مميز
EN عربي
الكاتب: أ.د.نور الدين عتر
التاريخ: 23/09/2013

الشيخ عبد الله سراج الدين الحسيني

تراجم وأعلام

الشيخ عبد الله سراج الدين الحسيني رضي الله عنه

د. نور الدين عتر

بدء أمر الشيخ وطلبه للعلم:

اسم الشيخ ونَسَبه:

والشيخ هو العلامة الإمام شيخ الإسلام المحدث الحافظ، والفقيه المحقق، والمفسر المجتهد، والعارف المدقق، والعالم العامل الورع الرباني، الشيخ عبد الله بن محمد نجيب بن محمد سراج الدين الحسيني نسباً، الحنفي مذهباً، الحلبي بلداً، نزيل المدينة المنورة، من نفع الله به وبعلومه آفاق البلاد وأصناف العباد.

مولـــــده:

ولد رحمه الله سنة 1343 هجرية، الموافق 1924 ميلادية. في بيت علم وولاية، رعاه والده جدنا الإمام محيي السنة الشيخ محمد نجيب سراج الدين رحمه الله، ولقيت رعايته من ابنه شيخنا كل استجابةٍ وبِرٍّ، فكان ربما جعل صدره وهو صغير مٌسْتَنداً لرجلي والده، ويقبلهما وهما مسندتان لصدره جعله لوالده كالكرسي، كما أنه كان في عمل البيت مع والدته بكل حرص.

ملازمته والده:

وكان لجدنا مع صديقه الشيخ كامل المشنطَط صلة خاصة، وكانا يذهبان سوياً لبعض المشاهد ويصحبان شيخنا معهما وهو صغير، ويمكثان في ذلك المسجد زماناً طويلاً يشتغلان بالذكر والدعاء، لاسيما إذا نابت المسلمين نائبة، قال شيخنا: وربما تزوّدا لهذه الرحلة بالزاد لطول المكث، وكنت لا أعرف ما يفعلان، لكن كان ذلك تحضيراً لي للمستقبل.

حضور دروس والده:

وكان من ذلك التحضير استصحاب شيخنا الجد ابنه إلى دروسه ومجالسه من سن مبكرة، وكان شيخنا يقبل على ذلك برغبة صادقة، ويسير مع والده مسافات طويلة، مشياً على الأقدام، إذ لم تكن السيارات متوفرة آنذاك، قال: وكان أشد سير علي السير إلى دروس الجامع الأموي الكبير ظهر يوم الاثنين، وكان الطريق طويلاً من حارة البلاط شرق حلب إلى الجامع، ولاسيما في الصيف، لشدة الحر وطول الطريق وانعدام ما يظل والوقت وقت الظهر، فكنت أترقَّب الوصول إلى سوق الزرب، فأجد فيه ترويجاً أي لأنه مسقوف، سميك الجدران فيه رطوبة.

طلب العلم في المدرسة الخسروية:

ولما أردت الالتحاق بالخسروية قيل لي: إنهم يدرسون النحو فيها وهو صعب، فعزمت أن أدرس النحو بنفسي قبل دخول المدرسة، فعرضت ذلك على الشيخ عبد الوهاب المصري، فقال: أنا أٌقْرِئٌك النحو، فأقرأني كتاباً من كتب النحو، ثم كررت دراسته حتى تمكنت من علم النحو، وانفتحت أمامي مغاليقه، والتحقت بالصف الأول في الخسروية متأخراً عن بدء السنة، فجلست مع المستمعين حتى لا أضيع الوقت.

وكان الطلاب يدرسون النحو في ألفية ابن مالك وشرحها ويٌكلَفَّون بحفظها، وكان يقرر علينا في الصف الثاني حفظ (350) خمسون وثلاثمائة بيت من ألفية ابن مالك، لكني بدأت بها في الصف الأول وأتممتها في الصف الثاني، أي أنه كان سريع الحفظ، نشيطاً حريصاً على الوقت، لذلك اختصر من الزمن كثيراً.

التفوق المطلق:

قال: وتعرفت هناك على أصدقاء أحبوني وعرفوا مقامي تقديراً لوالدي، منهم أبو غدة، وفيض الله، وكنت صغير السن نسبة إليهم؛ إذ أٌدخلت قبل السن القانوني (وهو 14سنة) استثناءً، وكنت الناجح بالترتيب الأول في كل السنوات.

