مميز
EN عربي
الكاتب: الشيخ خاشع حقي
التاريخ: 14/01/2013

الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بين الإباحة والتحريم

مقالات

الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بين الإباحة والتحريم


الشيخ خاشع بن شيخ إبراهيم حقي

كلما أطل هلال شهر ربيع الأول من كل عام قمري تقام الاحتفالات في أرجاء العالم الإسلامي احتفاءً بمولد رسول الله - عليه الصلاة والسلام - الذي كان نوراً للعالمين ورحمة لهم وتحولاً للإنسانية أجمع من عهد الظلم والظلمات والضلال والجاهليات إلى النور المبين والهداية للعالمين كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [الجمعة: 2].

ضلال في العقيدة وضلال في العبادة وضلالٍ في النظام الاجتماعي فأنقذهم الله به من كل تلك الضلالات المنحرفة عن الصراط المستقيم الذي كان طريق الأنبياء من قبله قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).

وقد سماه الله عز وجل في كتابه العزيز نوراً فقال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15-16]

فلا غرو إذا احتفل العالم كله بمولد هذا النور الذي أشرق من مكة بلد الله الحرام وغمر نوره الآفاق شرقاً وغرباً حتى شمل الكرة الأرضية كلها.

أقول العالم كله أي المؤمنون برسالته والجاحدون الذين ما كان لهم أن يختلفوا فيه أو يتعاموا عن نوره أضاء له المشرق والمغرب إذ أن هناك من الأشياء ما تتوافق عندها الأنظار وتتجه نحوها الأفكار من غير خلاف فيها أو حولها ترى هل يختلف الناس في جمال الحديقة الغناء أو الجنة الفيحاء أو هل يختلفون بالإعجاب في السماء الصافية والقمر الساطع والنجم اللامع إن الناس جميعاً لا يختلفون في هذا فليس هناك كافر ينكر ولا مؤمن يصدق بل الجميع مصدقون.

كذلك ينبغي أن يكون الناس جميعاً بالنسبة إلى رسول الله - عليه الصلاة والسلام - فلا ينبغي أن يكون كافر ومؤمن بل ينبغي أن نكون جميعاً مؤمنين مصدقين ومتفقين كما اتفقنا في جمال الطبيعة واستحسان الخير وتعشق الجمال فهو - عليه الصلاة والسلام - نبي الطبيعة ونبي الخير ونبي الجمال ونبي الكمال.

كن من شئت مسلماً أو نصرانياً, وكن ما شئت ملحداً ومؤمناً ولكن لا يمنعنك ذلك من انتفاع بإنسانية سيد العالم محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام - تلك الإنسانية التي وسعت العالم رحمةً وشفقة وحناناً كما وسعت الشمس هذا العالم ضياءً ونوراً وإشراقاً تلك الإنسانية الهائلة العجيبة التي تمثلت برحمته على بني قومه ولو كانوا به كافرين وله معاندين.

مولود جديد لإنسانية جديدة:

رأت أمه - عليه الصلاة والسلام - حين كانت حاملاً به رؤيا قبل ولادته أنه خرج منها نورٌ أضاء المشرق والمغرب وبعد بعثته عليه الصلاة والسلام ذكر هذا في حديث له فقال: (أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت), وكان هذا من إرهاصات نبوته أي علاماتها قبل أن يولد فلما ولد كان كذلك.

تلك كانت مقدمة بين يدي الموضوع والآن تعالوا نستعرض أدلة المحرمين للاحتفال بمولده والمبيحين له. يقول الفريق الأول أي المحرمون:

1- ما كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يحتفلون بمولده وهم خير القرون ولو كان جائزاً أو قربة لكانوا أولى بها منا !

2- يستشهدون على ذلك بحديث (إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - عليه الصلاة والسلام - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في نار).

وهذا أهم شاهد لهم وأصح حديث بمعنى أن الاحتفال بالمولد بدعة ظاهرة وهي "ضلالة" كما جاء في آخر الحديث ولذلك فهم يحرمون الاحتفال بالمولد وينأون بأنفسهم عن الوقوع في الضلالة أو بدعة.

