مميز
EN عربي
الكاتب: د. عبد الله الشامي
التاريخ: 11/01/2014

موقف علماء الشام من الثورة على الحاكم الجائر

مقالات

في سبيل تحصين العقيدة والمنهج (2)
موقف علماء الشام من الثورة على الحاكم الجائر
د. عبد الله الشامي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا كلام كانت لديّ رغبة شديدة في كتابته وقوله يوم أن ذرّ قرن فتنة الشام وأطلّت برأسها، ولكنّ الذي منعني من ذلك آنذاك، هو يقيني أنّ معظم الناس –حينها- ما كانوا ليُعِيروه أسماعهم، ولم يكن عندهم أدنى استعداد لتقبُّله، فقد كان كثيرٌ منهم يعيش حالة حالمة، تتراءى له فيها الأحلام الورديّة المجنّحة، فيحسبها حقيقة واقعة، ويسيح خياله مع الأماني التي تداعبه و تدغدغه، حتى وقع في حالة من الغيبوبة الفكرية، وأصبح رهين نشوة الأماني، فكان يحلم بأن يرى حُكماً عادلاً، ولا كذلك عدالةُ سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بل كان يحلم بأن الدّنيا قد تحوّلت إلى جنّة، حتى صار لكل فردٍ فردٍ جنّته الخاصّة به، وقد صدق في وصف حال هؤلاء قول القائل:
أنا النشوان من خَمْر الأماني ونشوان الأماني ليس صاحي
والآن وقد ذهبت السَّكْرة وعادت الفكرة، أحسب أنّه غدا عند كثيرٍ من الناس استعداد ليسمع.
وينبغي أن نعلم أنّ كلامي هذا ليس لإيقاف الفتنة، فإنّ الأمر أكبر من ذلك بكثير، لأنّ الفتنة وقعت، ولا يستطيع أحد غيرُ الله تعالى أن يوقفها، ونسأل الله تعالى السلامة والعافية، ولكنّ الغرض من كتابة هذه الأسطر، هو العمل على تحصين عقيدة المسلم، والدِّفاع عن منهج أهل السّنّة، ليعلم كلّ إنسان براءته من هذا الدَّمار الذي حلّ بسورية، ويوشك أن يحلّ بغيرها والعياذ بالله تعالى.
لا يشك أحد في أنّ ما جرى في تونس ومصر كان الطُّعم الذي ورّط أهل سورية في هذه الأحداث التي عصفت بالبلاد، وأوصلتها إلى ما أوصلتها إليه من البؤس والدّمار، ولا يرتاب أحدٌ في أنّ العلماء لم يُستشاروا في ذلك، بل لقد سمعنا الوِلدان ومَن طاشت عقولهم يقولون في نشوة بالغة وتباهٍ عجيب: "لقد تجاوز الناس العلماء"!!!. ورأينا كثيراً من مظاهر قِلّة الأدب مع العلماء، لأنّهم لم يسايروا الغوغاء والسُّفهاء، بل حاولوا أن يردّوهم إلى رشدهم، فلم يكن علماء الشام الذين تُعقد عليهم الخناصر مختلفين في عدم جواز الخروج في المظاهرات، وقد رأيناهم وسمعناهم يخطبون على منابرهم، ويحذّرون الناس من ذلك، ومنهم أسماء لامعة أصبحت من المعارضة فيما بعد، وخطبهم محفوظة.
