مميز
EN عربي
الكاتب: محمد سليمان
التاريخ: 11/03/2013

نماذج متألقة لصدق أهل الإيمان في محنة الشام

مقالات

نماذج متألقة لصدق أهل الإيمان في محنة الشام
الكاتب: محمد سليمان
طوبى لكم يا أهل الشام الصابرين على البلاء. لكأن نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطبكم أنتم (عباد الله اثبتوا، يا عباد الله اثبتوا). تشخص عيناي نحو بلدكم المبارك من وراء حدود وأراني ساهما، وكلما استجمعت شتات فكري لبعض شأني، عاد الفكر وشرد إليكم مني. لا أملك لكم إلا دعاء يلهج به لساني إذ يترجم وجيب قلبي، ويتضرع معه صبيب دمعي. فإلى الله المشتكى وحسبي الله ربي وربكم، فنعم الرب ربي ونعم الحسب حسبي.
طوبى لكم! شاء الله أن تقع هذه المصيبة ليتجلى صدقكم ويتميز طيّبكم يا من تمسكتم بالدين والتزمتم هدي النبوة، يا من بقيتم تتحرون الحلال والحرام في الضراء وتصبرون على الطاعة في الشدة. لم تنزع قسوة الجناة منكم الرحمة. ولم يستطع المارقون أن يطمسوا بصائركم عن مشاهدة تجليات الحكمة. وما استطاع الطغاة إخراجكم من نور التدين إلى الظلمة.
فهذه نماذجكم تتألق لتبعث الأمل، وتشحذ الهمم، وتثبت القلوب. تختلط في صدري مشاعر الحزن لما أصابكم بمعاني الاعتزاز والافتخار بكم، وأنا أشاهد هذه النماذج من خلال أسئلتكم التي تؤكد ثباتكم وتظهر صدقكم عبر صفحات الفتاوى على موقع "نسيم الشام". وأعود لنفسي فأجدها تضاءلت إزاء رباطكم ومصابرتكم وأقرّت بالتقصير أمام مجاهدتكم. وأكرر قراءة أسئلتكم ذاكراً شهادة رسول الله لخيرية الشام وأهله، فتغشى دموعي أساريرَ الأمل في وجنتيّ.
من هذه النماذج المتألقة الأخت المؤمنة من حمص، تلك المعلمة القانتة التي سألت عن حلّ راتبها الذي أخذته رغم انقطاع التدريس فترة من الزمن، فلم يهنأ لها أخذ راتبها رغم الضيق العام حتى تتبين حله.
وأنت يا أخي التاجر من حلب، يا من سألت بورع مؤثر عن حكم الزيادة في سعر بيعك "للمازوت" لتعويض سعر شرائه رغم أن غيرك رفع سعره عليك.
وأنت أيها الأخ الصابر، يا من تسأل عن حرمة استعمال ماء بئر في حديقة مجاورة عند انقطاع الماء عن الحي الذي تعيش فيه لأيام متوالية في هذه الظروف.
وأنتم أيها العباد الذين سألتم عن أداء صلاة الحاجة فرادى حين أشاح آخرون بوجوههم عن نفحات ربهم.
وأنت يا من لُذت بحمى الدين تطلب موعظة من العلماء الربانيين لأخوانك الذين يرفعون أجرة النقل وسعر الخبز ولم تنافسهم على الدنيا.
وأنت أيها المؤتمن الوفي يا من سألت عن أمانة تلفت عندك مع بضاعتك في الظروف الحالية، فلم تجزع لتلف بضاعتك في هذه الفتنة بل أهمك إن كان لأخيك حق في ذمتك يسألك الله عنه...
وكل من مثلكم في شام البركة وهم كثر، أليس تسعة أعشار الخير في الشام كما جاء في الحديث الشريف؟
أنتم جميعاً يا أخوتي، يا بقية السلف الصالح، يا من ثبتكم الله على الصدق، أنتم يا من تتحرون الحلال وتتجنبون الحرام رغم الأزمة التي تطوف بكم، إن كنتم مغمورين في الناس فأنتم كاللؤلؤ في أصدافه، وشاء الله أن يعلي مكانتكم ويظهر فضلكم كالدر المنثور من خلال هذه المحنة.
لا أغالي إن قلت إنكم مثل ذلك الشيخ الرباني الذي ألقي في حفرة مع سبُع يحوم حوله، ولما أخرجه الله سالما سأله الناس في ماذا كنت تفكر يا شيخ؟ فقال كنت أفكر هل لعاب السبع طاهر أم نجس لأني أرغب في أن ألقى الله وأنا طاهر ليس بي نجاسة. وها أنتم يا أخوتي تحوم حولكم وحوش، لا كالوحوش، ولم تذهلوا عن السؤال عن حكم الشرع لأنكم تحبون أن يراكم الله على طاعته في كل حال.
