مميز
EN عربي
الكاتب: أ. محمد زكي ابراهيم
التاريخ: 21/08/2013

السلفية المعاصرة .. إلى أين؟

بحوث ودراسات

· مقدمة وتمهيد:

للإنسان العاقل مطلق الحرية فيما يختار لنفسه من مذهب أو فكر، ما دام قادراً على تمييز الخبيث من الطيب، وما دام له من سعة الثقافة والعلم ما يؤهله لصحة الأحكام، ولكن ليس مطلقاً أن يقف نفسه وعلمه وقلمه على هدم من خالفه، لمجرد أنه يخالفه، دون التعمق في تحليل الرأي المخالف وما له من دليل يعذر به صاحبه.

والإسلام دين الانصاف، ودين الأدب ودين عفة القلم والنفس واللسان، ودين التحري والاحتياط والتورع، ودين الترفع عن السفساف والأخذ بمعالي الأمور فلا إكراه ولا إجبار على حسي أو معنوي.

· الطوفان الأعمى:

ونحن الآن أمام طوفان أعمى من الدعاوى التي تخرج المسلمين جميعاً من دين الله، فرادى ومجموعات بعشرات... بل مئات الملايين بجرة قلم أو انبعاق مخبول أحمق مستغلق ينضح بالجهلوت والبذاءة والغل على كافة المسلمين لأنهم لا يرون رأيه ولا يؤمنون بدعوته أو ادعاءاته، وهو يعني بخاصة السادة الشرعيين من الصوفية الأبرار... رضي الله عنهم جميعاً.

هذا الطوفان الذي يزجيه ويدفعه قوم لا هم لهم إلا العمل على السيادة على المسلمين وفرض سلطتهم وسيطرتهم عليهم، بداية بالعقيدة ودعاوى الانفراد بالتوحيد وخدمة السنة ومروراً بصور العمل الإسلامي العام، وتستراً وراء الخدمات الإسلامية المتمثلة في البنوك وفي المؤتمرات، وفي اثناء الجامعات والبعوث والإرساليات، والإعانة على الدراسات التي يراد بها أن تكون مسامير لتثبيت فكرة السيادة والعدوان والتسلط على أهل القبلة بدعوى أن أهل القبلة كلهم الآن مشركون أو كافرون أو وثنيون أو مرتدون أو هم في أحسن الأحوال فسقة فجرة مارقون ويعنون بخاصة أولئك الصوفية منهم كما قلت، أي القوم الذين هم خاصة الخاصة من أهل (لا إله إلا الله)، والذين يمثلون ثلث العالم الإسلامي على الأقل، إن لم يكونوا نصفه أو أكثر من نصفه فعلاً وواقعاً أكيداً، فليس من شبر من أرض في بلاد الإسلام إلا وفيه صوفي عابد عامل، وتقي كريم (ولا شأن لنا هنا بالمتمصوفة الأدعياء المنحرفين)، إذ التصوف كما نعرفه فقه وعبادة، وخلق وعمل، فهو فرض بالنصوص المحكمة من الكتاب والسنة.

· الشباب المفتون:

ومن المؤسف والمحزن أنهم استقطبوا عدداً غير قليل من الشباب الإسلامي الساذج أو المعقد المتأزم، أو الطيب القلب، أو السطحي الفكر، أو المحدود المعرفة ففتنوهم عن الجادة وأوحوا إليهم أنهم السادة... القادة،وأنهم الفرقة الناجية، بما قدموا لهم من ثقافة الانغلاق والتحجر، والرجعية والانقباض والتقطيب والعبوس والعجرفة، وجمع الاهتمام في هيئات البدن والملبس والتخلق بالكبر والحقد ولؤم التفكير وسوء الظن بخلق الله، والغل على الذين آمنوا بلا تمييز مع الإكراه والإرهاب.

