مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمد الزحيلي
التاريخ: 10/04/2013

مسؤولية الوالدين عن تربية الأولاد

بحوث ودراسات

نقدم بين يدي هذا الموضوع فضل الله تعالى في منح الأولاد، وأنهم هبة من الله تعالى، كما أنهم أمانة في عنق الوالدين.


الأولاد هبة من الله تعالى:

إن من الآيات الجليلة الدالة على عظمة الله تعالى وقدرته أن خلق الناس من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، ثم منح الزوجين الأولاد والذرية، فقال الله تعالى:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء). [النساء: 1].

وإن منح الذرية من الأبناء والبنات نعمة جلى من الله تعالى، يستحق عليها الشكر الجزيل، والثناء الدائم، لأن الذرية أمل البشرية منذ وُجدت، وستبقى كذلك حتى تقوم الساعة، للمحافظة على بقاء الجنس البشري، وإن الأزواج يتطلعون - بسرعة عقب الزواج - إلى الذرية الطيبة، ويرقبون العلامات الدالة على الإنجاب، ويستبشرون بها، حتى يحققوا رغبتهم، وتقرأ أعينهم بالبنين والبنات، ويسألون الله تعالى ذلك، فإن تأخرت قرائن الحمل استغاثوا الله الخالق البارئ، واستنجدوا به، وضربوا في مشارق الأرض ومغاربه لاتخاذ الأسباب للإنجاب، وهذه سنة الله في الناس، وهذه هي فطرتهم مهما اختلف أجناسهم وألوانهم وأزمانهم وأماكنهم، قال تعالى على لسان سيدنا زكريا: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء). [آل عمران: 38].

وقال تعالى على لسان أيضاً زكريا أيضاً: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً

فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً). [مريم: 5 - 6].

وإن هبة الأولاد من الله تعالى نص عليها القرآن الكريم، وربطها بملك السموات والأرض، والتصرف فيهما كما يشاءُ فقال تعالى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [الشورى: 49 - 50].

وقد وردت الآيات الكثيرة التي تؤكد نعمة الله تعالى على البشرية بالذرية الصالحة الطيبة، فقال عزّ وجل: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً). [الكهف: 46].

وقال تعالى: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ). [النحل: 72].

وهذه النعمة ذات أثر عظيم على الإنسان، وتلتقي مع فطرته وغريزته، فإذا بشر الناس بالمولود تلألأت وجوههم بالبشر والفرح والسرور، وامتلأت قلوبهم بالسعادة والحبور، وانتظروا من الأهل والأصدقاء والجيران التهنئة به، لأن مولود اليوم هو رجل المستقبل، وأمل الوالدين، وذخر الأمة، والطفل امتداد لحياة الإنسان على الأرض، وهو فرع من شجرته، وثمرة من غراسه، ولا يتمنى أحد أن يكون غيره أحسن منه إلاَّ أن يكون ولده.

الأولاد أمانة في عنق الوالدين:

وعند الوصول إلى هذا الأمل تهدأ النفوس، وترتاح القلوب، وتتعلق المهج بالمولود الجديد الذي خلقه الله تعالى، ومنحه للوالدين كرماً وفضلاً، ولم يكن لهما حَوْل ولا طَوْل في خلقه وإيجاده، فهو أمانة في أيديهم، ويحتمل أن يسترد صاحب الأمانة وديعته، أو أن يترك الولد بين أهله فترة - طالت أو قصرت - ليرعوا حق الله تعالى فيه، ويحافظوا عليه، ويطبقوا عليه شريعته وأحكامه، وهذا حق للولد على والده، وبعبارة أخرى فهي واجبات على الوالد، يجب عليه القيام بها، وإذا قوي ساقه، واشتد عوده، وجب عليه حسن التربية والتوجيه والتهذيب والتعليم، وهذا أهم واجب على الآباء والأمهات تجاه الأولاد، ولذلك يؤكد القرآن الكريم هذا الشأن عند الوالدين فيأمرهم برعاية الأولاد، ويوصيهم بالحفاظ عليهم، فيقول تعالى: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ). [النساء: 11].

