مميز
EN عربي
الكاتب: محمد الغريب
التاريخ: 27/04/2013

لماذا تبرؤوا من جريمة اغتيال العلاّمة البوطي، ولماذا تقوّلوا عليه؟!

مقالات
لماذا تبرؤوا من جريمة اغتيال العلاّمة البوطي، ولماذا تقوّلوا عليه؟!
الكاتب: محمد الغريب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأزكى صلوات الله وتسليماته على المبعوث رحمة للعالمين سيّدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
لا شكّ أنّ جريمة اغتيال العلاّمة البوطي ومن معه من تلامذته الأطهار، في بيت الله تعالى، لهي من أعظم الجرائم وأشنعها وأغلظها، وإذا كان قتل الأبرياء في دور العبادة جريمة بكلّ المقاييس الإنسانية، فإن الجريمة تتضاعف بشاعتها حين تكون قتلاً لواحد من أساطين العلم والفكر، و أبرز أئمة العصر، الذين تتضاءل أمام علمه وفكره القاماتُ الكبيرة، وتنحني الهامات العالية.
ولذافقد كان طبيعياً جدّاً أن يسارع الناس إلى التبرُّؤ من هذه الجريمة، وإلى استنكارها؛ إذ من الطبيعي أن يسعى كلّ إنسان إلى دفع العار عن نفسه.
ولكنّ ما هو غير سائغ، أن يتجاوز أناس هذا الأمر المشروع، إلى تبرئة فئة بمختلف أطيافها، وإلصاق التّهمة بالنّظام، من دون أن يستندوا في دعواهم هذه إلى دليل نفياً ولا إثباتاً.. فما الذي حملهم على توجيه التهمة بهذه السرعة، والتأكيد الشديد عليها، وكأنها من الحقائق البدهية التي لا يتمارى فيها إنسان؟.
لعلّ أبرز ما حملهم على ذلك ما يأتي:
الإصرار على أن المعارضة بمختلف أطيافها، وبجميع أفرادها، عبارة عن أبرار أطهار، وأشباه الملائكة، وليس فيهم من هو دون ذلك، وأنّ هذا الذي يسمّيه بعض الناس فتنة؛ ما هو إلاّ حرب بين معسكرين متمايزين تماماً، معسكر الكفر الذي لا إيمان فيه، ومعسكر الإيمان الذي لا نفاق فيه.. فهل هذه هي الحقيقة؟.
يعلم كلّ من عنده أدنى معرفة بالوضع في سورية، أنّ المعارضة عبارة عن عيّنات مختلفة من المجتمع السوري، فيهم الصالح، كما أن فيهم الطالح، وفيهم ذو النيّة الحسنة، كما أنّ فيهم السّكّير والعربيد واللّصّ ومن يتعاطى المخدّرات، ومن لا يتورّع عن شيء من المحرّمات، كما أن فيهم من يقبل الرّأي الآخر، ويمكن أن يقبل بالحوار، وفيهم من لا يحسن إلا لغة القمع والسّلاح والقتل، وفيهم التّكفيريّون الذين يعدّون أهل البلد مشركين وثنيّين وعبّاد القبور، وأن ما يسمّونه مساجد لعبادة الله تعالى؛ إنّما هي معابد تعبد فيها الأوثان، وأنّ روّادها شرٌّ من عَبَدة الأصنام، وأوغل منهم في الشِّرك.. وإذا كانت هذه نظرتهم إلى أهل البلد ومساجدهم، وكانوا لا يجيدون إلا لغة القتل؛ فما الذي يمنعهم من قتل هؤلاء المشركين، وهدم معابدهم والبيوت التي يعبد فيها غير الله على رؤوسهم؟!. أليس هذا من أبرِّ وأعظم الجهاد عند هذه الفئة؟.
يقول بعضهم: ولكنّ أيّاً من هذه الفئات الموغلة في التّشدُّد لم تتبنَّ هذه العملية، ولو أنّهم كانوا هم الذين نفّذوها إذن لتبنَّوها!.
وأقول لهؤلاء: إن الوقت الآن غير مناسب لذلك، والظّروف لم تصبح مواتية بعد؛ ذلك أنّهم إذا أعلنوا عن مسؤوليّتهم عن هذه الجريمة فسينخذل عنهم كثير من أهل البلد المخدوعين بهم، وهذا سيحبط مشروعهم.. إذن فليعلنوا براءتهم من ذلك لئلاّ ينقطع عنهم ما يلقونه من الدَّعم، حتى إذا تمّ لهم _ لا سمح الله _ ما أرادوا؛ عندها سيعلنون بالصّوت العالي عن مسؤوليتهم، وسيصرّحون بأن أحد الاستشهاديّين البررة ممّن باع نفسه لله قد نفّذ تلك العملية الاستشهادية نصرةً لدين الله!!.