كما استغلوا حاجة بعضهم إلى المال فقدموه إليهم سحاً غدقاً، وهو سحتٌ حرام،على مختلف صوره وأوضاعه، وجعلوا منهم خميرة عكننة للمجتمع،ومثار قلق للحكومات، وسوطاً يلهب ظهور جماعة المسلمين فما تجد ارهابياً ولا متطرفاً، ولا مخرباً ولا فتاناً ولا مفرقاً بين أهل القبلة إلا وهو منسوب إلى السلفية متخرج من مدارسها، عبد لمشيئتها مندفع متهور سمج النفس ثقيل الظل مستحل دماء المسلمين وأعراضهم، ويمزق جموعهم باسم التوحيد المظلوم، والسلفية السياسية، والسنة المفترى عليها حتى فرقوا الأسرة الواحدة... فاتّهمَ الولدُ والده بالكفر والشرك، وعصت البنتُ أباها بدعوى أنه مبتدع فاسق، وتركت المرأة زوجها، وتزوجت من آخر، دون أن تطلق من الأول بدعوى أن زواجها باطل، لأنه من (كافر) لا يحل له زواج مسلمة (تأمل)!! ولا قوّةَ إلا بالله.

· من أين أتت الفتنة:

وبرغم روائح البترول والعمالة والثراء الوقح المشبوه، والترف الخبيث من المال الحرام والسلوك الذي يعد خانة مبرقعة للدين وللوطن فإننا نذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أن ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين أن الرسول استقبل مشرق المدينة المنورة فقال: (الفتنة ههنا)، وفي مسند أحمد عن أبن عمر أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم أستقبل مطلع الشمس بالمدينة فقال: "من هنا يطلع قرن الشيطان"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: "رأس الكفر نحو المشرق"، ومهما حاول بعضهم تأويل هذه الأحاديث وصرفها عن ظاهرها فإنها نصوص صريحة محكمة واضحة لا اجتهاد فيها ولا تأويل لها.

وربما شرح هذا الإجمال ما جاء في البخاري قال:دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا (ثلاثاً) قالوا ونجدنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: هناك الفتن والزلازل ومنها يطلع قرن الشيطان، فمن ذا الذي نصدقه الآن: هؤلاء بإفكهم أم الرسول صلى الله عليه وسلم بصدقه؟ وهذه هي الفتن تصدر إلى العالم الإسلامي محجبة تارة وصريحة أخرى من هذا الجانب، باسم التوحيد والسفه إلى كافة بلاد الإسلام يدعمها المال والجاه.

يجب أن يفرق هؤلاء بين الفرائض والسنن ويجب ألّا ينقلوا حكم الفرض إلى حكم السنة ويجب أن يتأكدوا بأن المسلم له كل الخيار في التزام السنن.ثم هل هناك فتنة فوق القول بأن كل أهل القبلة، مشرقاً ومغرباً... وشمالاً وجنوباً مشركون كفرة بسبب زيارة الموتى، أو الدعاء بالوسيلة المشروعة، بالنص القرآني المحكم أو بالصلاة في المساجد الملحق بها بعض قبور الصالحين أو بدعاء نصف شعبان أو بقراءة البردة والدلائل أو التزام حب أهل البيت النبوي أو عدم توفير اللحية أو التعبد بترديد اسم الله أو التعبد بالأدعية والأحزاب والأوراد المأثورة مما تنقطع لها النياط كمسألة السدل والقبض، وأين وكيف توضع اليدين عند القبض،وعدد درجات المنبر،وتجويف القبلة وكالصلاة على النبي (ص) بعد الآذان أو صلاة الركعتين قبل الجمعة أو قراءة القرآن قبل الجمعة أيضاً أو صلاة العيد في المساجد أو المصافحة عند الانصراف أو الأكل على المائدة أو تعليم المرأة أو الشرب في الكوب أو تبريد الماء بالثلج أو لبس النظارة وساعة اليد، هل تكون في اليد اليمنى أو اليسرى، وهل يؤخذ في الصلاة بالتقويم الفلكي أو عدم لعق الأصابع، أو ترك السواك والطيب، أو الجهر بختام الصلاة، أو القيام للقادم أو اكتفاء المرأة بالحجاب دون النقاب أو القول بحركة الأرض حول الشمس أو الرضا بالتصوير الفوتوغرافي أو قنوت الفجر أو حمل المسبحة بل لقد حرموا على النساء التحلي بالذهب إلى أكوام من التفاهات وصغار الفروع مما عم وغم وطم خصوصاً سنن العادات فذلك جميعاً عندهم بدع وشرك وردة وخروج من دين الله تسقط به العدالة، وتطلق به الزوجة، ويستحل به الدم فلا ينفع معه عندهم صلاة ولا صوم ولا زكاة ولا حج ولا عمرة، بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يكذبهم كما جاء في حديث عقبة في الصحيحين، قال صلى الله عليه وسلم : "لست أخاف عليكم أن تشركوا بعدي (تأمل) ولإني أخشى عليكم الدنيا أن تتنافسوا فيها فتهلكوا كما هلك من قبلكم".

