مميز
EN عربي
الكاتب: العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
التاريخ: 13/03/2012

الإمام الشافعي وأثره في منهج الفكر الإسلامي

بحوث ودراسات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

· موجز البحث:

ليس فيمن سمع باسم الإمام محمد بن إدريس الشافعي، ووقف على شيء من ترجمته، إلّا وعرف أن من أولى المزايا التي انفرد بها، أنه أول من دوّن قواعد علم أصول الفقه، ورسّخ حجية السنة النبوية في الأذهان.. ذلك لأنه ليس في هؤلاء الناس من لم يطلع على كتابه "الرسالة" الذي يُعدُّ المدخل التأسيسي إلى كتابه الجليل الأم.

إلّا أن قلة يسيرة منهم، مَنْ يعلم أنه العالم المسلم العربي الأول الذي استبدل بالمنطق الأرسططالي منهجاً متكاملاً في المعرفة، قائماً على دعامتي العقل والنقل، ثم قائماً على قواعد كلية في البيان وتفسير النصوص.

إن المنهج الذي دونه الإمام الشافعي في "الرسالة" لم يكن كما قد يتصور الكثير من الباحثين مجرد مدخل إلى فهم النصوص الفقهية، ثم إلى سبيل القياس عليها، بل كان قانوناً عاماً عاصماً عن الوقوع في الخطأ، على طريق المعرفة أياً كانت.

فمنذ أن وضع الشافعي كتابه "الرسالة" وتداولته الأيدي والأفكار، كان عمله هذا إيذاناً بانحسار المنطق الأرسططاليسي (الذي كان قد ترجم إلى الفارسية وتسرب عن طريقها إلى العربية) عن سُوق الثقافة العربية الإسلامية، وإيذاناً بحلول هذا المنهج العربي الإسلامي في محله.

وهكذا فإن حياة الإمام الشافعي كانت رمزاً، بل تاريخاً، لنشأة منهج البحث عن المعرفة عند العلماء المسلمين، ذلك المنهج الذي تجاوز فيما بعد، دائرة المعارف والعلوم الإسلامية، إلى المعرفة المطلقة وأصول الفكر العالمي بصورة عامة.

فهذا الجانب الهام والمتميز في حياة الإمام الشافعي، هو الذي أحاول إلقاء بعض الضوء عليه في هذه الصفحات الوجيزة.

· مدوِّن لا واضع:

يؤثر بعض الكاتبين عندما يتحدثون عن تاريخ علم أصول الفقه، وعن دور الإمام الشافعي في هذا الفن وتأصيله، أن يعبّروا بكلمة "الوضع" بدلاً عن "التدوين" فيقولون: إن الإمام الشافعي هو أول من وضع علم أصول الفقه([1]).

غير أن هذا التعبير غير دقيق، ومن ثم فهو خاضع للبحث والنقاش.

عندما نقول إن الشافعي هو أول من وضع علم أصول الفقه، فإن هذا يعني أنه أول من اكتشف هذا الفن واتخذه منهجاً في اجتهاداته الفقهية ودعا إليه.

إلا أن الواقع لا يتفق مع هذا الاقتضاء، فإن استعمال المنهج الأصولي بشكل ما، يعود إلى ما قبل عصر الشافعي. بل لا نشك في استعماله والاعتماد عليه بدءاً من عصر الصحابة. فالزركشي يروي عن ابن عباس أخذه بقواعد الخصوص والعموم، ويروي عن غيره من الصحابة الأخذ بدلالة المفهوم ([2]). أما فكرة القياس، فقد عرفت وشاعت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحديث معاذ في ذلك إذ أرسله رسول الله إلى اليمن مشهور ومعروف. بل إن الصحابة تكلموا في العلل وشروطها، وتوصلوا إلى ما يشبه الإجماع في مشروعية الأخذ بالقياس عند توافر أركانه وشروطه([3]).

ومن الطبيعي أن يتنامى الاعتماد على هذا المنهج بعد عصر الصحابة، لا سيما في ظلّ مدرستي الرأي في العراق والحديث في الجزيرة العربية، وهذا يعني أن الفقه الحنفي كان أسبق من الفقه الشافعي إلى اللجوء إلى هذا المنهج، وإن كان الحنفية يختلفون عن غيرهم بإقامتهم الفصول على الفروع في أغلب الأحيان، بدلاً من العكس.

