مميز
EN عربي
الكاتب: العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
التاريخ: 07/01/2014

حوار حول الطريقة المثلى لفهم شخصية محمد عليه الصلاة والسلام

بحوث ودراسات

قارئي الكريم أياً كنت، وإلى أي مذهب انتميت: دعني أحاورك من خلال كلمات موجزة، مجتمعاً معك على صعيد واحد، هو ذاك الذي يسمونه: حرية الفكر، أي حرية الفكر عن التقيد بأي أسبقية تستعبده لهدف مرسوم، وعن الخضوع لأي رغبة تستذله لاتباع النفس ووحي الأمزجة والرغبات.


وحواري معك لن يتجاوز بضع نقاط، لا بل لن تزيد على ثلاث نقاط، نستعرضها معاً طبق تسلسل منهجي سليم:


النقطة الأولى: كيف نتحدث عن محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف نتعامل في فهم سيرته وحياته عندما نريد أن نتجه بأفكارنا في مناسبة ما، إلى شيء من ذلك؟ هل نفتش عن مزاياه العقلية والعلمية، أم نحلل أخلاقه الشخصية، أم نركز على النظر في أعماله الإصلاحية، أم نلتفت إلى قيادته العسكرية، أم ندع كل هذا ونتبع مظاهر عبقريته النادرة وفراسته الصائبة؟


والمعروف لنا جميعاً أن كثيراً من الكتاب والباحثين تفرقوا في جوانب شتى من هذه الاختيارات، حتى تجمعت في دراستهم المتنوعة ما يمكن أن يفي بهذه المزايا كلها، وما من ريب أن الجمهرة الكبرى من هؤلاء الكاتبين - على اختلاف نحلهم ومشاربهم - قد انتهوا إلى اتفاق علو كعبه صلى الله عليه وسلم في هذه الجوانب الإنسانية كلها.


ولكن هل تتفق هذه الاختيارات متفرقة أو مجتمعة متضافرة مع المنطق العقلي السديد، فيما يرسمه من منهج للطريقة العلمية المثلى في دراسة حياة محمد صلى الله عليه وسلم؟


بوسعك أن تعلم أن هذه الاختيارات كلها ليست إلا اهتمامات عقيمة عابثة، إن تساءلنا في تأمل فكري صافٍ عن الشوائب، عن الهوية التي قدم هذا الرجل نفسه إلى الناس كلهم على أساسها.


من الثابت يقيناً أنه لم يعرف الناس على ذاته إلا من خلال هوية واحدة، قدم نفسه إلى العالم كله على أساسها، ألا وهي أنه رسول إلى الناس كلهم من قبل الله عز وجل، وأنه يحمل إليهم منه أنباء في غاية الأهمية عن الإنسان وحقيقته وعلاقته بالكون والحياة، كما يحمل إليهم جملة أوامر وتحذيرات تتعلق بالفكر والسلوك سيتحملون مسؤولية تضييعها أو الاستهانة بها.


يتبين لنا ذلك من خلال مواقف كثيرة في حياته صلى الله عليه وسلم، نذكر منها هذين الموقفين:


أولهما: يوم اتجه إلى الصفا -رابية صخرية على مقربة من الكعبة- ملبياً قول الله له: )وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ( [الشعراء 214]، وأخذ ينادي القبائل واحدة واحدة. روى ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما نزلت هذه الآية: (وأنذر عشيرتك الأقربين) صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا، فهتف: "يا صباحاه"، فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد، فاجتمعوا إليه، فقال: "يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب"، فاجتمعوا إليه، فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاُ تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟" قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"[2].


ثانيهما: يوم أرسلت إليه قريش تفاوضه أن يتخلى عن دعوتهم إلى الدين الذي قال إنه بعث به، لقاء تنصيبهم له زعيماً عليهم، لا يقطعون دونه برأي ولا بأمر، وأن يعطوه من المال ما يجعله أغنى الناس فيهم، فكان آخر ما قال: "ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل علي كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا منِّي ما جئتكم به فهو حظُّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردُّوه عليَّ أَصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم"[3].