وروى أحمد والحاكم وابن ماجه عن شداد بن أوس، قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أتشرك أمتك بعدك؟ قال: "نعم، أما أنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً (تأمل) ولكنهم يراءون بأعمالهم". وأنت لا تجد رياء في المظاهر البدنية، ولا اهتماماً بالصور المظهرية، كما تجد عند هؤلاء الذين يرمون غيرهم بالوثنية والشرك، فمن ذا الذي نصدق اذن؟! أنصدق هؤلاء فيما ابتدعوا من تكفير بالمسلمين وتبديعهم وتشريكهم واستحلال حرماتهم، واخراجهم من الملة، أو الحكم عليهم بالنار كأنما هم أوصياء على الله فيما قدر وقضى أم نصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى؟ وقد أكد أن الأمة من بعده لن تعبد شمساً ولا قمراً ولا وثناً، وإنما هو الرياء في الأعمال، وهو معصية خفية (غالباً)، وإنما أعلن بها هؤلاء القوم بما يخالفون به المجتمع في هيئاتهم، وفي مظاهرهم وتصرفاتهم، ومعاملاتهم الشاذة، وحسب أحدهم جلباب قصير ضيق، وطاقية مخرمة ساخرة، وسروال طويل يظهر من تحت الجلباب ثم سواك، وكتاب يطوى بين دفتيه الشذوذ والفتن والتخلف. ثم اطلاق الشعر على القفا مشوشاً أو منسقاً في حلقات هازلة تداعب غطاء الرأس. وقد شغلوا الناس بهذه التوافه الفرعية التي لا بد فيها من اختلاف وجهات النظر عقلاً وشرعاً، عما يحيط بالإسلام من الأخطار والأهوال التي يشيب لها الولدان. ويحسبون أنهم مهتدون.

· الصحابة لم يكفروا الفرق الضالة:

وكيف يحكون على من يخالف مذهبهم بالكفر والشرك والردة والبدعة، ولو استطاعوا لقتلوه شر قتلة، وقد عاب الصحابة والتابعون على سلف هؤلاء من الخوارج وأشياعهم أنهم عمدوا إلى الآيات التي نزلت في غير المسلمين، فطبقوها تعسفاً وتعصباً وغلاً وتطرفاً على أهل لا إله إلا الله (كما نقله البخاري عن ابن عمر وغيره في باب الخوارج)، لأنهم لم يقولوا بعد قولهم، أو يجاروهم على انحرافهم وانجرافهم، وقد زعموا أننا نعيش اليوم جاهلية أنكر من الجاهلية الأولى (راجع أهل القبلة).