إنّ حقد هذه الفئة على العلاّمة البوطي قديم، وليس وليد ظروف سورية الحالية وأحداثها الأخيرة، لقد عجزوا عن مواجهته بالعلم، وكانوا أمام سلطانه العلمي وحججه الباهرة وبيانه السّامي كالذّر والهَوامّ، كلّما لاح لهم ظلّه تهاربت إلى أوكارها ونفرت إلى أجحارها، وإذا نزل بساحتهم تولَّوا وهم يجمحون، ولسان حالهم يذكّرك بقوله تعالى على لسان تلك النّملة:)يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَايَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).. كم وكم دعاهم إلى الحوار العلميّ الهادئ؛ ولكنّهم لم يستجيبوا؛ لأنّهم أيقنوا أن اجتماعهم به على مائدة الحوار سيفضحهم ويكشف عُوارهم، ويبيّن ضحالتهم العلمية، وسيظهر للناس جميعاً أن جعجعتهم التي يصدّعون بها الرّؤوس ليس وراءها طحن.. من أجل هذا استغلّ هؤلاء هذه الفتنة ليتخلّصوا من خصمهم في ساحة العلم، ولكن بسلاح الغدر الذي يتنكّر له الشّرف والإيمان والإنسانية والعقل الحرّ الرّشيد.
ومهما حاول هؤلاء أن يلبّسوا على الناس؛ فإن العشرات ممّن كانوا حاضرين في الدّرس، شهدوا عن رؤية بأن ما تمّ كان عملية انتحارية، والشّظايا التي توضّعت في أجساد العشرات منهم واستقرّت فيها شهود عدول، تشهد بذلك أيضاً.. فهل سمع أحد أن غير هذه الفئة تمارس مثل هذه العمليات الانتحارية؟.
نعم لقد سُرّ بهذه الفعلة الشنيعة القذرة كثيرون ممّن عجزوا عن مقارعة الإمام الشهيد بالحجّة، فرح العلمانيّون، وفرح أهل الأهواء والمبتدعة والغلاة والتكفيريّون، ولكنّ أحداً منهم لم يجرؤ على الإفصاح عن سروره هذا على الملأ؛ تفادياً لنظرات الاستهجان والاستصغار التي سيقابلون بها من كلّ إنسانٍ لم تُمسخ فيه إنسانيته.
إن من أسباب مسارعة هؤلاء إلى رمي النظام بارتكاب هذه الجريمة؛ الحرص على إثبات أنّ الشهيد البوطي كان مخطئاً في اجتهاده؛ ذلك أنّه إذا كان النّظام هو الذي ارتكب الجريمة؛ فسيكون ذلك دليلاً قاطعاً على سذاجة العلاّمة البوطي في تفكيره، وعلى غفلته العجيبة؛ إذ كان يجهل حقيقة ما عليه النّظام من الغدر، وأنّهم هم كانوا أعقل منه وأوعى، وأعرف بحقيقة النِّظام ومكره، ومن ثمّ فهم الذين عرفوا الحقيقة واتّبعوا الحقّ، وهو الذي كان مغفّلاً يسعى وراء الأوهام.. هذا هو الدَّافع الثاني الذي حملهم على اتِّهام النِّظام.
وإنّ الذي زجّ بهم في مثل هذه الحسابات، إنّما هو تصوّرهم غير الصحيح لحقيقة موقف العلاّمة من فتنة الشّام، والحقّ أنّ هذا التصوّر عند كثيرين منهم ليس وليد جهل، ولكنهم فرضوهعلى أنفسهم فرضاً.. لقد أصرّ القوم على أنّ الشهيد السعيد كان منحازاً إلى النظام.. والذي عنده عقل ومروءة لا يقبل هذه الدّعوى الباطلة؛ ذلك أن سيرة حياة الشهيد كلّها ردٌ على هذه الدّعوى المفلسة.. اقرؤوا كتبه، وانظروا ما موقفه من وليّ الأمر _ بغضِّ النظر عن شخصه _إذا ظلم وجار، وكيف ينبغي أن يكون التّعامل معه، ثمّ انظروا في سلوكه، هل خالف ما قرّر؟. لقد كان قوّاماً بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاه الحاكم، وكان متسامياً في ذلك على حظوظ النفس، ممتثلاً قوله تعالى:(فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) واستمرّ على هذا النهج إلى أن لقي ربّه، فكان سلوكه العمليُّ منسجماً مع قناعاته العلمية النظرية، شأن العلماء الرّاسخين.
