مميز
EN عربي
الكاتب: د. مصطفى السباعي
التاريخ: 02/07/2012

ليلة النصف من شعبان

مقالات

ليلة النصف من شعبان


د. مصطفى السباعي

هذه ليلة النصف من شعبان .. وفيها اعتاد المسلمون أن يقوموا بأنواع من العبادة من صلاة ودعاء وقيام، ولها دعاء مشهور يجتمع عليه المسلمون في المساجد والبيوت، ما أزال أذكر وأنا صغير، كيف كان والدي يجمعنا في البيت بعد صلاة المغرب، نجتمع حوله في حلقة واحدة نقرأ القرآن، وندعو بالدعاء المشهور، ونحن لا نفهم مما يدعو شيئاً أكثر من أن نردد معه ألفاظه وجمله، غير أننا كنا نشعر بالرهبة والخشوع، ونشعر مع ذلك بلذة اجتماع العائلة الواحدة في وقت واحد، يلف رب الأسرة وربتها وأبناءها جميعاً برداء قدسي من الحب والصفاء، ويضفي عليها من خشوع العبادة ما نحس نحن الصغار بوجوده في أنفسنا: وإن لم ندرك معناه في عقولنا.

وقبل أن أفيض في فضل هذه الليلة والحكمة من هذا الموسم، أجد من الأمانة التي طوق الله بها رقاب أهل العلم، حين أخذ عليهم أن يبينوه للناس ولا يكتموه، أن أذكر الحكم الشرعي فيما يفعله الناس ويقرؤونه من صلاة ودعاء؛ فلم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جمع الناس في المسجد في مثل هذه الليلة على دعاء أو عبادة، ولا أثر مثل ذلك عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكل ما ورد من ذلك، أحاديث في فضل قيام هذه الليلة وصيام نهارها.

من ذلك ما رواه ابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا كانت ليلة نصف شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها". وروى البيهقي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "هذه ليلة النصف من شعبان، إن الله يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمستغفرين، ويرحم المسترحمين، ويؤخر أهل الحقد كما هم". وفي مثل هذا المعنى أحاديث متعددة، وإن لم يبلغ واحد منها درجة الصحة التي لا مجال فيها، إلا أنها تتوارد على معنى هو من فضائل الأعمال. وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى الأخذ بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال..

أما الدعاء المشهور الذي يتلوه المسلمون في المساجد والبيوت، فلم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا عن السلف الصالح، أنهم اجتمعوا في المساجد والبيوت من أجله في هذه الليلة، ولم يعرف من واضع هذا الدعاء، سوى ما نقل عن بعض الصالحين من فقرات منه، بل في بعض عباراته ما لا يجوز على الله، كنسبة المحو والإثبات إليه، والآية التي تذكر في هذا الدعاء {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} ليس كما فهمها من وضع الدعاء، أو كما يفهمها عامة المسلمين.

وصفوة القول: إن لهذه الليلة فضلاً ثبت في بعض الأحاديث، وإن المسلم يستحب له فيها الاتجاه إلى الله بالدعاء، وإحياء ليلتها بالعبادة كما يستحب له صيام نهارها، وخير الدعاء وأحبه إلى الله، ما ورد لفظه في القرآن والسنة، ففي القرآن أدعية يستحب الدعاء بها، وفي السنة أدعية أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فليستكثر منها المسلم، وليحرص عليها في مثل هذه المناسبات.

أما الحكمة من تخصيص هذه الليلة بالفضل، والتنويه بشأنها، والترغيب في صوم نهارها، فإن من عادة الله في عباده، أن يتعهدهم بالتأديب فترة بعد فترة، وأن يهيء لهم وسائل التطهر من أدران المادة وأوزار الحياة، كلما طال عليهم الأمد، وبعدت منهم النجعة، فنجيء مثل هذه المواسم كفترات استراحة وعمل ... استراحة من أعمال الحياة التي ترهق الجسم والروح، واستراحة من الأوزار والذنوب، وعمل لتطهير النفس وتزكيتها، وتجديد الإيمان وتقويته، وما أحوج هذه الإنسانية الغارقة في الشهوات، الممعنة في اللذات، التاركة لشرائع الله وآدابه، إلى وثبات روحية تجدد صلة الإنسان بربه وتذكره بعهده، وتلطف من أخلاقه التي قسا بها على الناس واعتدى وظلم.