3- ودليلهم الآخر حديث (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) أي أحدث شيئاً من أمور الدين فهو مردود على صاحبه.

4- وحديث (كل ما ليس عليه أمرنا فهو رد) وهذا شبيه بالحديث السابق ذكره وبيان له.

وسيرى القارئ أن الاحتفال بالمولد النبوي لا يندرج تحت أي من الأحاديث الثلاثة.

هذه أهم الأدلة التي يستشهد بها محرمو الاحتفال بالمولد - على حد علمي -.

ويستشهد الفريق الآخر المبيح للاحتفال بمولد النبوي وهم جمهور العلماء بما يلي:

أما أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ما كانوا يحتفلون بالمولد النبوي فهذا صحيح لا جدال فيه وقد ظهر الاحتفال بالمولد أول ما ظهر في القرن السادس الهجري لكن عدم احتفالهم بمولده ليس دليلاً يحتج به كما سنذكره لأن أمراً كثيرةً حدثت بعد النبي وفي عهد الصحابة وكانت جديدة عليهم ولم تكن في السيرة النبوية وما جاءت بها الأحاديث الشريفة وأقرها الصحابة بالإجماع.

فإذا كان الصحابة لم يحتفلوا بمولده كما يحتفل الناس اليوم ألم يكونوا يحتفون به ويولون يوم مولده اهتماماً عظيماً ولكن دون إقامة السرادقات والزينات والرايات واجتماع له وإلقاء الخطب والكلمات بهذه المناسبة فقد كانوا يصومون هذا اليوم وهو يوم الاثنين الذي ولد فيه بشهر ربيع الأول على أرجح الأقوال إقتداء برسولهم - عليه الصلاة والسلام - حيث كان يصومه شكراً لله تعالى وتقرباً إليه لأن مولده ثم بعثته رحمة للعالمين من أجل النعم على المسلمين والناس أجمعين.

والشكر لله تعالى يحصل بأنواع العبادة كالسجود لله والصيام له والصدقة وتلاوة القرآن.

وقد أباحها بل وحسنها جمع كبير من العلماء والمحدثين اعترف بعلمهم وتقواهم القاصي والداني أذكر منهم شيخ الإسلام حافظ عصره أحمد بن حجر العسقلاني إذ قال عن عمل المولد حين سئل عنه "أصل عمل المولد بدعة لمتنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ولكنها مع ذلك اشتملت على محاسن وضدها فمن تحرى في عملها المحاسن وجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا".

ويقول السيوطي - رحمه الله تعالى - وهو علمٌ في علمه لا يشق له غبار "وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت في الصحيحين من أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: "هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكراً لله تعالى فصامه وأمر بصيامه" ويستفاد من هذا الشكر لله تعالى على ما أنعم به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة وهذا مما لا خلاف فيه ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم وعلى هذا فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من تلاوة القرآن وإطعام الطعام وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة".

أقول: أفهذه بدعة محرمة يا ناس تودي بصاحبها وفاعلها إلى النار...؟! فاتفوا الله وقولوا قولاً سديداً.

ويستطرد السيوطي - رحمه الله تعالى - في مشروعية الاحتفال بمولده عليه الصلاة والسلام: "وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن نفسه بعد النبوة مع أن جده عبد المطلب عق عنه يوم السابع من ولادته والعقيقة لا تعاد مرة ثانية فحمل ذلك على أن النبي فعله إظهاراً للشكر على إيجاده رحمة للعالمين وتشريعاً لأمته كما كان يصلي على نفسه لذلك أي يقول (اللهم صلي على محمد) ثم رأيت إمام القراء الحافظ شمس الدين بن الجزري قال في كتابه المسمى "عرف التعريف بالمولد الشريف" مانصه: "قد رؤي أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له ما حالك فقال في النار إلا أن الله يخفف عني كل ليلة اثنين وأمص من بين أصبعي ماءً بقد هذا وأشار برأس أصبعه وأن ذلك بإعتاقي ثويبة عندما بشرتني بولادته - عليه الصلاة والسلام - وبإرضاعها له".