إذن فمحمد صلى الله عليه وسلم إنما قدم نفسه إلى العالم على أنه رسول من الله، يحمل إلى الناس أنباء تخصُّهم وتتعلَّق بمصيرهم، وما هم مقبلون عليه مما هو مخبوء خلف سجاف الغيب، ولم يُقدم نفسه لأحد من الناس أو لأي فئة منهم، على أنه زعيم أو مصلح سياسي أو اجتماعي، أو ذو مَهارة عسكرية متميزة، أو فكر قانوني فذّ.


إذن، أليس الإعراض عن هذه الهوية التي عرَّف محمد صلى الله عليه وسلم نفسه للعالم من خلالها، مع الاشتغال والتسلي بهذه الجوانب في شخصيته وتلمُّسها والإطالة في تحليلها، عملاً سخيفاً عابثاً يشمئز منه المنطق العقلي، وينم على حمق في الفكر وبلادَةٍ في الطبع؟.


وهل من فرق بين هذا الشاغل العابث بشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحليلها، وعبث رجال يمتطون سياراتهم متجهين نحو بلدة يَقصدونها، ولما توسطوا الصحراء ضاعت عليهم معالم الطريق، ووقفوا في مكانهم حائرين، وبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رجل من أهل البادية، وقد عرف مصيبتهم التي يَشكون منها، فأنبأهم بأنه ابن هذه الصحراء وأنه خبير بطرقها ومسالكها، ثم دلهم على الطريق الذي يُوصلهم إلى البلد الذي يقصدون، وحذرهم من التوجه إلى المسارب والسبل الأخرى، ونبههم إلى ما قد يَكمن فيها من المهالك والأخطار، غير أن القوم كانوا في شغل شاغل عن حديث الرجل ونصيحته لهم وتعريفهم بنفسه، بما انصرفوا إليه من التأمل في شكله ومظهره ومنطقه البليغ، وقوة عارضته ومركزه الاجتماعي الذي يتجلى من خلال هيئته ولباسه، ناسين أو متناسين المشكلة التي هم بصددها.


أقول: هل من فرق بين عَبَثِ - بل سُخْف - كل من الموقفين والصورتين؟.


طُلِبَ إلي قبل سنوات أن أكتب فصولاً في السيرة بأسلوب مُبسط يُمكن أن يُفيد منه الصغار، فكتبت بضع صفحات وأطلعت الطالبين عليها ليروا رأيهم في المنهج والأسلوب، فقيل لي: إن الحديث عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بها، مثار نظر ونقاش، ومثار خلاف طائفي، أما عظمته ومزاياه الإنسانية، فمحل اتفاق وإجماع، لذا فإنا نرى غض النظر عن مسألة نبوته، وتحليل حياته من الجوانب الإنسانية الأخرى!.


قلت: إنني لم أصل بعد من الحمق والسذاجة إلى أن أعرض عن الهوية التي قدم نفسه محمد صلى الله عليه وسلم إلى العالم من خلالها، ثم أتشاغل وأتسلى بدلاً عنها بالحديث فيما لا طائل فيه ولا فائدة لي منه.


النقطة الثانية: إذا كان هذا الذي قُلناه واضحاً متفقاً مع المنطق ومقتضيات الموضوعية والعلم، فإن دراسة السيرة النبوية يجب أن تكون طبق منهج متفق مع هذا الحق الذي أوضحناه، أي إن مركز الثقل من اهتمامنا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته، يجب أن يتمثل في تلك الهوية التي عرف نفسه إلى العالم على أساسها، وأن يدور حول المسؤوليات التي قال إنه جاء يحمل أمانة تبليغها إلى الناس ووضعها في أعناقهم.