تكليف الوالدين بواجب التربية:

يولد الطفل على الفطرة، ويفتح عينيه على الحياة ليرى أمه وأباه يحوطانه بكل شيء، وينظر إلى الوجود من خلالهما، ويبصر الكون بأعينهما، ويستقر في قرارة نفسه أن الأب والأم هما كل شي في العالم، فيستمد منهما العطف والحنان، ويتوجه إليهما للحماية والرعاية، ويلجأ إليهما في كل صغيرة وكبيرة، وتنساب أسئلته بالاستفسار كالسيل المدرار، حتى يعجز كثير من الآباء والأمهات عن الجواب، ويقنع الولد بكل جواب، ويُصِّدق - بجزم وبدون ريب ولا شك ولا تردد، ولا تحفظ ولا مناقشة - كل ما يسمع من والديه، مهما كانت الأفكار سخيفة أم رائعة كاذبة أم صادقة، ويكون عقل الطفل، في مرحلة الطفولة الأولى كالطين، يمكن للأب أن يشكلها كما يشاء، وتكون نفسه كالصفحة البيضاء، تخط فيها الأم ما تشاء، وتثبت عليها ما تريد، ويمتاز الطفل - في هذه المرحلة - بحب التقليد والمحاكاة لتحركات والديه وتصرفاتهما، لذا يتحمل الوالدان المسؤولية الأولى على التربية والإعداد والتثقيف والتوجيه لما يُحبّه الله ويرضاه، وقد خصهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المسؤولية في الحديث السابق (والرجلُ راعٍ في أهله، هو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عن رعيتها) فالمسؤولية على الوالدين عظيمة، وتترتب عليهما نتائج خطيرة في الدنيا والآخرة، فيلتزم الوالدان أن يُنَشِّئا أولادهما على الإيمان الكامل، والعقيدة الصحيحة، وأن يعوداهما على التكاليف الشرعية والآداب الإسلامية، والأخلاق الفاضلة.

وإن إعداد الجيل المؤمن الصالح يقع على عاتق الآباء والأمهات، لأن الطفل ينظر إلى والديه، وكأنهما المثل الأعلى، ويلتف حولهما، ويطرح عليهما كل الأسئلة، ويعتقد أنهما يحوزان العِلْم اللدني، وأنهما كل شيء في الوجود، فهم الأنا الأعلى بالتعبير التربوي الحديث، ويتلقى الطفل منهما في بدء حياته كل توجيه، لقناعته الكاملة بكل ما يقولان، وتسيطر على أحاسيسه تعابير والديه، ولا يقتصر الأمر على التوجيه المباشر، بل يقلد والديه في الأشياء الكثيرة سواء كانت حسنة أم سيئة، بطريق مباشر أم غير مباشر، ويستحوذ على فكره اللاشعوري كثير من تصرفات الوالدين في الرضا والغضب، في الحب والكره، في السعادة والشقاوة، وإن هذه الظروف العامة المحيطة، والقناعات المطلقة، لا تتوفر في أية مرحلة أخرى من مراحل التربية، كما تتوفر للطفل في أسرته، ومع والديه، بالإضافة إلى الدوافع الفطرية بالمحبة المتبادلة، والتضحية اللامتناهية من الآباء والأمهات لأولادهم، وأنهم أمل المستقبل، وسبيل البقاء والاستمرار، لذلك كانت مسؤولية الوالدين في التربية أول المسؤوليات وأهمها أمام الله تعالى.

وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بوظيفة الوالدين في تربية الأولاد، فقال عليه الصلاة والسلام: (كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يُهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)، وخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الآباء والأمهات، ومن يقوم مقامهم في تطبيق الأحكام الشرعية المتعلقة بتربية الأولاد، فقال عليه الصلاة والسلام في مجال التربية البدنية مثلاً: (علِّموا أولادكم السباحة والرماية والمرأة الغزل) ورغّب رسول الله صلى الله عليه وسلم الوالدين بتأديب الأولاد، وأنهما يكسبان الأجر والثواب عند رب العالمين، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما نَحلَ والدُ ولداً أفضل من أدب حسن) وعن جابر بن سَمُرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لأن يُؤدَّب أحدكم ولده خيرُ له من أن يتصدق كل يوم بنصف صاع على المساكين) وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالوا: يا رسول الله، قد علمنا ما حقُ الوالد، فما حق الولد قال: (أن تحسنَ أدبه).