اجتهاد شيخنا في العلم وحفظه للكتب الستة:

قال شيخنا: وخصصت العطل الصيفية لحفظ الحديث فحَفظْتٌ أحاديث الكتب الستة في إجازات الصيف - وذلك بحفظه كما أخبرنا تيسير الوصول لابن الديبع الشيباني - ثم حفظت الترغيب والترهيب، وأحاديث المسانيد، وأحاديث التفسير المرفوعة والموقوفة. قلت: قدرت مجموع حفظه ثمانين ألف حديث، ومن ذلك وصفته بالحافظ.

وقد تلقى الشيخ العلم عن كبار العلماء في حلب من اساتذة الخسروية وغيرهم، وذلك لحرصه على العلم، فكان من مشايخه الشيخ محمد إبراهيم السلقيني الفقيه والأصولي فقيه الجهة الشمالية في سورية، والشيخ محمد راغب الطباخ محدث حلب ومؤرخها،والشيخ محمد أسعد عبه جي - وهم من شيوخي أيضاً - والشيخ عمر مسعود الحريري، والشيخ فيض الله الأيوبي الكردي، والشيخ أحمد الشماع وغيرهم، مثل الشيخ أحمد الكردي الذي أصبح بعد مفتي حلب، وكان فقهياً جليلاً، والشيخ إبراهيم السلقيني الكبير والد شيخنا، والشيخ محمد سعيد الإدلبي، والشيخ عيسى البيانوني، وغيرهم رحمهم الله تعالى.

وكان الشيخ محل تقدير أساتذته وإعزازهم، ومن لطائف ذلك قصد شيخه وهو شيخنا الشيخ محمد السلقيني زيارته، وتكرر ذلك منه رحمه الله تعالى، واستقبله شيخنا بغاية الإعزاز والتوقير، وخاطبه بلقب شيخنا.

وسأل بعض طلاب العلم شيخنا السلقيني قبل وفاته بشهرين: أنت درَّسْتَ الشيخ عبد الله سراج الدين؟ فقال رحمه الله: عيب أن أقول درَّسْتٌه، ولكن ذاكرت معه العلم.

وكأن شيخنا السلقيني - مع تواضعه الجم - يلحظ تحضير الشيخ العلمي السابق فقد كان يدرس لنفسه كما عرفنا.

المفاجأة!:

قال شيخنا - وهو يتحدث عن المفاجأة في السنة الأخيرة في الخسروية -: (وفي السنة السادسة وقبل انتهائنا بشهرين عٌدِّل نظام المدرسة بإدخال العلوم الكونية ومنهاج وزارة المعارف، وتقرر إعادتنا إلى الصف الرابع إلزاماً، وحُرِمْنا من حق شهادة التخرج، ولم أقبل بالعودة إلى الصف الرابع، وتركت المدرسة حزيناً، مكسور النفس؛ لأنني لم أحصل على النتيجة (الشهادة) كما يقول الناس بعد هذه الجهود والتفوق، ولجأت إلى الله تعالى فجبر كسري وأعزني، وعُرِفْتُ بالمقدرة العلمية وصارت الطلبات تنهال عليَّ لتدريس العلوم الشرعية في مختلف لمدارس (الفقه، الحديث، المصطلح، التفسير، علوم القرآن) أكثر مما يطلب من حملة الشهادات).

قيامه بالدعوة مبكراً:

ولما كان في نحو العشرين من العمر ثقل على والده وظيفة الخطبة والإمامة، فاستعان ببعض المحبين ينوب عنه إماماً وكيلاً في بعض الصلوات، ثم تنازل لشيخنا عن الخطبة والإمامة،و كنا نصلي معهما الجمعة، ونسلم على شيخنا الجد وعليه، وكان حضور الناس كثيفاً.

زواج الشيخ رحمه الله:

وفي هذه المرحلة أيضاً ثم زواجه المبارك من السيدة المصون حافظة كتاب الله تعالى بنت صديق والده وتلميذه الرجل الصالح الجواد السخي الحاج محمد ططري رحمه الله تعالى، قال: وكنت بعيد الفكر إليَّ حتى اقتنعت وذلك لغاية انشغاله بالتحصيل العلمي وانهماكه فيه،و كانت سنُّه آنذاك تسع عشرة سنة.