وهكذا، فإن فكرة أصول الفقه لم تصل إلى الشافعي إلا وقد تجاوزت أطواراً عديدة، وبلغت حداً كبيراً من النضج.

لذا فإن التعبير السليم الذي لا يستتبع أي إشكال أو نقد، هو القول بأن الشافعي رحمه الله هو أول من دوّن هذا العلم وأصّل قواعده. وهو التعبير الذي جنح إليه قدماء المحققين، كالإمام الجويني والإمام الرازي وابن خلدون([4]).

يقول ابن خلدون في مقدمته: (وكان أول من كتب فيه، الشافعي رضي الله عنه، أملى فيه رسالته المشهورة). أما الإمام الرازي فيفصّل القول في ذلك قائلاً: (كان الناس قبل الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضتها وترجيحها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانوناً كلياً يُرجع في معرفة مراتب الأدلة الشرعية إليه) ([5]).

ولا يغض من قيمة دور الإمام الشافعي في هذا الفن وإبرازه أن نقول: أنه أول من دوّنه أو كتب أو صنّف فيه، بدلاً من القول بأنه أول من أبدعه أو وضعه. ذلك لأنه قام بتحليل هذا الفن وعرضه بصفة منظمة، وأضاف إليه أبحاثاً كثيرة – كما يقول الدكتور علي سامي النشار – أهمها المباحث البيانية التي لم يكن الصدر الأول بحاجة إليها، وتوسع في جميع المباحث الأصولية التي عرفت من قبلُ وأَكملَ بعضها، وأقام فروع المذهب على الأصول([6]).

· من أصول للفقه، إلى منهج للبحث:

غير أن أهم ما يلفت النظر من هذا الذي قام به الشافعي مرتباً ومنسقاً ومدوناً، أنه وإن كان قد فعل ذلك كله خدمة لكتاب الله وسنة رسوله، عن طريق تيسير السبيل إلى فهم الأول منهما على النهج العربي القويم وتأكيد حجيته، والثاني منهما بالبرهان المنطقي السليم، إلّا أن عمله هذا ما كاد يستقر وينتشر بين الناس، ويقبل إليه منهم الخاصة والعامة، حتى أصبح منهجاً عاماً إلى المعرفة القائمة على أصولها المنطقية السليمة، ثم أداةً للتنسيق بين أساسي كل من العقل والنقل، ثم سبيلاً أمثل لاستخراج المعاني من النصوص والتوفيق بين دلالاتها المتنوعة أو التي قد تبدو مختلفة متعارضة.

وما إن تكامل بنيان الحضارة الإسلامية ونضجت الشخصية العلمية والثقافية للأمة الإسلامية، حتى طوي ملفّ المنطق اليوناني عن مسرح الثقافة الإسلامية، وتراجع سلطانه عن الأفكار والعقول. وكم كان قد انبهرت به نفوس وخُدعت به ألباب، حيث استقر في مكانه هذا المنهج العلمي المتكامل الذي رسمه الإمام الشافعي ودونه سبيلاً إلى المعرفة وميزاناً للتنسيق بين العقل والنقل، ثم منهجاً متكاملاً لتفسير النصوص.

صحيح أن هذا العمل العظيم يتسم بالطابع الفقهي، ويتحرك في الظاهر ضمن النصوص الشرعية ويسير بدافع ديني مجرد، بل ربما كان هو وحده الحامل للشافعي على ما فعل، ومن ثم استحق أن يسمى باسم أصول الفقه، مقابل ما استحقه علم التوحيد والكلام من اسم: أصول الدين، ولذا غاب عن كثير من الباحثين والمترجمين له والمقيّمين لعمله، ما هو واضح من أنه يغطي بُعداً آخر ذا أهمية كبرى وراء ساحة الفقه وبعيداً عن أدوات استنباط الأحكام.