وليس معنى هذا الواجب أن نغمض أبصارنا وبصائرنا ونؤمن بما قاله هذا الرجل عن نفسه إيماناً عشوائياً، ونفرض الصدق في كلامه دون بحث أو استدلال، ثم نرهق كواهلنا تلك المسؤوليات دون أي تأمل ولا تحميص.


وإنما معناه أن علينا ، وقد أنبأنا عن الرسالة التي قال إنه يحملها إلى الناس من قبل الله عز وجل، أن نضع كلامه هذا تحت مجهر الدراسة والنظر، اعتماداً على بصيرة عقلية متحررة عن أي عصبية نفسية، أو أي أسبقية مذهبية، فإن كانت نتيجة هذه الدراسة هي الوصول إلى التأكد من صدقه فيما أخبر به من الرسالة التي حُمِّلها والمسؤوليات التي كُلِّف بإبلاغها، فلا مناص من الإيمان بتلك الرسالة، كما أنه لا مفر من الخضوع لما يقتضيه هذا الإيمان، وليس له من مقتضى سوى تحمل المسؤوليات التي وضعت في أعناقنا، والنهوض بها جهد الاستطاعة والوسع.


أما إن كانت نتيجة هذه الدراسة هي التأكد من كذبه فيما ادعاه، أو حتى الارتياب والشك في ذلك، فمن الخير عندئذ إهمال شأنه وإراحة النفس من القلق الذي قد يساورنا من أحاديثه وتنبؤاته، ولا قيمة في هذه الحال لكل ما تلمحه في شخصه من مظاهر العظمة والنبوغ والمزايا الإنسانية النادرة، فإن من شأن ذلك كله أن يذوب وينمحي في ضرام مثل هذا التدجيل الذي تلبَّس به.


وأقول هنا بحق وصدق: ما من باحث متدبر وضع الهوية التي قدم محمد صلى الله عليه وسلم نفسه إلى العالم على أساسها تحت مجهر البحث والنظر بموضوعية وفكر صاف متحرر، إلا وعلم علماً جازماً أنه صادق فيما عرّف نفسه به، وأنه - دون ريب - نبي مرسل من رب العالمين إلى الناس جميعاً ليخبرهم بما ينبغي أن يعلموه، وليأمرهم بما يجب أن يفعلوه، وليحذرهم عما يجب أن يجتنبوه.


فأنت إن وقفت تدرس ظاهرة الوحي في حياته، وصلت إلى هذا اليقين.


وإن أقبلت تتأمل في إعراضه القوي والفعلي طوال حياته عن الدنيا ومظاهرها، وعن الزعامة وأسبابها، وصلت إلى هذا اليقين ذاته.


وإن تأملت في سمو أخلاقه ودوام صدقه، وما عرف به من أمانة ورقة في مشاعره الإنسانية، زادك ذلك كله دعماً لليقين نفسه.


وإن ذهبت تقارن بين كلامه الذي يصدره من أعماق نفسه ويصوغه بأسلوبه وبيانه، وبين القرآن متمثلاً في أسلوبه الفريد الذي يتميز به عن الكلام العربي كله، ومضمونه الذي يَقف من بعض مَا يَقضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يَرتئيه ويجتهد فيه موقف المخطئ والمصحح بل ربما العاتب، رأيت نفسك وعقلك أمام هذا اليقين ذاته.


وإن فكرت في عموم التاريخ الإنساني وسلسلة النبوات والرسالات التي امتدت في أعماقه، وفي علاقة أولئك الرسل والأنبياء بعضهم ببعض، رأيت نفسك مرة أخرى أمام هذا اليقين ذاته.


والآن، لا بد أن يسير بنا المنهج العلمي في البحث إلى النقطة الثالثة والأخيرة: وهي إنما تتمثل في النتيجة العلمية التي ينبغي أن تأتي ثمرة طبيعة لدراية تامة لكل من تلك النقطتين، بعقلانية متحررة ومنهج موضوعي سليم.