الحدث الضخم:

ثم جاء الحدث الضخم في حياة شيخنا بوفاة والده رحمه الله تعالى، في شعبان سنة 1373ه =1952م. وقد اهتزت له البلاد، وكان يوم جنازته يوماً مشهوداً، حضره من كبار العلماء من مختلف المحافظات والبيئات، وجاؤوا الشيخ يعزونه ويواسونه.

وكان أعظم العلماء تأثيراً في مواساة شيخنا هو شيخ العلماء رئيس رابطة العلماء في دمشق سماحة الشيخ المحدث السيد مكي الكَتّاني رحمه الله تعالى، فقد أطال المكث في المجلس مع شيخنا يواسيه ويشد أزره، وذكر لي رحمه الله تعالى هذه المأثرة لسماحة الشيخ السيد مكي وأثرها العميق لديه نفعنا الله بهم.

الصلة مع آل الكتاني:

وكان شيخنا يزور السيد مكي في دمشق بين فترة وأخرى، وقد صَحِبْتٌه في بعض هذه الزيارات، وكان به حفياً، وكان مما قيل: إننا نعرف الشيخ من تلامذته ونلحظ في تلامذة الشيخ عبد الله سراج الدين الكمال والفضل والتواضع، والسلامة من التعاظم أو العجب.

وظللت صلة الأخوة مع فضيلة الشيخ السيد محمد الفاتح نجل شيخنا بالإجازة السيد مكي، وكانت الزيارات بينهما متبادلة في حلب ودمشق، حتى إن شيخنا أرسل قبل مرضه بشهرين يستزير سماحة الفاتح، فبادر سماحته وتجشم مشقة السفر إلى حلب، وكان لقاء إيماننا أخوياً مشحوناً بتحاور الأرواح، رحم الله الشيخ، وأطال عمر السيد الفاتح بتمام العافية آمين.

خِطَّتٌهٌ في الدروس المدرسية:

التزم شيخنا رحمه الله في دروسه العلمية في المدرسة أصول التدريس الناجحة، فكان يٌعْنى بافتتاح الدرس لتشويق الطلبة، ثم يعرض من المقرر ما يريد شرحه، ويوضح المعلومات المدونة في الكتاب، ويضيف إليها ما يناسب حاجة الطالب، ويكمل فائدة الدرس بما يناسب من توجيهٍ للقلوب إلى الله، وتصفية النية وتخليصها من الشوائب ونحو ذلك...

أما أسلوبه فكان فيه تفنن في الإلقاء، ومن أسلوب غائب إلى مخاطب، ومن خَبَرٍ إلى أمرٍ أو نهي أو استفهام، وينهض بنفسه ويكتب على السبورة بنفسه، وخطه جميل، ويحاور الطلاب، ويجيب على أسئلتهم، فيجد الطالب عنده أنه قد وجد نفسه وأنه اغتنى بعلم غزير واسع شامل، وأمتع قلبه و روحه من أنفاس الشيخ و روحه الصافية النفاذة إلى القلوب، فكانوا يتشوقون لدروسه.

وحصل بعد وفاة والده أن الدروس في جامع الحموي أٌلغي وألغي المرتب الشهري لها، فكانت السبت والأحد والأربعاء والخميس، وكانت في أصعب وقت، وهو بعد طلوع الشمس أربعة أيام أسبوعياً، فاستمر الشيخ يدرسها متبرعاً، وفاء لشرط الواقف، ومحواً لإثم مخالفته عن الناس. وخدمة لعلم التفسير وعلم الحديث، وسيراً على طريقة والده رحمه الله تعالى، وقد كثر قاصدوا هذه الدروس حتى ضاق المسجد، واحتاج للتوسعة، فسعى لبناء سٌدَّة واسعة لأجل ذلك، أجزل الله مثوبته، وكان درساً متميزاً بروح عالية خاصة به.

وكانت له وظيفة إمام في جامع سليمان، فلما كثرت أعباؤه تخلى عنها، وكان يقوم بأعمال تلك الجهات من دون إخلال، وبغاية القوة.

