مميز
EN عربي
الكاتب: د. أسامة السيد الأزهري
التاريخ: 08/12/2012

يا قوم لا تتكلموا.. فالخير ألا تفهموا!

مقالات
يا قوم لا تتكلموا.. فالخير ألا تفهموا!
د. أسامة السيد الأزهري
الأربعاء 31/10/2012
وصلني الليلة الماضية سؤال نصه:
ما الواجب علينا فعله تجاه الأحداث الجارية بين أيدينا الآن ؟
فأجبت صاحبه بما تيسَّر، ثم رجعت أتأمل ما كتبته إليه، وأضيف إليه بعض الإضافات، ليكون مقالاً يصل إلى القرّاء، وقد تأملت السؤال، وقدرت أن من ورائه عقلاً نبيلاً، يحب الوطن، ويحرص على متابعة الشأن الوطني، ويحاول فهم الحوار الوطني الجاري حالياً، حول القضايا الوطنية الملحّة والعاجلة واليومية، على أمل أن يكون له موقف في كل قضية، ثم استحضرت ذلك الطوفان الهائل الذى ينصَبُّ على ذهنه وعقله يومياً من الأحداث، فوجدت أن اطرادها، وانهمارها، وتواترها، وشدة تقاطعها، وكثرة الضجيج حولها، واشتباك العقول فيها، وتصارع المناهج، وتلاحق الزمان وتسارعه، مع كثرة التحليلات والبرامج والحواريات والفضائيات، والرؤى المتعارضة، والمنطق المقلوب الشديد النسبية والاجتزاء، مع عدم إعطاء أي جزئية حقها من الفكر العميق، والتحليل الواسع، نظراً لأن كل يوم يحفل بأحداث جسام متلاحقة، مع غياب مقاصد الوطن والأمة تماماً أو جزئياً، كل ذلك من شأنه أن يبلبل القلب، ويدهمه، ويشتت الفكر، ويصيب العقل بحالةٍ من عسر الهضم، وصدمة المعرفة، ويترك الإنسان حائراً مضطرباً، يشعر بالعدمية المطلقة، والنسبية المطلقة، والضياع التام، فإذا به قد وصل إلى تلك الحالة الهزلية المضحكة، التي وصفها أحد الشعراء في أربعينات القرن الماضي في قصيدة مشهورة، يقول فيها:
يا قوم لا تتكلموا
إنَّ الكلامَ مُحَــــــــــــــرَّمُ
ناموا ولا تستيقظوا
ما فاز إلا النُّـــــــــــــــــــوَّمُ
ودعوا التفهم جانباً
فالخير أن لا تفهموا
وتَثَبَّتُوا في جهلكم
فالشر أن تتعلموا
أما السياسة فاتركوا
أبداً وإلا تندموا
إن السياسة سرها
لو تعلمون مُطَلْسَمُ
إن قيل: هذا شهدكم
مُرٌّ، فقولوا: عَلْقَمُ
أو قيل: إنَّ نهاركم
ليلٌ، فقولوا: مُظْلِمُ
أو قيل: إنَّ بلادكم
يا قوم سوف تُقَسَّمُ
فتَحَمَّدُوا وتَشَكَّرُوا
وتَرَنَّحُوا وتَرَنَّمُوا
أو الحالة التي وصفها بيرم التونسي في زجله المشهورة:
يا أهْل المَغْنَى، دماغنا وجعنا، دقيقة سكوت لله
فقلت في نفسي: لا بد في هذا السيل المنهمر من وقفة، ونقطة نظام، تتيح للعقول أن تلتقط أنفاسها، وأن تستعيد قدرتها على هضم الأحداث والأفكار والأطروحات هضماً جيداً، يخرج بها من حالة العدمية والضياع، ويعيدها إلى دائرة الفهم، والتحليل، واتخاذ المواقف، والمشاركة في صناعة الحدث، فاعلموا، يرحمكم الله، أن هناك منهجاً جليلاً ربانياً، يخرج به الإنسان من كل العوارض، والأسماء، والأشخاص، والأحداث، والزحام، والضجيج، والحيرة، والارتباك، والضياع، إلى فضاءٍ فسيحٍ من شهود تدبير الحق جلَّ شأنه لشئون عباده، وتصريف مقاديرهم، والقيام على كل نفس بما كسبت، والرفع والخفض، والإعطاء والمنع، وإعطاء الملك لمن يريد، وسلبه عمن يريد، فمن وراء الأحداث رب جليل، يتصرف، ويعطى، ويرى ويسمع، وتجرى مقاديره الغالبة، وحكمته الناجزة، على رقاب العباد أجمعين، فتذكروا ذلك أولاً، ثم تذكروا ثانياً أن هناك أحداثاً، وأن من ورائها تحليلاً للأحداث، وأن من وراء التحليل توظيفاً للأحداث، فهذه ثلاث مراتب ومقاييس لا بد منها، لكن الناس تقف عند التنازع في الحدث، ثم يضطربون في تحليله، بينما تبقى العلوم والمناهج اللازمة في تحليل الأحداث غائبة، ومن أهم أسسها أن تقوم على منهج التأمل والهدوء، الذى يتيح للعقل أن يفهم ويربط ويحلل ويقارن، وأساس ذلك كله هو الهدوء دون الضجيج، قال تعالى في ثقافة الهدوء: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)، وقال تعالى في منهج الضجيج: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ)، ولولا ضيق المقام لبسطت ما في الآيتين من عجائب المنهج الرباني.
والحاصل أنه لا بد في حالة الضجيج من لحظاتٍ تهضم فيها العقول الأحداث وتفهمها، ثم ترتقى منها إلى فهم مراد الله منها، كل ذلك قبل اتخاذ قرار فيها، وعند الإلف والممارسة تتم تلك المراحل كلها في لحظات ولا يشعر بها العقل، قال ابن خلدون رحمه الله في «المقدمة»: "فإذا ابتليت بمثل ذلك، وعرض لك ارتباك في فهمك، أو تشغيب بالشبهات في ذهنك، فاطرح ذلك، وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات، واترك الأمر الصناعي جملة، واخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذى فطرت عليه، وسرِّح نظرك فيه، وفرِّغ ذهنك له، للغوص على مرامك منه، واضعاً لها حيث وضعها أكابر النظار قبلك، متعرضاً للفتح من الله، كما فتح عليهم في ذهنهم من رحمته، وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، فإذا فعلت ذلك، أشرقت عليك أنوار الفتح من الله، بالظفر بمطلوبك" إلى آخر كلام ابن خلدون، فعليكم بالهدوء يرحمكم الله.

تحميل