إذا عرفنا محمداً صلى الله عليه وسلم عرَّف نفسه إلى العالم من خلال قوله وتأكيده المتكرر بأنه رسول الله إلى الناس كلهم، وأنه قد ندبهم إلى التأمل في دعواه هذه بفكر متيقظ حر، وإذا استجبنا لذلك فتأملنا في سيرته ونهج حياته، فعلمنا بيقين لا يلحقه ريب، أنه صادق فيما أخبر عن نفسه، وفي الرسالة التي قال إنه يحملها من الله إلى الناس، إذن فما هو الشيء الذي يفرض علينا المنطق العقلي الصافي المبادرة إلى فعله وتنفيذه؟.


لا يشك أي من العقلاء الذين يحاكمون القضايا بالمنطق والفهم الموضوعي، في أن الشيء الذي يوجهنا العقل إلى فعله دون إمهال، هو الإعلان عن الإيمان بهذه الهوية التي عرّف رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه من خلالها، ثم المبادرة إلى تحمل المسؤولية التي كلفنا الله بها عن طريق هذه الرسالة التي تحملناها عن طريقه.


وبنود هذه المسؤولية واضحة وصريحة في الكتاب الذي أنزله الله وحياً إلى هذا الرسول الذي آمنا به وأيقنا بصدقه.


فهذا الكتاب يتضمن تعريفاً للإنسان بذاته ونشأته وعلاقته بالمكونات التي من حوله، وقصة الرحلة التي يجتازها في هذه الدنيا، وأنباء ما هو مقبل عليه من أحداث ما بعد الموت والنشأة الثانية، والجزاء الذي هو على موعد معه ولا مناص له من تجاوزه أو الحيدة عنه.


وهذا الكتاب يتضمن أيضاً بياناً لقائمة المهمات والواجبات الفردية والاجتماعية التي كلف الإنسان بالنهوض بها، وبياناً بقائمة المنهيات التي كلف بتجنبها والابتعاد عنها، كما يتضمن تأكيدات متكررة بأن تلك الواجبات لم تفرض عليه إلا تحقيقاً لمصلحته، وإن غاب عن الإنسان وجه المصلحة فيها، وأن المنهيات لم تُحرَّم عليه إلا وقاية له من سوئها، وإن غاب عنه وجه السوء الذي فيها، أليس هو القائل: )وَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئَاً وَهُوَ خَيرٌ لَكُم وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيئَاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُم وَاللهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لا تَعلَمُون([البقرة: 216].


كما يتضمن هذا الكتاب تأكيدات متكررة بأن الإنسان إنما يتحرك تحت سلطان الله، وفي دائرة ملكه، فلا مفرَّ له من قبضته، ولا نجاة له من حكمه، وقد كتب الله على نفسه الرحمة لكل من أذعن لحقائق عبوديته له، ثم سعى جاهداً إلى وضع هذه العبودية لله موضع التنفيذ، وألزم نفسه بتحقيق الحياة الطيبة له في كل من الدنيا والآخرة، فقال: )مَن عَمِلَ صَالِحَاً مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُون([النحل: 97].


ولكنه جل جلاله التزم أيضاً بأن يزج كل من أعرض مستكبراً عن حقائق عبوديته له عز وجل، في غياهب الشقاء وضَنَك الحياة، في كل من الدنيا والآخرة معاً، فقال: )وَمَن أَعرَضَ عَنْ ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكَاً وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرتَنِي أَعمَى وَقَد كُنتُ بَصِيرَاً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَومَ نُنسَى( [طه: 124- 126].


أفليس عجباً، يا قارئي العزيز، أن يمر أحدنا بالنقطة الأولى التي أوضحناها، ثم يتجاوزها إلى التي تليها فلا يرتاب عقله في أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبيه المرسل من قبل ربه إلى الناس جميعاً كما قال، لم يكذب على الناس، ولا افتأت على الله، حتى إذا دفعه منطق المعرفة طبق التسلسل المنهجي إلى السلوك والتنفيذ، تقاعس وتراجع ونكص على عقبيه، وأقام بينه وبين رسالة الله إليه، بعد أن وعاها واستيقنها مختلف الحواجز والسدود، ثم أعرض عنها مُلتفتاً عنها إلى اليسار مرة واليمين مرة أخرى؟.