وقال عبد الله بن عمر: (أدِّب ابنك، فإنك مسؤول عنه، ماذا أدّبته، وماذا علمته، وهو مسؤول عن بِرّك، وطواعيته لك).

فإن تخلى الآباء والأمهات عن ذلك فقد لحقهم إثم كبير، ووباء عريض، ونالوا خسارة جسيمة، وخانوا الأمانة التي وضعها الله في أيديهم، وأضاعوا الوديعة التي كلفهم الله بحفظها، وتحملوا مسؤولية ذلك في الدنيا والآخرة، لذلك حذّر القرآن الكريم الآباء والأمهات من ذلك، ونبههم إلى خطره، وأنهم مسؤولون عن أهلهم كمسؤوليتهم عن أنفسهم بترك المعاصي وفعل الطاعات، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ). [التحريم: 6].

قال الإمام علي كرم الله وجهه: "أي علموهم وأدبوهم".

وقال الحسن البصري: "مروهم بطاعة الله، وعلموهم الخير".

قال بعض أهل العلم: "إن الله سبحانه وتعالى يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، فوصيةُ الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم".

وقال تعالى: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ). [النساء: 11].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعدلُوا بين أولادكم في النِّحَل كما تُحبون أن يَعدلوا بينكم في البِر واللُطف).

آثار مسؤولية الوالدين في التربية:

وبناء على هذه النصوص الواضحة الصريحة في مسؤولية الوالدين ندرك الإثم العظيم الذي يرتكبه بعض الوالدين في هذا العمر، فإنهم يهملون تربية الأولاد، ويتركونهم يعبثون بالأخلاق، ويهدرون القيم، ويتخلقون بعادات الغرب وتقاليده، ويسارعون إلى اقتناص "الموضات" الأجنبية، ويتشكلون بأشكال الهمجية والوحشية والبدائية من إطالة الشعر، وإهمال النظافة، والارتماء على

الأرصفة، والاختلاط المشين في الحفلات والندوات، وإرواء الغرائز والشهوات بدون قيد ولا شرط، والتخنث والترجل، ويصدق عليهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعنّ سَنَنَ الذين من قبلكم، شبراً بشبر، وذرعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم)، قلنا: اليهود والنصارى ؟ قال: (فمن ؟!).

وقد يصل الأمر إلى الظهور بهذه الأشكال أمام الآباء والأمهات الذين يدعون الدين والتدين، ويتظاهرون بالإسلام، دون أن تتحرك عواطفهم بالاستنكار، أو تهتز أفئدتهم بالسخط، أو ينطق لسانهم بنصح أو وعظ أو إرشاد، وإن أنكر أحد الآباء على بعض ولده، ووجهه إلى الصواب فربما أعرض الولد، ولم يستجب، وما ذلك إلاَّ من التقصير في التربية على خلق الإسلام وسلوكه

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يُضيِّع من يَقُوت)، فهذا الابن الذي رعاه أبوه صغيراً، وسهر عليه الليل والنهار، وكدّ وكافح في سبيله وسعى وكسب له القوت، وجمع له المال الحلال والحرام لتربيته وتنشئته، ليراه غرسة من بعده، أصلها ثابت وفرعها في السماء، ويأمل أن يكون ابنه ذِكْراً طيباً له، وامتداداً لحياته، إذ يخيب ظنه به، ويفقد رجاءه في سلوكه ويصبح الوالد في وادٍ فكري وديني واجتماعي، ويعيش الابن في وادٍ آخر، وتنقطع الصلة بينهما، فيصدق على هذا الابن.