الهجرة إلى المدينة:

لكن على الرغم من ذلك فإنه لما دب دبيب الأحداث سنة 1400 ه = 1980 م لم يسرع بالخروج من البلاد، بل تأنى وبالغ في التحفظ والعزلة، لكنه وجد الخطر محققاً موجباً للخروج، فاستعد لذلك وسافر فجراً، ثم غادر بالطائرة إلى المدينة المنورة وكانت والدته في بيته، فلم يملك نفسه أن يرجع من السيارة ثلاث مرات يوصي بها، قبل أن يتوجه إلى دمشق، قاصداً المدينة المنورة.

وقد نزل في المدينة في فندق الزهراء ينتظر استنباب الأمن بين يوم وآخر ليرجع إلى البلاد حتى طالت المدة كثيراً، فعزم على الإقامة بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام بناء على رؤيا نبوية شريفة، وانتقل إلى بيت استأجره على طريق قباء.

وذلك أنه رضي الله عنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم جالساً، ثم اضطجع واضطجع الشيخ أيضاً، فأول ذلك أنه أُمر بالإقامة في المدينة المنورة، وكان الناس المحبون يرغبونه بالعودة كثيراً، فيقول: (أنا أقمت هنا بإذن، ولا أخرج إلا بإذن).

ثم تبعه بعض أولاده وأقاموا معه في البيت على طريق قباء، وافتتحوا محلاً تجارياً لبيع الأدوات المنزلية. وقد كانت إقامته في المدينة عجباً من العجب، لما حفته فيها من الاكرامات والعنايات، وأعظم ذلك قضية الإقامة، ومن نظام السعودية عدم منح إقامة للداخل بتأشيرة عمرة، وضاق الأمر على كثيرين، واعتزل الشيخ في البيت لخوف الحرج، ثم جاء الفرج بكرامة عجيبة، شهدتها بنفسي ولله الحمد.

قصة النفحة المحمدية:

وذلك أنه في شهر ربيع الأول 1400 ه وأنا عنده في البيت جاء شخص يقول: الوزير أحمد زكي يماني وزير البترول السعودي قادم لزيارة الشيخ، وكان أثاث البيت بسيطاً، فقمنا بترتيبه حسب ما أمكن، وإذا بالوزير يحضر ومعه وزير من السودان وبعض الشخصيات، وعالم فاضل من حلب محب للشيخ، والشيخ عمر ملاحفجي الشهير بأبي قبقابة من إخواننا في الكلتاوية وهو من أهل الصلاح والصفاء، فَقَدَّم الوزير ومن معه لفضيلة شيخنا، وأجرى التعارف في لباقة عالية، ثم حكى القضية فقال:

(كنا في مجلس احتفال وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع معالي الوزير فقص عليَّ رؤيا أنه رأى فيها أنه جاءته من شخص نفحة من النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: هنا يوجد من عنده هذا، وهو شيخنا الشيخ عبد الله سراج الدين، فرغب معاليه بلقياكم فوراً، فجئنا إليكم).

فرحب شيخنا بالضيف ومن معه، وتحدث عن فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، والاحتفال بمولده وقال: (أنا كتبت في شمائله وخصاله صلى الله عليه وسلم كتاباً هو كتاب (سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم شمائله الحميدة خصاله المجيدة)، ووصف الكتاب، وقرأ منه بعض أشياء، منها فيما أذكره ما يتعلق بالمولد، وقال الشيخ للوزير يماني: هذه نفحة محمدية. وقدّم الكتاب هدية للشيخ اليماني ممهورة بخطه الكريم بالإهداء لضيفه العزيز، فشكر الضيف شيخنا لهديته وسر بالكتاب سروراً عظيماً، ثم استأذنا للانصراف.

فقمنا نودعه وقام شيخنا وودعه عند باب الدار ولم يطلب منه شيئاً، مع شدة حاجته الضرورية للإقامة، ومشينا نحن مع الضيف، ووقفنا قرب العمارة نحدثه ونشكره فعرَّفّته بنفسي، ثم عرفته بمقام الشيخ وفضله على البلاد في علم الحديث خاصة وعلوم الدين عامة، وأننا مدينون له في علم الحديث، بل كل دارس حديث مدين له لكتابه الفريد (شرح المنظومة البيقونية) وما يقدمه في دروسه من معارف القرآن والحديث.