أما إن كنت ممن يقول: ولكني لم أشغل ذهني -لحسن الحظ- لا بالنقطة الأولى ولا الثانية من حياة هذا الرجل، وإنما اكتفيت من معرفته بما يمليه زادي الثقافي العام الذي جعلني أدرك أنه كان عظيماً من الناس، وكان واحداً من المصلحين لحياة أقوامهم، وإذن فأنا لا أقع تحت طائلة ما قد يتهددني من جراء عدم الالتزام بمقتضى رسالته، ومن جراء عدم تحمل شيء من المسؤوليات التي تضمنها وانطوت عليها.


أقول: أما إن كنت واحداً ممن يقول هذا الكلام، فإنما أنت كالذي فرَّ من رشاش المطر إلى أمواج الطوفان، أو كالذي عالج الحمى بالطاعون.


إن بوسعك أن تتخيل أن هذا الاعتذار باب نجاة لك من تحمل المسؤوليات والالتزامات، ولكنك سرعان ما تعلم بأنه ليس إلا كالباب الذي تخيلته النعام مصدر نجاة لها، إذ دست رأسها إلى أقصى ما استطاعت من ظلمات الرمال!.


ليست المعذرة الحقيقية ألَّا تشغل بالك بالنبأ الذي أقبل به محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس، إنما المعذرة الحقيقية أن تقبل بذهنك إليه وإلى حديثه، فتدرك بيقينك العقلي الحرّ أنه كاذب فيما يقول، فتنصرف معرضاً عنه، وقد فتحت لنفسك بيقينك هذا أوسع آفاق المعذرة والنجاة.


ولكن إعراضك عن حديثه، خوفاً من أن يكون صادقاً فيحرجك صدقه وتقع تحت مسؤولية ما يحمله إليك من أنباء وأحكام، يحمّلك غداً بين يدي الإله الذي أرسله إليك جريرتين عظيمتين:


إحداهما: الإعراض عن نبيه الذي أرسله إلينا.


والثانية: الفرار دون عذر من المسؤوليات التي حملك إياها وكلفك بتنفيذها.


ثم اعلم يا أخي القارئ، أن أعقل الناس من تصرف في حاضره الذي يمر به على ضوء الغد الذي هو مقبل عليه.


وأن أحمق الناس من تناسى غده الذي هو مقبل عليه في سبيل تلوين حاضره الذي يمر به باللون الذي يحبه ويشتهيه. سَمِّ ما شئت نوراً وتعامل معه على أساس ذلك، وسمِّ ما شئت ظلاماً وتعامل معه على أساس ذلك، ولكن فلتكن على يقين بأن المسميات لن تكون في الغد القريب مقرونة بالأسماء التي تشتهيها اليوم لها، ولكنها ستكون مقرونة بأسمائها الحقيقية الثابتة.


 من كتاب الظلاميون والنورانيون للعلامة الشهيد الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي


[2] أخرجه البخاري في تفسير القرآن، سورة البقرة، باب (وأنذر عشيرتك الأقربين (4496)، ومسلم في الإيمان، باب في قوله تعالى : (وأنذر عشيرتك الأقربين(333‏).


[3] أخرج القصة بتمامها ابن جرير الطبري في تفسيره سورة الإسراء، القول في تأويل قوله تعالى : (أو يكون لك بيت من...)، وقوله : (قل سبحان ربي...) (‏20694)‏ وأخرج قول النبي صلى الله عليه وسلم البخاري قي كتاب خلق أفعال العباد، باب ما جاء في قول الله : (بلغ ما أنزل إليك) (‏185).

تحميل