ومه هذا نقول لهؤلاء (وهم أحفاد الخوارج...بل هم أمعن في الغل والجهل والتطرف والانحراف)، أن أجدادكم أو أئمتكم السابقين قد كفروا عثمان وعلياً ومعاوية ومن معهم، واستحلوا دماءهم وأموالهم وجعلوا بلاد المسلمين بلاد حرب أي (كفر)، فاستباحوا فيها الدماء والأعراض والأموال، كما تفعلون أنتم، وزعموا أن علياً ومعاوية أشركوا بالله، وطبقوا عموم الآيات التي نزلت في المشركين والكفار على هؤلاء المسلمين، كما قدمنا، ولا يزالون يفعلون وقد قال لهم علي رضي الله عنه لا نبدؤكم بقتال ولا نمنعكم مساجد الله، وهكذا لم يكفرهم على الذي كفروه ولا أحد من الصحابة ولا التابعين، فكيف تحكمون أنتم على من لم يفعل شيئاً من ذلك بالكفر والشرك والوثنية والردة والزندقة؟؟

· القدرية والجبرية والمرجئة وغلاة المعتزلة:

بل لم يكفر الصحابة (القدرية) الذين قالوا ان الله لم يقدر -ولا يقدر- على تقدير الهدى والضلال على أحد، بل قالوا ان الإنسان يخلق عمل نفسه لنفسه بنفسه... هداية أو ضلالاً.

ولم يكفر الصحابة الفرق التي زعمت منهم أن الله أجبر الخلق وأكرههم على ما هم عليه، وأن الكفر والإيمان والطاعة والمعصية في الناس كالبياض والسواد، والطول والقصر، في خلقة الآدمي، ما للمخلوق في ذلك صنع ولا يد.

بل أنه لما قتل أمامهم غسل وكفن وصلى عليه ودفن في مقابر المسلمين.

ولم يكفر التابعون أحداً من المعتزلة الذين قالوا بخلق القرآن، وإن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين فلا هو مسلم ولا هو كافر، بل هو خالد في النار، وان الله لا يخلق ولا يقدر على العباد الذنب أو المعصية، بل العبد يخلقها ويقترفها، وأن الله لم يتكلم، وأن القرآن ليس بكلام الله، بل هو خلق مما خلق الله، فليس الله كلام عندهم.

ولم يكفروا الجهمية الذين يقولون: ليس على العرش إله يعبد، وليس لله في الأرض كتب لله ولا ألواح ولا كلام، وينكرون المعراج نهائياً، كما ينكرون صفات الله التي جاءت في القرآن، حتى قال فيهم ابن الملك إنا لنحكي قول اليهود ولا نحكي قول الجهمية، ومع هذا عندما قتل زعيمهم (الجهم ابن صفوان) ووزيره (الجعد بن درهم)، غسلوهم وكفنوهم وصلوا عليهم ودفنوهم في مقابر المسلمين ولم يجروا عليهم حكم الردة ولا الزندقة ولا الكفر أو للشرك أو للوثنية، مع أن هؤلاء وسابقوهم هم أصول الفرق الاثنتين والسبعين التي جاءت في الحديث المشهور. إن كان صحيحاً.

وقد نقل ابن تيمية أن الامام أحمد بن حنبل لم يكفر أهل هذه الفرق بل صلى (أحمد) رضي الله عنه خلف بعض الجمهية وبعض القدرية وأن أكبر ما توصف به كل تلك الفرق عند ابن تيمية هو الفسق (اقرأ نصوص كلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم فيما سجلناه في رسالة (أهل القبلة كلهم موحدون).

· معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لمخالفيه:

ولماذا نذهب بعيداً، فنضرب المثل بالصحابة والتابعين، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب في هذا المجال أعظم الأمثال:

ارتدَّ في حياته بعض المسلمين أفراداً أو جماعات عن الإسلام وبعضهم كان ارتداده مرّاتٍ لا مرة واحدة فما قتل أحداً منهم.