وقد سأل الوزير من نفسه هل للشيخ حاجة؟ فقيل له: نعم يحتاج للإقامة. فسأل: من معه؟ فأخبر، فقال: هذا سهل، أحضروا إلى مكتبي الفلاني الجوازات لنعمل عليها الإقامة، وهكذا حصل شيخنا على الإقامة ممهورة على جواز سفره هو وأفراد أسرته، دوِّن عليها (إقامة للتعبد) وقد تحدث شيخنا بهذا قال: أخذنا إقامة للتعبد ليس لنا شيء آخر.

وقد عتب شيخنا في نفسه بشدة فيما أفضى إلي وأنا في زيارته هناك على رجالات كبار سوريين، منهم حلبيون علموا بقدومه إلى المدينة ولم يسألوا عما يحتاج إليه بل لم يتصلوا للسلام عليه، وكانوا في أيام سبقت يتقربون إليه ويتوددون....

وكأن ذلك - فيما أرى - لأنهم يعلمون أنه لا أرب لهم عنده، لخطته المعروفة باعتزال السياسة، وأبى هو رحمه الله أن يرسل إلى أي واحد منهم كلمة واحدة، مع شدة حاجته.

تأثر صحته بالقلق:

وفي الأشهر القلائل الأولى من هجرته إلى المدينة عانى ضغطاً عظيماً في نفسه بسبب انشغاله بأمور البلاد والغم العظيم الذي لحقه، وقد رآه في تلك الفترة زميله أيام المدرسة وصديقه صديقنا الفاضل فوزي فيض الله حفظه الله رآه في الرؤيا مطرقاً مفكراً واضعاً ذقنه على كفه، قال لي: مثل صورة أمير الشعراء أحمد شوقي تماماً. قلت له يومها: نعم هكذا حال الشيخ.

وبسبب ذلك صار يحس بشيء يتحرك في أمعائه ويتدلى، وإذا هو فتق في البريطون قد أصيب به في موضعين اثنين، ومن ثم صار يضايقه والشيخ يصبر ويتحمله.

وفاة والدته وكيف عرفها:

وقد قوي كشفه وإلهامه هناك، ومن ذلك أن والدته توفيت عقب مرض شديد بعد سفره بنحو ثلاثة أشهر، وخاف أهله أن يخبروه لأجل صحته، فجاءته في الرؤيا وأخبرته فأصبح تدمع عيناه، وأخبرهم هو بالأمر، فاعتذروا إليه بالخوف عليه.

وكان في الرؤيا بشارة جميلة، رآها تقول له: لماذا يا ابني يخاف الناس من الموت؟ الموت لا يخيف يا ابني، أنا أُعطيت بيتاً جميلاً، ومفتاحاً أفتح البيت وأخرج إذا شئت وأعود إليه وأقفله إذا شئت اللهم أفض رحمتك عليهما يا رب العالمين.

العودة إلى البلاد:

ثم إنه لما قضت حكمة الله تعالى و رحمته بالبلاد أن يعود الشيخ إلى بلده،رأى رحمه الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: أذّن. قال: فأولتها أن أرجع إلى التدريس.

وقد قلت: ووجْهٌ ذلك أن الأذان في الأصل هو الإعلام، والتدريس أذان؛ لأنه إعلام.

قال رحمه الله:لم أتوقف أبداً في ترتيب السفر منذ جاءني الإذن بالعودة. مع أنه رحمه الله كٌلّمَ مراراً بالعودة، وأعطي ضمانات وأنه يجري له استقبال كبير وينزل في أحسن فندق، فكان جوابه: (أنا أقمت بإذن ولا أخرج إلا بإذن، وعندي في دمشق بيت هو بيت صهري أنزل فيه).

وعوضاً عن الشهرة وضخامة الاستقبال التي يحرص الناس عليها عمل على تقليص هذا الأمر، وأن لا يعلم به إلا نفر قليل من الأقرباء والأصدقاء، حضر الاستقبال في المطار نحو 15 شخصاً من حلب ودمشق جلسوا عندنا مع شيخنا في البيت فترة يسيرة لطعام الغداء، ثم فاجأ الشيخ الجميع بالعزم على السفر من يومه، فكان مجموع السيارات التي أقلّت الجميع ثلاث سيارات صغيرة فقط، ووصلوا قرب نصف الليل، وكان عند البيت نفر قليل جداً أيضاً من الأقرباء والأصدقاء الخصوصيين.