وفي أيام الشّدّة الحالكة، حيث كانت الهجمة على الأخلاق والقيم على أشدّها في البلد، وكان الذي تولّى كبرها - في الظاهر - وزير التربية آنذاك، وحين كان التلفزيون السّوري يبثّ ذلك المسلسل المشؤوم الذي يستهزئ بكتاب الله تعالى، وبدين الأمّة، مَن الذي حذّر وأنذر، ومن الذي نهى عن هذا المنكر وغيره.. لقد كان هناك كبار في البلد، عهدناهم شجعاناً في مثل هذه المواقف، ولكنهم سكتوا في تلك الأثناء؛ لأن الهجمة كانت شرسة مسعورة، فلم يروا من الحكمة الصّدع بإنكار تلك المنكرات، في حين أن الشهيد البوطي كان يزمجر ويحذِر من غضبة إلهية وشيكة- وهي ما نراه اليوم- وكأنه يراها رأي العين، مع أنّ بعضاً ممّن يركب موجة الثورة اليوم، ممّن يزعمون أنهم دعاة كانوا يسخرون من الشهيد بسبب تحذيره هذا!.
لقد كان الإمام الشهيد يحذِّر من هذه المؤامرة التي نراها اليوم، من سنين طويلة، حذّر منها في دروسه في المساجد والجامعة وفي محاضراته، وفي دروسه التلفزيونية وفي المؤتمرات، وكان يؤكِّد أن شِقّاً عظيماً من المؤامرة يتمثّل في إثارة التناقضات في المجتمعات الإسلامية، وتأليب الفئات بعضها على بعض، واختراع نوع جديد من الجهاد يبرأ الإسلام إلى الله تعالى منه، وكان العلاّمة الشهيد يقرأ من وثائق مسرّبة، تتضمّن ما يتواصى به الغرب في مؤتمراتهم السّرّيّة، وما يخططون لنا ويدبّرون من المكائد، والتسجيلات شاهدة على ذلك، ولكن للأسف لم ينصت إليه الحكّام قبل الفتنة، وحين وقعت الفتنة لم يستمع إليه الناس، وانطلت المؤامرة المفضوحة على الناس، وعلى أهل العلم وعلى كثير من المسؤولين، فكانوا جميعاً شركاء في المؤامرة من حيث لا يشعرون.. أمّا الإمام السّعيد فقد بقي كالطّود الشامخ لاتهزّه الأعاصير، يسعى بكل ما أوتي من طاقة ليحفظ المركب من الغرق، وليخفّف من تداعيات الفتنة، ولينصح هؤلاء وهؤلاء، كلٌ بالأسلوب الذي يراه مناسباً له، ومتّفقاً مع هدي سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم.. ولكن - وللأسف الشديد – خوّنه كثير من الناس، وصدّقوا حمد بن جاسم بن جبر، الذي زكّاه جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، حين قال: إن من الرجال الذين تثق بهم أمريكا في المنطقة حمد بن جبر، ومحمد شحرور، صاحب القراءة المعاصرة للقرآن الكريم، و..!!. وصدّق الناس وعود أردوغان، الذي كان عدوّاً لليهود، وعاد التحالف بينهم اليوم جذعاً، وكأنّ شيئاً لم يكن.. وصدق رسول الله الذي حذّرنا من السنين الخَدّاعات التي يخوّن فيها الأمين ويؤتمن الخائن، ويتكلّم الرّويبضة في شأن العامة، أي يتكلّم التافه في قضايا الأمّة الكبرى.
متى خالف الإمام الشهيد ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلّم في التعامل مع الحاكم، ولو كان الحاكم ظالماً مستبدّاً؟. لقد كان يكرِّر كثيراً أنّه ليس معنياً بالنّظام، وأنه لا يشغل نفسه بالحديث عنه مدحاً ولا قدحاً، ولكنّه معني بدفع هذه الفتنة التي ذرّ قرنها- عن البلاد بل عن المنطقة وشعوبها، ويسعى لدرء فتنة الحرب الطائفية التي لاحت نذرها في الأفق، ويسعى السُّذَج والمغفّلون والحمقى لإذكاء نارها الرّهيبة سعياً حثيثاً.