وشيء آخر في ليلة النصف من شعبان، وهو أنها تنبه المسلم إلى اقتراب شهر رمضان، ورمضان شهر التقوى والصلاح، وشهر العبادة والطاعة، وشهر الجود والإحسان، فليصم المسلم يوم النصف ليتهيأ لصوم رمضان، وليقم ليلة النصف ليتهيأ لإحياء ليالي رمضان، وليستغفر ربه في هذه الليلة حتى يستقبل رمضان بنفس مؤمنة، وروح مشرقة، وفؤاد مطمئن إلى ثواب الله وحسن لقائه..

هذا هو فيما أعتقد بعض أسرار مثل هذه المواسم الدينية، التي يستحب فيها الدعاء والصلاة والعبادة .. وهي كلها مطهرات للنفس، مكملات للأدب، باعثات على سمو الروح وطهارة الفؤاد.

أما بعد .. ما أحوجنا إلى مثل هذه الليالي، وقد أغرقتنا الذنوب، ولوثتنا المعاصي! ما أحوجنا إلى مثل هذه الليلة بعد أن قست منا القلوب، وشحت الأيدي، وعميت الأبصار، وانحرفنا عن سنن الخير كما يريد الله ورسوله! ما أحوجنا إلى مثل هذه الليلة وقد داهمتنا الخطوب، وتتالت المصائب، وتألب علينا الأعداء، وتنمر في أرضنا الأذلاء، واستنسر في وطننا البغاة!.

ما أحوجنا في هذه الليلة إلى أن نفيء إلى الله، ونرجع إلى الحق، ونطهر قلوبنا وأرواحنا، ونحاسب نفوسنا على ما فرطت في جنب الله حتى أضعنا المجد، وفرت منا الدنيا والدين!.

أيها المؤمنون! يا أبناء هذه الأمة الكريمة!

في أوقات الشدة تخلص الأمم الراغبة في النجاة إلى مسالك النجاة، وتتمسك بوسائلها وأسبابها. ونحن اليوم في محنة وشدة، العدو واقف على حدودنا وفي قلب وطننا الكبير، ينتظر فرص الغدر والإجرام. وأنتم تعلمون ما وراء غدر العدو حتى ينتصر ... من خراب الديار، وتشتت الأحباب، وتفرق الأسر، وليس لنا من وسائل النصر عليه إلا القوة نلوذ بها لنصد غدر الغادرين...

والقوة في الإسلام نوعان: قوة الحديد والنار، والتسلح والاستعداد، هي التي أمرنا الله بها في قوله {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وهي التي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "من قاتل فليقاتل بمثل ما يقاتل به" وهي القوة التي فرطنا فيها فأصبحنا أضعف أمة، وقد كان ينبغي لنا أن نكون أقوى أمة على وجه الأرض...

والقوة الثانية هي قوة الروح والأخلاق.. هي قوة الرجولة والاستقامة، هي قوة الطاعة والعبادة، هي قوة الصلة بالله، والاعتزاز بقوته وجبروته ... هذه القوة التي يعبر عنها اليوم بالقوة المعنوية للجيوش والأمم، ويرونها ألزم شيء للأمة المحاربة وللجيش المحارب، وهي التي حققت لأمتنا النصر في تاريخها الذهبي، وإنكم لتعلمون، أن امتنا خرجت من جزيرتها، لا تملك من السلاح مثل ما كانت تملكه الأمم الكبرى يومئذ كفارس والروم، وليس عندها من وفرة الرجال والمقاتلين ما كان لتلك الدول من جيوش ومحاربين، ومع ذلك فقد حققت من النصر ما لم يكن يحلم به التاريخ، وخلدت منه الآثار ما لم تخلده أمة على وجه الأرض، وانتشرت في المشرق والمغرب بسرعة أذهلت علماء التاريخ، ولا يزال الناس في حيرة من أمر هذا التوسع العجيب في ذلك الأمد القريب.. وليس في الأمر سر عندنا ولا معجزة.. وإنما هو قوة الروح والعقيدة تحمل أصحابها على جناح النصر، فإذا هم في مثل سرعة البرق ينتصرون وينتشرون..

المصادر والمراجع

أحكام الصيام وفلسفته في ضوء القرآن والسنّة/ للشيخ د. مصطفى السباعي

تحميل