اكتمال الحياة الطبيعية:

وما لبث الناس أن عرفوا عودته فَهٌرِعوا للسلام عليه، فمكث يستقبل في بيته الجديد في حي الفرقان وكان قد اشتراه من قبل فأكمل أبناؤه إعداده للسكن. فاستقبل فيه أياماً عديدة، ثم نزل يستقبل في المدرسة، ويتفقد أحوالها وأحوال الجمعية وغيرها بنفسه كما هي عادته من قبل، واكتست حلب ثوب فرح وسرور، وأحسّ الجميع أن الحياة الطبيعية استكملت جوانبها بعودة شيخها إليها.

وكان حديثه رضي الله عنه إلى زواره يدور على فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، وعلو مقامه، وخصائصه صلى الله عليه وسلم، وفضائل الإيمان والإسلام، والأمة المحمدية، وكرامتها على رب البرية، فأطرب الزائرين جميعهم، ومنهم من علية الناس، حتى إن بعضهم خرج وهو يقول بصوت مسموع: كلام الشيخ يُعَبّي الراس!.

و ههنا قضية مهمة، هي أن بعض الأصحاب المواظبين والملازمين للشيخ ظهر منهم تقصير عظيم أيام الشدة، فما كان منه رحمه الله إلا أن قابل ذلك بالصفح، مكتفياً بأن عرّض بما حصل، لكن لم يثرب على أحد منهم بشخصه، وكان ذلك منه غاية الحلم والكرم رحمه الله تعالى.

أول درس بعد العودة:

ثم عاد إلى التدريس كما أٌمر رحمه الله، واقتصر على دَرْسي الاثنين ظهراً في الجامع الأموي الكبير، والجمعة عصراً في جامع بانقوسا، وذلك بعد غياب طويل استمر نحو أربع سنين تقريباً وذلك مع دروس التفسير والحديث والمصطلح في مدرسة التعليم الشرعي (الشبعانية).

وكان أول درس ألقاه في يوم الاثنين في الجامع الأموي الكبير، وكان موضوعه افتتاحاً رائعاً، هو تفسيره لقوله تعالى في فضل نبيه صلى الله عليه وسلم: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً)) [الأحزاب:45_46]، ودهش الحاضرون لعظمة النبي صلى الله عليه وسلم وسعة علم الشيخ، منهم بعض أساتذة الجامعة، فقد شغل ساعة من الزمن في شرح قوله : ((شاهداً))!.

و هُرِعَ الناس لمجالسه، وغَصّ المسجدان بالحضور، وجاء المستمعون من بلاد بعيدة، حتى كان بعضهم يحضر من دمشق نفسها، ولا تزال تربطنا به أخوة حفظه الله تعالى.

واقتصر رحمه الله على هذه الجهات الثلاثة من غير إخلال، وأضاف إليها درساً خاصاً أسبوعياً عقده لنخبة من طلاب العلم في التفسير، يقرأ فيه من تفسير (مدارك التنزيل وحقائق التأويل) للإمام أبي البركات النسفي، ويحل عبارات النسفي وغوامضها، وينبه على تفسيرات الزمخشري التي تابعه عليها النسفي أو غيره، وغيرها أولى منها، وكان يفيض في الشرح من أنواع العلوم في تفسير كل آية. ويذكر ما يتعلق بها من آيات وأحاديث، ويستنبط دقائق الخوافي والغوامض، ويذكر أقوال المفسرين ثم يٌعِقب عليها بالترجيح والتحقيق للمسألة، بما يدهش الحضور.

ومما سمعته منه قديماً في مجلس خاص تفسير قوله تعالى: ((فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)) [التين:6] فسّرَها الزمخشري: (غير ممنون عليهم به). وتبعه بعض المفسرين من أهل السنة.

قال: هذا يتماشى مع قول المعتزلة بالوجوب على الله تعالى والأولى غير ممنون: غير مقطوع، تقول العرب: مَنَنْتٌ الحبل إذا قَطعته. فاستشهد رحمه الله باللغة، ولم يخفَ عليه مَزْلق القدم.