غير أن الذين يهتمون بدراسة أصول المعرفة ورصد مناهجها والسبل إليها، يعلمون جيداً أن الإمام الشافعي أقام من خلال عمله هذا منهجاً منطقياً سديداً ومتكاملاً إلى معرفة حقائق الأشياء أياً كانت، ذلك لأن الميزان الذي يتم به تحصيل المعارف الإسلامية من نصوصها الثابتة، هو ذاته الميزان الذي يمكن أن بخدم به الباحث الحقيقة، معرفةً لها، وتحصيناً لها ضد تسرب الشوائب إليها.

ويلاحظ أولو الاهتمام بالدراسات الفلسفية أن الإمام الشافعي أقام مؤلفه العظيم "الرسالة" على ثلاث دعائم متناسقة:

أولها: العلم. وفيه أثبت وأكد أن العلم لا ينهض ويستقر إلا على شيء.. ولا بدّ أن يكون هذا الشيء خبراً صادقاً لا يلحقه خلف، ولا يقوم مقامه في صحة الاعتماد عليه إلا المشاهدة والعيان.

وكل ما لا يعتمد على خبر أو عيان، فوهم وباطل، وإن أوهم صاحبه أنه علم.

وقد كرر الشافعي هذه القاعدة العلمية في رسالته أكثر من مرة. فهو يقول مثلاً: "وإذا كان هذا هكذا، كان على العالم أن لا يقول إلا من جهة العلم. وجهة العلم الخبر اللازم والقياس بالدلائل على الصواب، حتى يكون صاحب العلم أبداً متبعاً خبراً أو طالباً الخبر بالقياس كما يكون متبعَ البيت بالعيان"([7])

وإنما أنكر الشافعي الاستحسان، لأنه يتعارض مع هذا المبدأ الذي يشدد عليه، ولا يرى أي مبرر للحيدة عنه، أياً كان موضوع البحث، بل أياً كان نوع العلم نفسه. فهو أبعد ما يكون -أي الاستحسان- عن معنى العلم وحقيقته. إذ المستحسن إنما يبدع ما يراه من عنده، دون اتباع لمقتضى خبر صادق بلغه أو لموجب شيء رآه وعاينه.

وإننا لنلاحظ أن الشافعي أنهى - من خلال هذا القرار الذي سجله وألّح عليه مراراً- الجدل المتطاول العقيم الذي انساق فيه الفلاسفة اليونانيون، وتأثرت به طائفة كبيرة من الباحثين المسلمين والفرق الإسلامية، حول أهمية العقل والنقل وموقف المعرفة من كلٍ منهما.

صحيح أن قرار الإمام الشافعي إنما ينطلق من خدمة كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. غير أنه أصرّ على أن لا يسير إلى فهم شيء منهما ثم الأخذ به، إلا من خلال منهج علمي مستقل، وباتباع ميزان حيادي يؤكد للمتمسك به أنه لم يجنح إلى عصبية، ولم يحاب دنياً على حساب ما تقتضيه المعرفة المطلقة ويقرره المنطق العلمي العام.

ثانيهما: (البيان) وهو يتمثل في القواعد العربية والمصطلحات التعبيرية التي أصبحت أداة لفهم الكلام العربي، ووسيلة للكشف عما يعنيه المتكلم من خطابه الذي يواجه به السامعين.

وقواعد البيان هذه تنزل من أصل اللغة منزلة الكسوة من أصل البناء. فإذا كانت قواعد المنطق تمثل المنهج التأسيسي للمعرفة، فإن قواعد البيان هذه تمثل منهج التفاهم بين المخاطبين بل هي تمثل روح اللغة وحياتها.

من هذه القواعد أصول الدلالات وقوانين الأخذ بها، وطريقة التنسيق بين العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد والإجمال والبيان والتعارض والترجيح. وهذه القواعد تعدّ هي الأخرى موازين حيادية، فهي ليست منبثقة بحدّ ذاتها من دين أو من معنى من معاني العبادات والتشريع. بل هي، كما قلنا، روح اللغة ونسيجها الواصل بين المتكلم والسامع. ومن ثم فلا غنى عن الرجوع إليها والاعتماد عليها لأي إنسان يتعامل مع بني جنسه بلغة التخاطب والتفاهم، أياً كان المضمون العلمي الذي يحويه هذا الخطاب.