وصفُ القرآن الكريم: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) [هود: 46].

ويعيش الآباء في صراع عنيف، بين الاعتزاز بالأبناء في تحقيق الآمال والأحلام، وبين الاستنكار في أعمالهم، وتكرر الصورة العجيبة التي يراها الإنسان في مجتمع اليوم، وهي من صور التناقضات التي عيشها المسلمون في ديارهم وأوطانهم، وهذه الصورة ذات وجهين:

الوجــه الأول: أن ترى بعض الآباء والأمهات منغمسين في الحياة المادية، يغرقون في الملاهي والشهوات، ويستهينون بالقيم والمبادئ، ويجاهرون بالكفر والفسوق، بينما ترى أبناءهم وبناتهم

على العكس تماماً: قد منَّ الله عليهم بالإسلام والإيمان، وسلكوا طريق الهدى والرشاد، والتزموا الإسلام عقيدة وشريعة، فكراً وتطبيقاً، نظاماً وعملاً.

ومسؤولية هؤلاء الآباء والأمهات أمام الله تعالى واضحة لا لبس فيها، وخطرهم على المجتمع والأمة جسيم، فهم يمنعون الخير، ويأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، وينطبق عليهم قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى) [ العلق: 9 - 10].

ولا تقل جريمة هؤلاء عن جريمة الكفار المعاندين الذين وقفوا في وجه الحق والدعوة إلى الله، ومنعوا الناس من الدخول في دين الله، والإيمان برسول الله، وحالُوا بين الضعاف وبين الهدى والنور، وينطبق على الأولاد دعاء الرسول ورجاؤه أن يخرج من أصلاب الآباء من يوحد الله ويعبده.

الوجــه الثانــي: وهو الأكثر شيوعاُ، ويتمثل في تلك الغالبية من جيل الكهول، رجالاُ ونساء، الذين يَتحَلّون بأكثر المظاهر الدينية، بينما ترى أبناءهم وبناتهم من جيل الأطفال والشباب، يتخلون عن كل شكل أو زِيّ، أو علامة أو مظهر، يَمُت إلى الإسلام بصلة، ويقلدون الأجانب في كل صغيرة وكبيرة، حتى يخيل إليك أن عربياً يسير بجانب أمريكي أو روسي، الأول تعلوه مهابة الإيمان، ويرتدي بزة الإسلام، ويحضر الجمعة والجماعات، والآخر ينسلخ عن تقاليد مجتمعه، ومبادئ شريعته، ليخلع على نفسه صورة الغربي، كما يخيل إليك أن امرأة مسلمة تسير بمحاذاة فتاة فرنسية أو انكليزية، الأم محتشمة اللباس، تغطي رأسها ويديها بالحجاب الشرعي، وتسدل الستار أحياناً على وجهها، والفتاة عارية الرأس، كاشحة الصدر، كاشفة للساقين، كأنها عارضة للأزياء.

هذه الصورة شائعة في المجتمعات التي تقطن أرض العروبة والإسلام، وهي صورة عجيبة في ملامحها، غريبة عن محيطها، متنافية مع المنطق والعقل، وهذا الأمر يرجع إلى مسؤولية الآباء والأمهات عن تربية أولادهم، ومسؤولية الأمة والمجتمع والدولة عن مناهج التعليم، ورعاية الجيل

الناشئ، وإعداده إعداداً صالحاً، بتثبيت العقيدة، واعتناق الفكر الإسلامي الصحيح، لإزالة التناقض بين جيل الآباء والكهول، وجيل الأطفال والشباب، وإلاَّ كانت المسؤولية كاملة وثقيلة على الأعناق التي تنوء بها الظهور، وتشيب لها الولدان.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سُدَى، فقد أساء إليه غاية الإساءة وأكثرُ الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم يَنْفعوا آباءهم كباراً كما عاتب بعضهم ولده على العقوق، فقال الولد: يا أبتِ، إنك عققتني صغيراً فعققتمك كبيراً، وأضعتني وليداً، فأضعتك شيخاً".