وكان بعض اليهود يعتنقون الاسلام أول النهار، ثم يرتدون عنه آخره، ليوهموا الناس أنّهم جرّبوا الإسلام فوجدوهُ لا يستحقُّ الثبات عليه، فلم يقتلهم الرسول واكتفى القرآن بتسجيل هذا التلاعب قائلاً: ((قالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا آخره لعلهم يرجعون * ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم)).

وارتد رجل آخر عن الاسلام بعد أن كان من كتاب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتورع -مع ارتداده- عن أن يقول الكلمة المنكرة التي رواها البخاري وغيره: (ما يدري محمد إلا ما كتب له).

وعلى الرغم من ذلك كله تركه رسول الحرية: حراً طليقاً وقبل الشفاعة فيه حتى مات على فراشه (انظر هداية الباري الى ترتيب أحاديث البخاري).

وارتد اثنا عشر مسلماً عن الاسلام -على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- ثم خرجوا من المدينة إلى مكة، ومنهم الحارث بن سويد الأنصاري فما أهدر الرسول دم أحد منهم، ولا حكم بقتل مرتد فيهم، واكتفى القرآن بقوله فيهم: ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين)).

وارتد عبيد الله بن جحش بعد اسلامه وهجرته إلى الحبشة واعتنق النصرانية هناك، فما أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، ولا طالب النجاشي بتسليمه إليه، ولا أوعز إلى أحد بقتله.

واعتنق النصرانية كذلك ولدان شابان، فشكاهما أبوهما إلى الرسول قائلاً: يا رسول الله: هل أدع ولداي يدخلان النار؟ولم يقل له الرسول مثلاً: اقتلهما، أو دعني أقتلهما، وإنما أسمعه الآية القرآنية: ((لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي)).

فهل بعد هذا يتعظ أولئك الذين يفترون على الله الكذب بتكفير وتجريح أهل القبلة؟ وهم أصدقاء ايماناً، وأسلم عقيدة وثبت إسلاماً ويقيناً، وإن أخطأوا!!

· السفاهة وشغل الأمة عن الأخطار:

إن مما يتألم له المسلمون العقلاء، وأهل الفضل، أن هؤلاء النفر من خلق الله لم يتركوا (سلطاناً ولا ملكاً) ولا رئيساً سابقاً أو لاحقاً الا مزقوا دينه وسمعته،وصبوا على رأسه

من عذاب الحميم، ولم يتركوا (ولياً لله) الا وصموه بكل نقيصة،حقداً وضلاً وزوراً، وأشاعوا من حوله كل مثلبة، سواء كان سابقاً أو معاصراً، وقد حكموا على كل من لم يكن منهم وعلى من لم يقل بقولهم من غيرهم بالكفر والشرك وبالنار بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير، وبلا عقل ولا منطق، وبلا حياء ولا تورع ولا احتياط. بل لمجرد أنه ليس منهم حتى اعدموا تاريخ المسلمين.

وأعجب العجب أن يشغلوا الناس بهذه التوافه (والفروعيات الخلافية التي ستبقى إلى يوم القيامة) والتي فرغ علماء المسلمين من تقرير أحكامها منذ قرون مضت، ليصرفوا الأمة الإسلامية عن أخطارها الكبرى وعما تعانيه من كوارث الحروب الداخلية و الخارجية، وعن مخاطر التمزق والتفرق، ومشاكل الصهيونية والاستعمار وفواجع الغلاء والاقتصاد والتمويل، والبطالة والتسول والديون، ومآسي الأخلاق المهدورة والمتدهورة وفضائح ما يسمى بالفنون الحديثة وبخاصة الرقص بأنواعه والتمثيل الداعر مع ما تثبته هذه الفنون من إباحية وعلمانية وإلحاد، وفاشية ووجودية ونازية وماسونية، ثم من ثم من التدهور الإنساني الرهيب بما تقدمه وسائل الإعلام والإعلان في السينما والمسرح والتليفزيون والإذاعة والفيديو والكاسيت والصحف والمجلات المختلفة، وقد عمى هؤلاء عن بلاء الاسكان والفقر والمرض والأمية الثقافية والدينية والسلوكية بالإضافة إلى خبائث المخدرات والخمور والانحلال الفاضح في الكباريهات وعلب الليل، واتساع فساد الرشاوى والاحتيال، وخراب الذمم، وضياع الأمانة، والاختلاط المأساوي المرير في الجامعات والمدارس وما جره ويجره من ويلات، ذلك إلى مشاكل المواصلات وجيوب المجتمع ومعايب المصانع والمشافي، ودواوين الأعمال