صحيح أن العرب في صدر الإسلام لم يكونوا يحصون هذه القواعد ولا يحفظون لها، ربما، أسماءها ومصطلحاتها. ولكنهم كانوا يتعاملون معها فيما بينهم بالسليقة، شأنهم في ذلك كشأن انضباطهم بقواعد اللغة العربية والإعراب، دونما حاجة إلى حفظ العناوين والقواعد والمصطلحات، وكشأن انضباطهم ببحور الشعر وموازينه، دون أن يقعوا في أي خلل أو شرود عنها .. ثم أدركهم من تسرب العجمة إلى ألسنتهم، وتسرب الضباب النفسي والاجتماعي إلى أذواقهم، واستيلاء الخلل الفكري على أذهانهم، ما جعلهم بحاجة إلى مثل أبي الأسود الدؤلي، لتدوين قواعد الإعراب، وإلى مثل الخليل بن أحمد لضبط موازين الشعر، وإلى مثل الإمام الشافعي لتدوين أصول المعرفة ورسم القواعد المتبعة في تفسير النصوص([8]).

ثالثهما: (القياس)، وهو يقوم مقام الاستدلال الأرسططاليسي، وقد حلّ محلّه عند علماء أصول الفقه وعلماء الكلام.

ومن أبرز مظاهر الفرق بينهما أن الحجة القياسية المعتمدة عند علماء الأصول، من شأنها أن توصل إلى اليقين، إن روعيت فيها الأركان والشروط والمواصفات كلها، على حين لا يوصل الاستدلال الأرسططاليسي في أحسن الحالات إلا إلى الظن([9]).

وأساس هذا الفارق أن القياس الأصولي لا ينهض وجوده إلا على نوع من الاستقراء العلمي الدقيق القائم على قانونين أساسيين:

أولهما: قانون العلية الذي يتلخص في بيان أن لكل معلول علة، أي أن لكل حكم شرعه الله علّة أو حكمة.

ثانيهما: الاطراد والانعكاس، أي ملاحظة أن ما تصورناه علةً، كلما وجد ضمن شروطه المعتبرة أنتج معلوله، أي الحكم المنوط به، وكلما فقد، فقد معلوله أيضاً.

ومصدر اليقين بالقانون الأول تتبع أحكام الشرع وعاداته من خلال نصوص القرآن والسنة تتبعاً تاماً، وهو ما يسمى بالاستقراء. وذلك لأن استقراء هذه النصوص مع التأمل في مضموناتها ودلائلها، يوصل الباحث إلى يقين بأن سائر الأحكام الشرعية قائمة على رعاية مصالح العباد. ومن هذا اليقين استخرجت القاعدة القائلة: حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله.

وإذا تم اكتشاف العلة للحكم الشرعي بيقين، نتج عن ذلك اكتشاف الأحكام الفرعية أي القياسية الناتجة عن إدراك هذه العلة بيقين أيضاً.

على أن القياس يستقر حكمه في الشرعيات على درجات، فأعلاها يوجب اليقين ولا يكاد يختلف فيه العامة والخاصة، وله شروط وقيود ومواصفات. فإن تدانت درجته، أمكن أن يتسرب إليه الظن والاحتمال، ومن ثم أمكن أن يظهر فيه الخلاف. وإنما مدار ذلك كله على نوع العلة والشروط التي يجب أن تتوافر فيها. ويتجلى هذا التصنيف لدرجات القياس من خلال تفصيل القول في أنواع القياس ومسالك العلة ودرجة تأثيرها في الحكم، وهو ما لا شأن لنا بتفصيل القول فيه، في هذا المقام.

والمهم أن نعلم أن القياس الأصولي الذي كان الإمام الشافعي أول من أقام الجسور المنطقية والعلمية بينه وبين النص، إلى درجة أنه برهن أكثر من مرة على أن القياس داخل في معنى النص([10])

أقول: ألمهم أن نعلم أن هذا القياس الأصولي، لم يحلّ فيما بعد محل التمثيل الأرسططاليسي الذي يتعامل مع الجزئيات فقط، بل حلّ أيضاً محل القياس الأرسططاليسي بنوعية الاقتراني والشرطي، لا في مجال الدراسات الشرعية وحدها، بل على طريق المعرفة بكل أنواعها.

· أثر الشافعي في منهج التفكير الإسلامي:

ولتحميل الملف كاملاً اضعط الملف أدناه ...

تحميل