وحتى هؤلاء الذين أصبحوا معارضين، ثم دعوا إلى الجهاد ضد الحاكم، لم يكن سبب اتّخاذهم هذا الموقف، اختلافاً على أصل المسألة، التي هي وجوب السّمع والطاعة للحاكم الظالم في غير معصية، وعدم جواز الخروج عليه ولو كان فاسقاً فاجراً، ولكن ذلك كان لأسباب أخرى، ولو أنّك سألتهم الآن وقبل الآن عن حكم الخروج على الحاكم الفاسق، لصرّح بأنّه حرام .. حتى علماء سورية الذين كانوا خارجها كان لهم الرّأي نفسه .. فنحن بحمد الله عهدُنا بعلماء الشام أنّهم منضبطون بمنهج أهل السنة، ولا يخرجون عليه من حيث الاعتقاد على الأقل .. نعم، قد تجد سلوكاً مخالفاً، ومشكلة بين بعض العلماء وبين الحكومة في حالات نادرة، ولكن الاعتقاد شيء والسلوك شيء آخر، فالاعتقاد هو ما ذكرت، وليس بالضرورة أن يكون السلوك مطابقاً للعقيدة دائماً، فكم من المخالفات الشرعية نرتكبها ونحن نقرّ بكونها معصية .. وإلاّ فهل سمع الناس أحداً من علماء الشام يشكك في أحاديث السّمع والطاعة للحاكم الفاسق، هل سمعنا أحداً من علمائنا يشكك في الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه، وغيره كأحمد والحاكم، من حديث حُذَيْفَةُ بن الْيَمَانِ رضي الله عنه، قلت: يا رَسُولَ، اللَّهِ إِنَّا كنا بِشَرٍّ فَجَاءَ الله بِخَيْرٍ فَنَحْنُ فيه، فَهَلْ من وَرَاءِ هذا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قال: نعم. قلت: هل وَرَاءَ ذلك الشَّرِّ خَيْرٌ؟. قال: نعم. قلت: فَهَلْ وَرَاءَ ذلك الْخَيْرِ شَرٌّ؟. قال: نعم. قلت: كَيْفَ؟. قال: يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ ولا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ في جُثْمَانِ إِنْسٍ. قال: قلت: كَيْفَ أَصْنَعُ يا رَسُولَ اللَّهِ إن أَدْرَكْتُ ذلك؟ قال: تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ؛ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ" .. إلى أحاديث أخرى كثيرة في هذا المعنى تطفح بها دواوين السّنّة المطهّرة.
هذا. في حين أنّ بعض العلماء، ممّن لهم شهرة -من غير علماء الشام- شكّك في هذا الحديث الصحيح على شاشات بعض الفضائيات المشهورة، وحاول بذلك أن ينسف أصلاً راسخاً من أصول أهل السنة والجماعة، ليثير في الناس مزيداً من الهيجان للخروج في المظاهرات، بل قد وجدنا من أثر تشكيكه هذا مَن يردّد قوله عليه الصلاة والسلام:"تسمع وتطيع" بأسلوب ساخر، وفي استخفاف وسخرية وقحة.
وفي تلك الأثناء حاول بعض أساتذة علم الحديث الفضلاء (من أهل الشام) أن ينبّهوا ذلك العالم إلى خطئه، لعلّه يرجع عنه، ولكنّه لم يلتفت إلى كلامهم، بل ظلّ على موقفه وتشكيكه، مع العلم بأنّه ليس بصاحب حديث، ولا له فيه بضاعة، ومع أنّ مَن نبّهه من علماء الشام لم يكن على علاقة طيّبة مع النظام في سورية.
ومع هذا، فإنّه عندما بدأت ما يُسمّيه البعض بثورات الرّبيع العربي، لم يجرؤ العلماء على البَوح بما في نفوسهم، حتى لا يثيروا على أنفسهم الغوغاء، وتلك رخصة قد أخذوا بها، إذ ما فائدة كلام لايُسمع، ويجلب الضّرّ لصاحبه .. ولكن وُجد فيهم –مع هذا- من أخذ بالعزيمة، وقام بأداء الفرض الكفائي، فواجه الطّوفان، وتحدّى التّيار الجارف، وشمخ كالطَّود، محاولاً أن يجعل من نفسه سدّاً في وجه الإعصار، فقوبل بما قوبل به من التخوين والغفلة والتكذيب، من الرّعاع والعامّة، بل حتى من كثيرين ممّن يُعَدّون من الخاصّة .. وقف هذا الموقف الشجاع العلامةُ الشهيد البوطي رحمه الله عن علماء الشام كلّهم، بل عن علماء السنة، وقبِل بكل ما يترتّب على اتِّخاذ هذا الموقف، قبِل بالتخوين وهو الأمين، وأن يوُصَم بمعاداة الشعوب التي تبحث عن الحرية، وهو المشفقُ عليها، والآخذُ بحُجَزِها حتى لا تُلقي بنفسها في النار، وبممالأة الظلمة والوقوف إلى جانبهم في ظلمهم والرّكون إليهم، وقد علم كلّ عاقل منصف أنّه لم يكن كذلك في يوم من الأيام.