ألستم في الأمانة والورع مثل أخت بشر الحافي، التي سألت الإمام أحمد بن حنبل أنها امرأة تغزل في الليل على ضوء السراج، وربما طفئ السراج فتغزل على ضوء القمر، فهل عليها أن تبَيّنَ للمشتري غزل السراج من غزل القمر، أو هل يجوز أن تغزل على شعاع سراج يمر بها. بل لعلكم في شدة أكبر إذ تتورعون حتى عندما اجتمعت ضائقتكم الخاصة والبلاء العام. أليس الصدق والأمانة فيكم امتدادا لما يروى في التاريخ من أن سواراً من ذهب وزنه ثلاثون مثقالاً ظل معلقاً في قنديل من قناديل مسجد دمشق "الجامع الأموي" أكثر من شهر لا يأتيه أحد فيأخذه؟ وتلك المرأة زمن الوليد بن عبد الملك التي باعت طشتاً من نحاس أصفر فاكتشف المشتري أنه ذهبٌ فرده إليها، فقالت ما ورثناه إلا على أنه نحاس فإن كان ذهبا فهو لك.
الورع والتراحم هي خلقكم الأصيل، ونماذج الجشع والظلم والعدوان التي ظهرت هي حالات طارئة لن تلبث أن تزول. (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ).
لله دركم! سأغرس الصدق والإيمان في أطفالي من خلال ذكر قصصكم لهم. فكما أحدثهم عن ذلك الشيخ والسبُع، سأحكي لهم عن جار البئر الشامي الذي استحرم استعمال ماء البئر المجاور رغم الحاجة والضيق حتى يتبين حل ذلك. وسأروي لهم قصة التاجر الحلبي والمعلمة الحمصية كما أروي لهم قصة أخت بشر الحافي. وسأذكر لهم أمانة السوري الذي لم يهتم لبضاعته التالفة أكثر من قلقه على الوديعة التي تلفت معها كذكري لهم قصص أمانة الأولين. وأقول لهم بكل فخر هؤلاء إخوانكم في الإسلام.
غير أن نشوتي وابتهاجي لهذه النماذج لا تعني أنني تفاجأت بها. بل هي مصداق البركة التي توطنت في الشام بإذن الله، فلا تزال الشام زاخرة بالعلماء الربانيين المشهورين والكثير من الصالحين المغمورين. واسمعوا ماذا قال الإمام العز بن عبدالسلام رحمه الله في مقدمة رسالته "ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام":
"فإن الله جعلنا من أهل الشام الذي بارك فيه للعالمين، وأسكنه الأنبياء والمرسلين، والأولياء والمخلصين، والعباد الصالحين، وحفه بملائكته المقربين، وجعله في كفالة رب العالمين، وجعل أهله على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم إلى يوم الدين، وجعله معقل المؤمنين، وملجأ الهاربين، ولا سيما دمشق المحروسة الموصوفة في القرآن المبين بأنها ربوة ذات قرار ومعين".
ويذكر الإمام أيضاً أن "من رأى صالحي أهل الشام ونسبهم إلى غيرهم رأى بينهم من التفاوت ما يدل على اصطفائهم واجتبائهم".
وقد نهى الصحابة عن سب أهل الشام لأن فيهم الأبدال والصالحين كما ذكر الإمام العز بن عبد السلام. فقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لأحدهم "لا تسب أهل الشام جما غفيراً فإن بها الأبدال، فإن بها الأبدال، فإن بها الأبدال". وقال أبو هريرة رضي الله عنه "لا تسبوا أهل الشام، فإنهم جند الله المقدم" فأي جريمة يقترفها الجناة، وأي خطيئة يجترحها الطغاة إذا يعيثون فسادا وينشرون القتل في الشام وقد نهى الصحابة عن إيذاء أهل الشام ولو بالكلام.
ويذكر الإمام العز في رسالته أيضاً مصداقاً لبركة الشام ما يثبّت الأفئدة من أن ما ينزل بالشام من بلاء أيسر مما يكون بغيرها ويقول أن هذا "معلوم بالتجربة، معروف بالمشاهدة، أن الفتن من القحط والغلاء وغير ذلك من أنواع البلاء، إذا نزلت بأرض كانت بالشام أخف منها في غيرها". وهذا مشاهد في عصرنا وإن كان من يقع تحت وطأة الشدة قد لا يرى النسبة بينها وبين مصيبة غيره.
فهنيئاً لكم يا أهل الشام أن اصطفاكم الله. هنيئا لكم أن لبيتم نداء نبيكم وحبيبكم (يا عباد الله اثبتوا). ثم بشراكم، فعلى أمثالكم تتنزل الملائكة بالتثبيت والبشرى (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)، ومن أمثالكم يكون الأئمة والوارثون (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) وأمثالكم وعدهم الله الاستخلاف والتمكين (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
طوبى لكم وفتح قريب بإذن الله.

تحميل