أقول: وهذا وإن كان لا يثبت به حكم لأنها رؤيا ولكن يستأنس به خاصة وقد ذكره هذا العالم الجليل فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي - عليه الصلاة والسلام - فما حال المسلم الموحد من أمة النبي يسر بمولده ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنات النعيم وأنشد شمس الدين الدمشقي:

إذا كان هذا كافراً جاء ذمه

وتبت يداه في الجحيم مخلدا

أتى أنه في الاثنين دائماً

يخفف عنه للسرور بأحمدا

فما الظن بالعبد الذي طول عمره

بأحمد مسروراً ومات موحدا

ولنناقش أهم دليل للمحرمين الاحتفال بالمولد النبوي واستشهادهم بحديث (وكل بدعة ضلالة) هل الدليل إلى جانبهم؟ ولنبدأ بتعريف البدعة المحرمة:

أجمع العلماء على أن البدعة الضالة الواردة في الحديث السابق هي طريقةٌ مخترعة في الدين تضاهي الشريعة الإسلامية ويقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية.

تبين لنا من هذا التعريف أنه لا يشمل المولد النبوي قط لا من قريب ولا من بعيد فالاحتفال بالمولد النبوي ليس طريقة في الدين ولا يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية إذ لا يعتقد بالاحتفال به أنه دين ولا سنة من سننه عليه الصلاة والسلام بمعنى أن من لم يحتفل بمولده فهو آثم أو مقصر في عبادته وطاعته لله ورسوله أنما هو أمرٌ مستحسن لأنه دعوة إلى الاجتماع على الخير من ذكر لله تعالى وصلاةٍ على رسوله عليه الصلاة والسلام وسرد بعضٍ من شمائله وجوانب من أخلاقه وفضائله كما أن فيه تلاوةً لكتاب الله عز وجل ومن المعلوم أن المكان أو الاجتماع الذي يقرأ فيه كلام الله عز وجل تحفه الملائكة وتغشاه الرحمة ويذكرهم الله في الملأ الأعلى كما جاء في الحديث الصحيح (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم الرحمة وغشيتهم السكينة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله في من عنده).

ولأنقل لك قارئي العزيز ما قاله العلماء في هذا الصدد:

يقول ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين" عن الشافعي - رضي الله عنه - ورواها عنه الربيع أيضاً إن الشافعي جعل البدعة هي ما خالف الكتاب والسنة أو أثراً عن بعض الصحابة والاحتفال بالمولد النبوي لا يدخل في واحد من الثلاثة وذكر البيهقي عن الشافعي: المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما: مما يخالف كتاباً أو سنةً أو إجماعا فهذه البدعة الضالة، وثانيهما: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذه الثلاثة الكتاب والسنة والإجماع أو الأثر فهذه محدثة غير مذمومة، قال عمر - رضي الله تعالى عنه - في قيام رمضان "نعمت البدعة هذه" يعني أنها لم تكن بدعة وإذا كانت فليس فيها ردٌ على معنى (ما أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) كما لا يندرج تحت قول النبي - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الآخر (كلما ليس عليه أمرنا فهو رد) إنما يندرج تحت قوله عليه الصلاة والسلام (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في "تهذيب الأسماء واللغات": البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله - عليه الصلاة والسلام - وهي من قسمة إلى خمسة أقسام كما سيأتي معنا بعد قليل وأن القيام بعمل المولد تقرباً إلى الله خالياً من المحرمات والمنكرات وخلاف الأولى جائز وكفى بالإمام النووي مفتياً بالجواز بالمولد إذ لا يشق له غبار علماً وزهداً وورعاً فالبدعة إذاً ما كان يمارسها صاحبها على أنها داخل في بنية الدين وجزء لا يتجزأ منه وتلك هي التي حذر منها الرسول - عليه الصلاة والسلام - فيقوله: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).