الخاصة والعامة وغيرها اضافة إلى التسيب واللا مبالاة، كل ذلك عندهم هين مباح أو هو تافه بالقياس إلى جريمة ترك السواك أو عدم لبس الطواقي المخرمة، أو عدم حمل زجاجات زيت الصندل، أو ارتداء الملابس (الهندية) أو الجلابيب السلفية القصار الضيقة، أو عدم ترك شعر القفا يستدير على غطاء الرأس أو الشرب واقفاً أو البول كذلك واقفاً فهذه كوارث عندهم.

· طائفة أخرى من التوافه المؤسفة:

ثم تزلزل الأرض زلزالها حول حكم أولوية التزام المرأة للحجاب الكاشف عن الوجه واليدين أو النقاب الذي تبدو فيه المرأة كالشبح المسخوط!!ثم تقوم عليها والحديث الضروري إليها وهل يجوز لها الذهاب إلى المساجد وتلقي الدروس الدينية وهل يباح خروجها للأسواق وكسب المعاش وهل يجوز لها أن تتكلم فضلاً عن أن تضحك، وهل يجوز أن تزور أهلها أو هل يجوز لهم أن يزوروها، وهل من حقها أن تفتح الشباك أو تمشي في الشارع تحمل ولدها إلى المستشفى أو تحمل حقيبتها إلى السوق وهل يجوز للمرأة أن تتحلى بالذهب.

ثم هل تصح الصلاة خلف الحليق، أو الجلوس إلى الذاكرين من الصوفية الراشدين، أو زيارة مشاهد أهل البيت النبوي، أو أولياء الله الصالحين، وهل حديث الذبابة صحيح وما جزاء تاركه، إلى غير هذه الغموم والأفكار، التي لا تدل إلا على الجمود، والخمول والخمود، بل على الاستغلاق والحمق الأكبر والانفصام العجيب عن الواقع وويلاته والجهلوات الفاضح في أمور يمكن علاجها بالحكمة والارشاد المهذب، والكلمة الطيبة، والمعاملة الإسلامية الكريمة مع التدرج بالحكمة وبعد النظر.

ثم لا تسمع لهم صوتاً ضد توحش الاستشراق والاستغراب، والتبشير، والاستعمار بأنواعه والصهيونية والماسونية بأسمائها الجديدة كالليونيز والروتاري، وكل الأسماء الأجنبية للتشكيلات المشبوهة التي تستقطب كبار الناس غفلة أو جهلاً واذا فتح الله على واحد منهم واشترى كتاباً لابن حزم أو الشوكاني أو ابن القيم أو ابن تيمية أو الصنعاني فهم لا يؤمنون بغير هؤلاء من علماء السلف أو الخلف إلا من كان من علماء البنوك والمؤسسات المحدثين فهو يتأبط كتابه هذا، متجهماً عبوساً قمطريراً، مقطب الوجه، مجعد الجبين، متكبراً زائغ البصر كالباحث عن قاتل أبيه، فقد استبد به الحقد على الناس كأنهم كلهم عدو له، وقد أكل قلبه الغل منهم فهو يزعم أنه أمام الثقلين، وعالم الخافقين، بما يحمل من هذه الكتب، ولا علم لأحد من أئمة السلف والخلف سواه مهما غلا قدره، وارتفع ذكره، ولا فتوى إلا له، وإلا لسيده وأميره الرابض على فوهات آبار الذهب الأسود، أو ما كان لعملائه وعبيده هنا، فهو يفتي بما أفتى به سيده هناك فيكفر مثلاً من يقول أن الأرض كروية أو أنها تدور حول الشمس (في عصر مراكب الفضاء والصواريخ الموجهة)، ويكفر من يقول بحل التصوير الفوتوغرافي أو بجواز قصد زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بأن المطر ينزل من السحاب لا من السماء.