ولا يقولن قائل إن النظام ومن يعينه هم السبب فيها، لأنّ المهم أن ما حذّر منه وقع، بغضّ النظر عن المسؤول، وهو كان يرى بعين بصيرته ما عشت بصائر كثير من العلماء عن رؤيته، بل لا تزال عاجزة عن تبيّنه.. وهل إذا وقع ما حذّر منه _ والعياذ بالله _ واحترق الأخضر واليابس، هل سيخفِّف من وطأته إن كان المتسبِّب له زيد أو عمرو.. إنّما العاقل مَن يتفادى الكارثة بأقصى ما يستطيع، أو يسعى للتقليل من آثارها المدمِّرة جهد الاستطاعة، بغضِّ النظر عن المتسبِّب لها.
لماذا تقوّلوا على العلاّمة الشهيد؟:لقد تقوَّل بعض الناس على الشهيد البوطي؛ فزعم أنّه غيَّر موقفه ممّا يجري في سورية، وأنّه كان ينوي أن يعلن عن ذلك على منبر الجامع الأموي في خطبة الجمعة، ولا شكّ أن هذا الكلام من الطرافة بحيث يثير الضّحك، بل يثير الشفقة على قائله؛ إذ كيف تسنّى له أن يطّلع على ما في نفس العلاّمة الشهيد، مع أنّ أقرب المقرّبين منه لم يروا منه إلاّ الثبات على موقفه إلى أن غادر الدّنيا، بل كيف تسنّى للدّولة أن تقرأ ما في نفسه لتتخلّص منه قبل أن يعلن انشقاقه عنها.. ليس لهذا من تفسير إلا أن هذا الذي يعلم الغيب عميل من عملاء الدولة، وأنه هو الذي أخبرها بما كان يحدّث به الشهيد نفسه؛ لأنّه ليس في رجال الدّولة من يعلم ما تخفي الصّدور.
على أنّ أغلب الظّنّ أن هذا الذي تقوّل على العلاّمة البوطي، ونسب إليه ما هو منه براء؛ إنّما حمله على ذلك حبّه للإمام الشهيد، إذ كان يعزّ عليه أن يرحل عن هذه الدّنيا، وهو متلبّس بموقفٍ هو فيه مخطئ مائة بالمائة عند هذا المتقوِّل، فأراد أن يبيّض صفحته عند الناس؛ فادّعى أنّه غيّر موقفه.
ولكنّني أقول لهذا وأمثاله: ممّن يطلقون الأحكام الجازمة فيما يتعلّق بأحداث سورية: رويدكم، لا تتسرَّعوا في إطلاق الأحكام، ولا تجزموا بصحّة هذا الموقف وخطأ ذاك؛ لأن الحقيقة غالباً ما تضيع تحت غبار الفتن وقتامها حين تثور، ولا تتضح الرؤية إلا بعد انقشاع سحبها المتكاثفة، ولقد قال بعض أصحاب سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (الفتنة إذا أقبلت أشبهت، وإذا أدبرت بيَّنت) فلنتريّث جميعاً إلى أن تنقشع سحب هذه الفتنة، عجّل الله بكشفها، وعند ذلك سيتبيّن المخطئ من المصيب.
ولكن ما أستطيع أن أجزم به الآن، هو أنّ كلّ إنسان عاقل يتمنّى لو أن عجلة الزّمان رجعت إلى الوراء، وأنّ ما كان لم يكن، وأنّ الناس استجابوا لنصيحة الشهيد السعيد رضي الله عنه، ولم ينقادوا للمجهول الذي حذّرهم من الانقياد له، وأجزم أنّ الناس لو استقبلوا من أمرهم ما استدبروا لما اقتحم أحد منهم هذه الورطة.
ثمّ إنّلي ثقة تكاد تصل إلى درجة اليقين،بأنّ ما سينكشف للناس في المستقبل سيبصّرهم بسداد رأي العلاّمة البوطي، وبمدى صدقه في نصحه، وبمدى عمقه في تحليله لما يجري، وعند ذلك سيحقّ لهم أن يقرعوا السِّنّ من ندم، وأن يبكوا لفقده، ويردّدوا بحسرة بالغة قول الفارعة بنت طريف:
فَقَدْناه فقدانَ الرّبيع وليتنا
فديناه من فتياننا بألوفِ

تحميل