منهج الإسلام في تربية الأولاد:

يزعم بعض الناس أنهم قاموا بواجباتهم تجاه أولادهم، ولم تتحقق غايتهم في التربية، ويقول آخرون - يدفعهم الحقد والنكران والجهود والكفر، ويسيطر عليهم الفكر الاستعماري، والغزو الأجنبي - يقولون باستحالة التربية الإسلامية في هذا العصر، ويتجاهلون التربية الإسلامية، ويتنكرون لمنهج الإسلام في التربية، ويأتي فريق ثالث، يدفعه الإيمان والشعور بالمسؤولية، يأتي سائلاً عن الطريق التي يتبعها لتربية أولاده، والوسيلة التي تساعده في إنقاذ فلذات كبده، ويدور في خلد الجميع أحياناً أن علم التربية من العلوم المستحدثة، وأن مناهج التربية من مبتكرات الغرب في العصر الحديث !!

وقبل الجواب عن هذه الأسئلة نتوجه إلى المسلم فقط لنهمس في أذنه أمراً بدهياً يتعلق بالعقيدة، وهو أهم من معرفة الأحكام الشرعية، والمناهج التفصيلية، وهذا الأمر هو أن الإسلام دين الله الخالد، وأن القرآن الكريم كلام الله المعجز، وأن الأحكام الشرعية هي من وضع خالق البشر، الذي يعلم من خلق، وأن هذا الدين العظيم هو منهج كامل للحياة في مختلف النواحي، وأن المؤمن يتجه - عند كل واقعة - إلى كتاب ربه، وشريعة نبيه، يستقرئها، ويستوضح أحكامها، ويسأل أهل العلم عن الحل الأمثل، والدواء الشافي لكل صغيرة وكبيرة، قال الله تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) [النساء: 65].

والإسلام الحنيف لم يطلب مجرد التربية من الآباء والأمهات، ولم يُحمِّلهم المسؤولية بدون أن يرشدهم إلى الوسيلة، ويأخذ بيدهم إلى أقوام الطرق، بل وضع لهم منهاجاً كاملاً في تربية الأولاد يبتدئ قبل الولادة، ويصاحب الولد في طفولته ومراهقته وبلوغه وشبابه، ثم يحدد العلاقة فيما بين الوالدين والولد بعد أن يصبح بالغاً ومكلفاً، ورجلاً كاملاً، وإنساناً عاقلاً، وشاباً سوياً، أو فتاة راشدة.

وإن ما يشغل المسلم الواعي، والمؤمن المخلص لدينه في وقتنا الحاضر، هو كيف يربي أولاده تربية إسلامية سليمة، وكيف يحفظهم من التيارات الفاسدة، والمبادئ الهدامة، والشعارات المستوردة، وكيف يصونهم من العبث والفوضى، وكيف يضمن تربية الأجيال القادمة، لتكون خير خلف لخير سلف، وتصون لأمتها الكرامة والسؤدد والعزة، وتحقق لها النصر والتحرير من الاستعمار والاستبداد والغزو الفكري ؟؟

والجواب السريع هو أن نستقرئ النصوص الشرعية ونتتبع الأحكام الدينية، لبيان أهم عناصر منهج الإسلام في تربية الأطفال، مع بيان الوسائل والغايات لكل عنصر، وهي:

حسن اختيار الزوجة: يقول علماء التربية: يجب على الوالد أن يبدأ بتربية ولده قبل الولادة، ويأتي في قمة العناصر التربوية التي أرشد إليها الإسلام - قبل الولادة - اختيار الزوجة، لأن خطيبة اليوم التي يبحث عنها الشاب هي زوجة الغد، وأم المستقبل، ومربية الأطفال والأجيال، والأم هي المدرسة الأولى التي تحضن الطفل، لترضعه لبان الأدب والتربية، وترعاه في أول مراحل العمر، لتغرس في عقله وقلبه البذور الأولى التي ستنمو عند الكبر، وتصون فطرته عما يفسدها، مع ما تَهِب لوليدها من صفات موروثة، وطباع مفطورة، ومواهب متأصلة، فكان حسن اختيار الزوجة من أجل الأولاد أكثر أهمية من بقية العوامل التي تطلب المرأة لأجلها، ويرشد الرسول الكريم - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - إلى ذلك فيقول حكمته البالغة الموجزة (تَخَيّروا لنطفكم) ويقول عليه الصلاة والسلام: (فاظفر بذاتِ الدين تَربَتْ يداك) ويقول الشاعر العربي:

الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق

فالأم هي المربية للأطفال، والحاضنة للأولاد والأمينة على الذرية، والمكلفة بالإشراف عليهم، لأنها سترضع الطفل اللبن، كما سترضعه العقيدة والأخلاق والقيم، وهي التي تربي العباقرة والمصلحين الذين يتولون دفة الحكم وسفينة الإصلاح وقيادة الجيوش، ورجال الدعوة والفكر، وبمقدار التوفيق من حسن اختيار الزوجة يكون الوالد قد أرسى حجر الأساس السليم في تربية أولاده قبل الولادة، مع ما شرعه الإسلام من أحكام خاصة بالحامل والمرضع، لرعاية الجنين والطفل الرضيع، فأباح للحامل والمرضع مثلاً الإفطار في رمضان، وجعل الرضاعة حقاً للطفل، كما شرع الحضانة حقاً للأم والطفل معاً.

وأن أول جهد في التربية، وأول دعامة لها هو التوجه إلى البيت، وخاصة إلى الزوجة الصالحة والأم المربية، والمرأة المؤمنة الواعية، وقد كان دوماً وراء كل عظيم امرأة عظيمة، أو أب عظيم أو أبوان عظيمان.

رعاية الوليد: ومتى تمت الولادة بدأت التربية منذ اللحظة الأولى من حياة الوليد، وهذا ما أرشد إليه الدين الحنيف، وتفرد به على سائر المناهج التربوية في العالم، وكلف الوالدين بإرساء الدعائم التربوية التي سيتم عليها بناء المستقبل، وهي آداب إسلامية، وسنن نبوية، ومنهج رباني، وأهم هذه الآداب ثلاثة:

الأدب الأول: الأذان والإقامة في أذني الوليد، ليكون أول شيء يسمعه في هذا الوجود هو توحيد الله تعالى الذي خلقه وأوجده من نطفة فعلقة فمضغة في ظلمات ثلاث، ليحقق خلافة الله في أرضه، ويبدأ بتنفيذ العهد الذي أخذه الله تعالى من بني آدم من ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا) [الأعراف: 172].

والأذان والإقامة يربطان الحياة - في الأفراح والأتراح - بالعقيدة والدين، ليبقى الأهل أيضاً في لحظات السعادة على صلة بالله تعالى، وتذكر له، ويقولوا: تبارك الله أحسنُ الخالقين، ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا، وأن نعمل صالحاً ترضاه، وأصلح لنا في ذريتنا، وأنبنا إليك، وإنَّا من المسلمين.

الأدب الثاني: حسن اختيار الاسم، وهذا من مسؤولية الوالدين، لما ورد في الأحاديث الشريفة الكثيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويعلمه الكتابة، ويزوجه إذا بلغ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالوا: يا رسول الله، قد علمنا ما حق الوالد، فما حق الولد ؟ قال: (أن يُحسن اسمه ويُحسن أدبه)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير الأسماء القبيحة التي كانت في الجاهلية إلى أسماء حسنة، وإن اختيار الاسم الحسن علامة بارزة في التربية غير المباشرة، لأن كل شخص له من اسمه نصيب، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، بالإضافة إلى الأمور النفسية التي بينها علماء التربية عند المناداة باسم حسن أو قبيح، وأثر ذلك على نفسية الطفل، وعلاقته مع زملائه وأفراد مجتمعه.