وأما سائر الأفعال والتصرفات الأخرى التي تصدر عن الإنسان إن اعتقدها على أنها لا تدخل في بنية الدين ولا هي من جوهره وإنما يتبعها لتحقيق هدف أو مصلحة دينية أو دنيوية فإنها تصنف تحت ما سماه الرسول - عليه الصلاة والسلام -: (سنة حسنة).

ثم إن ولادته عليه الصلاة والسلام أعظم النعم علينا ووفاته أعظم المصائب لنا والشريعة حثت على إظهار شكر النعم كما قال تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) والصبر والسكون والكتم عند المصائب فدلت قواعد الشريعة على أنه يحسن في هذه الشهر الفرح بولادته عليه الصلاة والسلام دون إظهار الحزن.

فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا الشهر الذي ولد فيه عليه الصلاة والسلام فينبغي أن نحترمه حق الاحترام ونفضله بما فضل الله الأشهر الفاضلة وهذا منها إذ شرف شهر ميلاده عليه الصلاة والسلام بميلاد هو الزمان المجرد لا شرف له ولا ميزة تميزن عن غيره إلا لما احتضنه هذا الزمان واحتواه من أحداثٍ كبار غير توجه التاريخ.

فشهر رمضان مثلاً لم تكن له قيمة حتى نزل فيه القرآن قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185]

كذلك ليلة القدر ما كان لها أي أهمية لولا أن الله أنزل فيه القرآن قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر: 1].

فاكتسبت الليلة القدر والإجلال بنزول القرآن ولا أعظم على الإطلاق بين الأحداث من مولده عليه الصلاة والسلام الذي غير وجه البشرية إلى وجهها الإنساني والحضاري وقادها إلى قيم العلم والنور والهداية وما الأحداث التي وقعت بعد ذلك من الهجرة والغزوات والمعارك التي خاضها النبي عليه الصلاة والسلام ثم من بعده أصحابه الكرام فتحاً ونصراً ورحمةً لولا مولده عليه الصلاة والسلام فعمل المولد أمرٌ حسن ليس فيه شيءٌ سوى قراءة القرآن وإطعام الطعام وذلك خيرٌ وبرٌ وقربةُ.

وقال ابن حجر الهيتمي: "والحاصل أن البدعة الحسنة متفق على ندبها وعمل المولد واجتماع الناس له كذلك أي بدعة حسنة".

وقال الإمام أبو شامة شيخ الإمام النووي: "ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده عليه الصلاة والسلام من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء مشعر بمحبته عليه الصلاة والسلام وتعظيمه في قلب فاعل ذلك وشكراً لله تعالى على ما منَّ به من إيجاد رسوله – عليه الصلاة والسلام -".

وهنا نأتي على ذكر أقسام البدعة:

قال العز بن عبد السلام - سلطان العلماء - في عصره رحمه الله تعالى: البدعة فعل ما لم يعهد في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وتنقسم إلى خمسة أحكام (الوجوب - والندب - والتحريم - والكراهة - والإباحة).

وطريق معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشرع فأي حكم دخلت فيه فهي منه.

1- فمن البدع الواجبة تعلم النحو الذي يفهم به القرآن والسنة ومنها أيضاً ما تم في عهد سيدنا أبي بكر رضي الله تعالى عنه جمع المصحف بعد أن كان مفرقاً ووافقه الصحابة كلهم على ذلك ومنها استنساخ المصاحف في عهد عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - وكذلك تنقيط المصحف وتشكيل حروفه.

2- ومن البدع المحرمة مذهب القدرية نفاة القدر القائلين بأن العبد هو الذي يخلق أفعاله ومنها الفرق الضالة كالقاديانية والبهائية والبابكية وكل من يدعي أن للقرآن ظاهراً وباطناً والمراد باطنه دون ظاهره.

3- ومن البدع المندوبة إحداث المدارس والاجتماع لصلاة التراويح في عهد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه وموافقة الصحابة على ذلك.