ولا ينبغي أن يُفْهم من كلامي هذا، أنّ أهل الشام وحدهم هم المحافظون على منهج أهل السّنّة، بل إنّ في الأمّة خيراً كثيراً، فهناك علماء كُثُر مؤتَمنون على إرث النبوة، لا يختلفون عن أهل الشام في هذه المسألة، ولكنّهم كانوا يصرٍّحون بالحقيقة همساً فيما بينهم، ولم تكن عندهم جرأة العلامة الشهيد السعيد حتى يستعلنوا بين الملأ بموقفهم المعارض لهذه الحراكات الطّائشة.
ففي هيئة علمية مشهورة لها نشاط على الساحة الإسلامية، وفيها شخصيات مشهورة وأسماء لامعة .. كان فيهم رجل من العلماء الرّبّانيّين من بعض بلدان المغرب العربي، له قدم راسخة في العلم والتقوى، قال لأعضاء هذه الهيئة -لمّا رأى انسياقهم وراء هذه الحراكات الشعبية: إنّنا الآن خوارج، أي نحن بتأييدنا لهذه الحراكات متّبعون لمذهب الخوارج، الذين يرون الخروج على الحكّام الجائرين الفسَقة، ولسنا على منهج أهل السنة، الذين يرون الصّبر على الحاكم الجائر، مع دعوته إلى الحق، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بالحكمة واللّين كما أمر الله تعالى، وقال لهم: إنّ هذه الثورات إذا أطاحت بأنظمة الحكم القائمة، ووصل الإسلاميّون إلى سُدّة الحكم؛ فسوف تحتاجون إلى عشرين سنةً -على الأقل- من العمل الدَّؤوب، لكي تُقنعوا الناس بأن الخروج عن طاعة الحاكم والثورة عليه هو منهج الخوارج، وليس منهجَ أهل السنة، وإلاّ فإنّ الناس سيثورون على حكّامهم الجدد من الإسلاميّين كما ثاروا على غيرهم.
وأخيراً أسوق لك كلاماً لاثنين من العلماء، هما أكبر مرجعين لأولئك الذين يدّعون أنّهم سلفية، لتعلم أنّ هذا هو موقف سائر من ينسب نفسه لمدرسة السنّة، هذان العالمان هما الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين رحمهما الله.
يقول الشيخ ابن باز: "ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة، وذِكرُ ذلك على المنابر؛ لأنّ ذلك يفضي إلى الفوضى، وعدم السّمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضرّ ولا ينفع، ولكن الطريقة المتّبعة عند السّلف النصيحةُ فيما بينهم وبين السُّلطان"، وقال الشيخ ابن عثيمين: "فاللهَ اللهَ في فهم منهج السّلف الصالح في التعامل مع السلطان، وأن لا تتخذ من أخطاء السّلطان سبيلاً لإثارة الناس، وإلى تنفير القلوب عن ولاة الأمور، فهذا عين المفسدة، وأحد الأسس التي تحصل بها المفسدة بين الناس. كما أنّ ملء القلوب على ولاة الأمر يُحدث الشّرّ والفتنة والفوضى ... ولْيُعلَم أنّ مَن يثور إنّما يخدم أعداء الإسلام، فليست العبرة بالثورة ولا الانفعال، بل العبرة بالحكمة" وقال أيضاً: "فإنّه يجب علينا طاعة ولاة الأمور وإن كانوا عصاة؛ فنقيم معهم الحجّ والجهاد، وكذلك الجُمَع، نقيمها مع الأمراء ولو كانوا فُجّاراً"، هل تجد في كلام هؤلاء ما يخالف الكلام الذي كان العلاّمة الشهيد البوطي رحمه الله يجلجل به على منبر الجامع الأموي إلى يوم وفاته؟. والحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تحميل