وتخفف رحمه الله تعالى من الأنشطة الاجتماعية، وعكف على التأليف. وصار يتردد على الحرمين الشريفين كل عدة شهور، يجدد عهده بهما.

العٌزلة ومنهجه فيها:

قليل جداً يعرفون أن فضيلة شيخنا رحمه الله كان ينهج منهج العزلة، قبل اعتزاله الكامل في بيته، بل أيام نشاطه السابقة، في الواقع أنه كان يأخذ بالعزلة، ولا يخالط الناس إلا بمقدار ما يؤدي عمله لخدمة العلم والدين، حتى عند قدومه إلى جامع الحموي من بيته يركب السيارة، فسألته يوماً؟ فقال: هذا من العٌزْلَة، فلما ظهر المرْجُ في أمر الناس زاد العزلة عنهم، ثم زادها أكثر بعد عودته من المدينة.

ثم صار تعرض له عوارض صحية تعوقه عن الدروس وهو يجتهد في مقاومتها، ثم اعتزل الدروس كلها واعتزل كل عمل، وفوض أمر الجمعية والمدرسة لابنه الدكتور محمد نجيب، يساعده فيها إخوته، ويشرف شيخنا على كل ما يجري من بيته، ويتصل هو بنفسه بالقائمين بالعمل كذلك، ويحضرون إليه ليدارسهم الأمور، وعوّض الناس عن دروسه قدم من المؤلفات المهمة القيمة التي كانت تصدر، ويتلقفها الناس بغاية الشوق واللهفة.

كذلك كان يٌعْنى بما يجري من أمور المسلمين في البلاد، وفي البلاد الإسلامية عامة، ويصرح بإنكار المنكر، ويتوجه بالدعاء للمسلمين فيما ينزل بهم، وكانت كلماته للزائر الواحد تنقل و يتداولها الناس، وربما خُطِب بها على المنابر.

ومن ذلك تشديده الإنكار على تجار الأراضي لما تآمروا حوالي سنة 1994 تقريباً على مضاعفة أسعار الأراضي الصالحة للبناء، فكان ينكر ذلك جداً، لأن السكن من ضروريات الحياة، يجب تيسيره، لا تعسيره، وخفض سعره لا إغلاؤه، وجعل ذلك بعض الخطباء المشهورين موضوعاً لخطبته صرح فيها بكلام الشيخ، كما أيد خطباء آخرون وأساتذة جامعيون في محاضراتهم استنكار هذا التآمر الظالم، اقتداءاً بالشيخ رحمه الله تعالى.

ومن ذلك أنه لما هَّبت فتنة الأخوة الأمازيغ (البربر) التي قادها مرتدون في الجزائر، شٌغِل الشيخ بها كثيراً، وصار يضرع لربه في قيامه بالليل في أوقاته لصرفها، وصرح لبعض أهله أنه مشغول بها، فاستجاب الله دعاءه وصرفها.

مقدمات غريبة:

واستمر شيخنا يزداد كمالاً وتقرباً إلى الله تعالى واهتماماً بالعلوم والدين وأمور المدرسة والتعليم والإسلام والمسلمين قدر وسعه ابتغاء رضوان الله رب العالمين، ولو حظ عليه من رمضان 1422 ه إقلاله من الكلام عن عادته إقلالاً كثيراً، وصار يكثر من الدعاء ومن قول :(الله يمنّ علينا، اللهم اشفنا وعافنا من كل داء وبلاء بجاه إمام الأنبياء، اللهم أفض علينا من أنوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسراره وبركاته).

بل لُحِظَ أنه في دعائه ليلة النصف من شعبان التي تجتمع حوله الأٌسرة فيها لم يدع فيه بطول العمر، وكان في كل موسم سابق يدعو به، وقبل مرضه بشهر سمعَته إحدى بناته يقول: (الله يُعَدِّي الشتوية على خير). قالت: لماذا؟ قال: (الله تعالى يعديها على خير).