الأدب الثالث: تكريم الطفل بالعقيقة لإعلان السعادة والفرح والبشر بمقدم الطفل، وتكون العقيقة بذبح شاة أو أكثر عن المولود يوم أسبوعه، لإطعام الأهل والأقارب والجيران بهذه المناسبة السعيدة، وتقديم الشكر لله تعالى على فضله ونعمه، وقال جمهور العلماء: العقيقة سُنّة.

رعاية الطفل من الصغر:

في مأكله ومشربه وجسده وثيابه، ليكون صحيح العقل، قوي الجسم، سليم الحواس، فإن حياة الإنسان كل لا يتجزأ، وإن حياته الجسمية في الصغر مؤشر إلى حالته في الكبر، وإن العقل السليم في الجسم السليم، والإسلام يريد منا أن نربي أولادنا على القوة والنشاط يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القويُ خيرُ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) وهذه القوة تتجلى بالمعنى المادي، كما تتجلى بالمعنى الروحي أيضاً، بأن يكون الطعام طاهراً ومُبَرّأً من كل حرام، فلا يطعم الأولاد إلاَّ من حلال، ولا تتغذى الحامل والمرضع والأم الحاضن إلاَّ من حلال، لأن اللبن أو الغذاء الحاصل من حرام لا بركة فيه، وكيف يقدَّم الوالد إلى أولاده الغذاء الحرام، ثم يسعى إلى أن يكونوا على منهج الله وصراط رب العالمين؟ فإن الفاسد لا يؤدي إلاَّ إلى فساد، والحرام لا ينتج إلاَّ سوءاً وضرراً، كما أن الحرام لا يكون وسيلة إلى المقاصد النبيلة، وكل لحم نبت من السحت فالنار أولى به، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا من طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ثم ذكر الرجلُ يطيل السفر، أشعثَ أغبرَ، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب له).

ويظن كثير من الآباء أن واجبهم تجاه الأولاد مقصور على تقديم القوت والغذاء والكساء، وأن يؤمِّنوا لهم العيش الرغيد، والحياة المادية المُرْهَفة، فيقضي الأب الأيام والسنين منهمكاً

في الكسب، ويضرب في الأرض للتجارة والعمل، ويسعى ذات اليمين وذات الشمال، فيغيب عن بيته زمناً طويلاً، ويترك أولاده، ويغفل عن تربيتهم، ويظن أنهم صغار يكفيهم الطعام والشراب واللباس، فتكون النتيجة الضياع والحسرة.

وعلى العكس من ذلك تماماً فقد عمد الناس قديماً إلى وأد البنات، هرباً من رزقهم، وبخلاً على معيشتهم، وخشية من الفقر وضيق ذات اليد، ويعمد الناس اليوم إلى ما يُسمى بمنع النسل أو تنظيم النسل، خشية الإملاق والإنفاق، والخوف من قلة الرزق أو الخوف من الفقر، لذلك رد القرآن الكريم على هذين الصنفين رداً حاسماً، مبيناً أنَّ الله هو خالق الأولاد وهو رازقهم، وأن الله يرزق الأولاد كما يرزق الآباء والأمهات، وحذَّر القرآن الكريم من هذه الوساوس والأوهام، فقال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً). [الإسراء: 31].

وقال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) [ الأنعام: 151].

كما أعلن القرآن الكريم المبدأ العام في الرزق فقال تعالى: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ، فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) [ الذاريات: 32].

وربط القرآن الكريم بين الكسب والرزق ووجوب التربية، وإن انصراف الوالدين بعض الوقت إلى تربية الأولاد لا يؤثر على مورد رزقهم ولا يبطله، فقال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه: 132].

فالآية الكريمة ربطت بين التربية وبين الرزق، وأن الرزق بيد الله تعالى، فلا يظن المؤمن أن تربية أولاده تشغله عن كسب الرزق، لأنه مقسوم محدد، ثم عقّبت الآية على كل ذلك بأن العاقبة في الدنيا والآخرة هي للتقوى عن طريق الصلاة والتربية وليس من كثرة الأموال وجمع الأرزاق، وهذا يقودنا إلى أهمية التربية من الصغر.

لمتابعة البحث تفضل بتحميل الملف

تحميل