النعمة فينسى ذاته وينسى ربه، وتذله المصيبة فيتعرف على ذاته ويذكر ربه.

ويسأل العلم عن السر؟ فلا يجيبك إلا قانون الله عز وجل : {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يونس12

وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً}الإسراء67

فهل تبقى مع هذه الأدلة من ريبة تبعث الشك في معرفة هوية الإنسان؟

وهل يحتاج الباحث الحرُّ إلى أدلة تكشف عن ذاته بعد هذا الذي أوضحناه؟

إلا أن الإنسان عبد مملوك لله عزَّ وجلَّ، أبدعه كما شاء، ورقّاه في درجات العلم والدراية والقوة، إلى أن سخَّر له أكثر ما حوله من مظاهر الكون، وانبسط له عليها عرش من السيادة والسلطان؛ ثم نكَّسه الله تنكيساً وأعاده إلى حيث انطلق به، فركبه الضعف بعد قوة، وغشيه النسيان بعد علم، وانطفأت شعلة حياته بعد طول المتاع، والمآل كله بعد ذلك إلى الله.

وإن العاقل الحُر ليخِرُّ ساجداً لعظمة البيان الإلهي الذي يعبر عن هذا كله بهذه الكلمات: [لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ{4} ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ{5} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ{6}]

وغنه ليتضاءل صغاراً أمام هذا التحدي الإلهي الثاني: ({يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء} {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}

وصدق الله العظيم إذ جمع الحقائق كلها في هذا الخطاب الجامع الموجز: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}

تلك هي حقيقة الإنسان، انتهينا من بيانها وعرض الأدلة عليها، وإنها لمستغنية عن البيان بذاتها، ناطقة في كيان كل فرد من الناس بالتعريف بنفسها..

ولكن ما أكثر ما يحتاج الإنسان في هذه الحياة إلى إيضاح الواضحات وشرح البديهيات.

أما الآن، فما وظيفة الإنسان؟

أتذكر حقائق التي أبرزناها آنفاً، تحت عنوان: الكون والسلوك؟ إن في تلك الحقائق لبياناً يكشف لك عن الوظيفة التي حُمِّلها الإنسان في هذه الحياة.

إذا كان السلوك الاختياري ينبغي أن يكون انعكاساً منسجماً للواقع الاضطراري..

إذاً، فإنَّ وظيفة الإنسان هي ممارسة العبودية لله تعالى بالسلوك والاختيار كما قد فطره عليها بالقهر والإجبار.

وهذه الحقيقة لا تحتاج إلى فلسفة ومزيد شرح وبيان.

فإنَّ العبد المملوك الذي لا يملك من أمر نفسه شيئاً، ولا يأتيه الرغد من العيش والنصب من البلاء إلا من قِبل سيده المالك لرقبته، ينبغي أن يكون سعيه كله من أجل الحصول على مرضاة سيده هذا.

ومعاذ الله أن يكون في الكون كله مالك حقيقي غير من بيده مقاليد السموات والأرض الملك الواحد القهار.

المصدر: كتاب "من هو سيد القدر في حياة الإنسان".

تحميل