4- ومن البدع المباحة المصافحة بعد الصلاة وتقبل الله وبهد الوضوء من ماء زمزم وغيرها.

5- ومن البدع المكروهة زخرفة المساجد وتزويق المصاحف.

فحديث (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) محمولٌ على البدع المحرمة التي نوهنا عنها في القسم الأول لا غير.

ونخلص من هذا الاستعراض لتعريف البدعة وإطلاقها عند العلماء إلى ما يلي:

كل قولٍ أو فعلٍ لم يصدر عنا لنبي عليه الصلاة والسلام ولا عن أحد من الصحابة ولا يندرج تحت مضمون الكليات والقواعد الفقهية المتضمنة الوجوب والندبة والإباحة وعلى ذلك يحمل قوله عليه الصلاة والسلام (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).

ومن القواعد الشرعية "أن الأمور بمقاصدها".

فإذا جئنا إلى الاحتفال بالمولد النبوي الشريف وطبقنا عليه القاعدة الفقهية السابقة ألا تنطبق عليه فضلاً عن أنه مجلس ذكر حيث يقرأ فيه آيات من القرآن الكريم والحضور منصتون إليها بخشوع فتحل البركة والرحمة على هذا المجلس وأهله من الله عز وجل كما تلقى فيه كلمات وخطابات في سيرة النبي المباركة عليه الصلاة والسلام فيتعرفون من خلالها على بعض شمائله الكريمة وأخلاقه العظيمة , وكم وكم من الناس اهتدوا وتحسنت سيرتهم وأخلاقهم بعد أن سمعوها وتأثروا بها وخرجوا من المجلس أو الاحتفال عازمين على إصلاح أنفسهم بطاعة ربهم والإقتداء برسوله ذي الخلق الكريم وقد جاء في الحديث الصحيح (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النَعْم) ولو لم يكن فيه إلا هذا لكفاه استحباباً فلم نضيق عقولنا ونغلق أفهامنا ونحصرها في معنى واحد فنقول للناس الاحتفال بالمولد النبوي بدعة محرمة وربما بلغ التشدد ببعضهم وضيق الأفق الفكري إلى أن يكفر فاعله وفي الأمر سعة كما رأيت ورحمة الله واسعة والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به استدلال , وقد رأيت أخي القارئ الاحتمالات العديدة والمعاني الكثيرة لكلمة بدعة.

أسأل الله تعالى أن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين ثم إني أرى أنه لا داعي لكل هذه الجعجعة وتدبيج الصفحات وعقد الندوات وبحال أصوات في الخطابات وإتلاف الأقلام في الكتابات لنقول للناس الاحتفال بالمولد النبوي بدعة محرمة وقد رأيت فيه من الحسنات والفوائد الشيء الكثير فعلينا أن نصرف جهودنا وأقلامنا ودعوتنا إلى المتفق عليه مما لا خلاف فيه بين العلماء من الأمور المحرمة قطعاً والتي تجب مواجهتها كالوقوف في وجه دعاة الضلالة من الباطنية وغيرهم ممن يسيئون إلى شخص الرسول عليه الصلاة والسلام في حملات مسعورة على الإسلام ونبيه في شرق الأرض وغربها بل من بني جلدتنا في أفلامهم والصور الكاريكاتورية على صفحات إعلامهم مستهزئين وساخرين فنرد سهامهم إلى نحورهم , فالمرء بأخيه كثير ويد الله على الجماعة وأي أذى أعظم من الإساءة إلى نبي الله الذي بعثه الله رحمة للعالمين والذي اجتمع فيه من المثل والأخلاق ما تفرق في الأنبياء جميعاً ورحم الله من أماط الأذى عن الطريق كما قال عليه الصلاة والسلام: (وإماطة الأذى عن الطريق صدقة) والأذى يشمل المادي والمعنوي والحمد لله رب العالمين.

القامشلي في: 14/ ربيع الأول /1433هـ

الموافق لـ: 6/2/2012م

تحميل