فلو أجمع كل علماء المسلمين على رأي،لم يقل به سيدة وأميرة أو عميلة النفطي والبترولي، فهو هنا رجس من عمل الشيطان، وفتنة في الأرض وفساد كبير، فماذا بعد كل هذا الهراء المحزن المخزي وإلى أين يا سلفية البترول والنفط والذهب الأسود؟

· المسلمون والإسلاميون:

ثم إن مما تتفتت له الأكباد أن يبتدع هؤلاء أخيراً بدعة محزنة تضاعف تمزيق صف أهل القبلة بعد أن قسموهم إلى عرب وعجم، وتعصبوا بجنون للعروبة حتى كأن المسلم هو العربي ليس إلا فأبتدعوا القول بأن أهل (لا إله إلا الله) عموماً مسلمون، أما هم (فإسلاميون)، ونشروها عملياً في صحفهم وأحاديثهم وطبقوها على ما أفتى به علماء البنوك ومشاهير دلاديل بلاد (البترول) ولا قوّةَ إلا بالله.

· الفرق العلمي بين الكفر العملي والاعتقادي:

برغم ما حققناه في فصول رسالة أهل القبلة نحب أن نوجه عناية الأخوة القارئين الصالحين إلى أنه عندما يذكر الحديث النبوي لفظ (الكفر أو الشرك) كأثر لمعصية أو خطيئة فإنه لا وألف لا، ولكن يراد به علمياً وفقهياً وعقلياً وجماعياً أن من عمل كذا أو قال كذا فقد أشرك أو كفر، يعني قلد المشركين والكفرة في بعض أقوالهم أو بعض أعمالهم أي أنه عصى أو خالف أو تهاون أو تجاوز ليس إلا، بحسب واقع الأمر، وهذا هو ما يسميه العلماء بالكفر أو الشرك العملي لا كفر الإيمان أو شرك العقائد والتوحيد. والعياذُ بالله.

يجب أن يكون هذا مفهوماً عن يقين، ومعلوماً مذاعاً على الناس، وإلا فلم يبق على وجه الأرض الآن مسلم، فإنه لا يكاد أن يبقى شيء لم يقلد فيه المسلمون غيرهم إلا العقائد والعبادات وبعض الأخلاق، فإن الطوفان الحضاري المعاصر لم يبق شيئاً إلا خالطه، سواء كان حسياً أو معنوياً، والتخلص من ذلك أمر مستحيل تماماً على العالم والجاهل والسلفي والخلفي جميعاً وقلنا الله نكارة الجهل بالعلم أو حقارة العلم بالجهل القبيح.

وصدق الله العظيم إذ يقول: ((والذين يرمون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً)).

اللهم إني استغفرك وأتوب إليك مما جرى به قلمي غيره على دينك، ومحبة في رسولك واتباعه من أهل الله الصالحين وكشفاً للمحجوب من الأمور عن كثير من خلق الله، اللهم إنك تعلم أني أريد بكل ذلك وجهك الكريم، فتقبل مني يا سميع يا عليم واغفر لي يا غفور يا رحيم ما سبق بي قلمي أو انفعلت به.

اللهم إنك تعلم أنني مريض معتكف بداري، لا أبغي من الناس جزاء ولا شكوراً، ولا أبغى بقولي وعملي إلا رضاك وحسن الخاتمة فيسر لي ذلك بفضلك إنك على كل شيء قدير.

المصدر: كتيب السلفية المعاصرة .. إلى أين؟ ومن هم أهل السنة ط1، 1987

تحميل