ثم قبل بدء المرض به بشهر صار يرى والده كثيراً، ويرى معه أحياناً كبار العلماء والأولياء، وفي بعضها، أرى الوالد ولده الشيخ عبد الله مقعده من الجنة. ومرة قال له: يا بُني، اشتقنا لك، مرتبتك عِلْتيت (عَلَتْ) فتعال إلينا. وغيره ذلك مما رآه رحمه الله تعالى.

مفاجأة الأزمة:

حتى إذا كان ليل يوم السبت 4 ذي الحجة 1422 = 16/2/2002 م حصل له أزمة اختناق في الفتق، بدأت الأزمة ليلاً بينما هو يصلي قيام الليل الساعة 3:3، إذا به يجد ألماً شديداً، وكانت بقربه إحدى بناته وكانت أكثر ملازمة له، فقال لها: الألم هذه المرة شديد، ليس كما يأتي عادة، وشرب كأساً من الشاي، وتصبَّر حتى طلع النهار وارتفع، فاتصل بطبيبه، وأخذ بعض العلاجات.و كانت حصلت له أزمة مماثلة منذ عشر سنوات لكنّ الله صرفها. فتأنى في إجراء العملية هذه المرة لعل الأزمة تنصرف، وذلك لِورعه رحمه الله تحاشياً من كشف عورته، ولم يجد ما يسوغ كشفها، لأنه قادر على التصرف بأموره من دونها، وضرب لي أمثلة من بعض أشخاص لم يعملوا عملية الفتق.

لكنها في هذه المرة تفاقمت، فلما رأى ضرورة إجرائها، رضي بأمر الله تعالى، وطلبها هو نفسه، ودخل يوم الثلاثاء السابع من ذي الحجة غرفة العمليات بغاية البساطة، وتحدث لأطبائه حديثاً حلواً فيه مزاج وشكرهم، وحدثهم عن فضل الشكر، وأهمية أن يشكر الإنسان من أحسن إليه، ودعا لهم أن يجعل الله شفاء الناس وشفاءه على أيديهم، وانتهت العملية بنجاح، لكن قَدَر الله تعالى سبق، وحصلت مضاعفات خِيف منها على الشيخ، ثم خفّت، ثم ضعف من جديد وخيف عليه، ثم تحسنت صحته، لكن لم يمكن الاستغناء على توصيل الغذاء، ومساعدة النفس بالأجهزة في غرفة العناية المشددة(المركزة)، وتوافد الناس من كل حدب وصوب للمشفى ومنهم كبار رجال الدولة جاؤوا مراراً يستفسرون عن صحته وعما يحتاج إليه ويعودونه، وكثر الزحام كثرة عظيمة، حتى احتيج لبعض الإجراءات، وجاءت الاتصالات من خارج البلاد السورية، وضجّ الناس بالدعاء للشيخ في حلب وغيرها وفي مكة ومنى وعرفات والمدينة، حتى قلتُ: لو كان من سنة الله إحياء الميت بالدعاء والقرآن لأحيي فكيف لا يشفى، وأثّر ذلك الحال في انصلاح حال لناس، كما حدثنا بعض أصدقائنا التجار، بل حدّث بعضٌ الأشخاص ابن الشيخ - وأنا أعرف ذلك الشخص - قال: إنه بلغ الآن سبعين سنة لا يصلي، والآن صار يصلي حتى يدعو للشيخ بالعافية فيستجيب الله دعاءه.

الحادث الجَلَل:

ولم تٌجدِ المحاولات الطبية، وقد استٌقْدِمَ أطباءٌ من عًمّان وبيروت، فأقروا برنامج التداوي في جملته، وأضافوا بعض أشياء، وأٌحضِرت أدوية من خارج سورية، وكنا على الأمل، لا نيأس من الشفاء، وإن بدا أن الوضع صعب جداً، وهكذا فإن حالة الشيخ الصحية تفاقمت حتى جاء القدر المحتوم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. وليكون ذلك سبب نيله درجة الشهداء إن شاء الله كما نال درجة كٌمَّل الأولياء، وكانت وفاته مساء يوم الاثنين 20 ذي الحجة 1422 هجرية، الموافق 4/3/2002 ميلادية، الساعة السابعة مع ارتفاع صوت المؤذن في المسجد قرب المستشفى بأذان العشاء تماماً، وكأنه أجاب المؤذن بروحه رضي الله عنه.

تحميل