مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 22/08/2021

إنها مواقع التواصل الاجتماعي

مقالات

كثيرون هم الذين يمضون زهرة أعمارهم اليوم على غير هدى، قد تعلقت عيونهم بما لا خير فيه؛ بما يفسد الأخلاق، ويشتت الأفكار، ويبدد الأوقات والأعمار. إنها مواقع التواصل الاجتماعي.


ولا شك أنها مواقع تحمل في طيها من الخير الكثير، إذ الغرض منها بداية إنما كان للخير، ثم وجهها أرباب الشر حيث بضاعتهم. فمن يبتغي الخير فيها يجده، ومن يبتغي الشر فيها يجده.


فإن أنت أحسنت استخدامها استفدت وأفدت، وإن أنت أسأت استخدامها هلكت وأهلكت، فالمعول عليه هو أنت، بإرادتك وثباتك ووعيك إما أن تصرفها إلى الخير الذي يعود عليك بالنفع، وإما أن تصرفها إلى الشر الذي يعود عليك بالهلاك. وعين الشر فيها إضاعة الأوقات بما لا طائل منه.


وأسأل نفسي: تُرى عندما دفعنا المبالغ الطائلة لِنَحمِل هذه الأجهزة بين أيدينا. أترانا ازددنا من الله قرباً أم بعداً؟ أترانا خلعنا ثوب التخلف والتبعية، أم ازددنا دعة وكسلاً؟ 


كثيرون هم الذين لم يَرُق لهم من هذه المواقع والصفحات إلا المفاسد والملهيات، يتلقفون منها ما لا يسمو بهم من انحطاط، ولا ينهض بهم من ركون. وكثيرة هي المواقع والصفحات التي جند فيها جنود إبليس أنفسهم، للنيل من ثوابت ديننا، لإفساد شبابنا وبناتنا، لتشويه أفكارنا، لإضاعة أوقاتنا - لو تعلمون.


لكن أين هم المسلمون الذين يتمتعون بالوعي الثاقب الذي يخوِّلهم التمييز ما بين الغث والسمين؟


أين هم المسلمون الذين يملكون زمام أنفسهم في مجابهة شهواتهم ونزواتهم، فيتعاملوا مع هذه الأجهزة ضمن المباح ويتورعوا عما سوى ذلك؟ يختاروا ما يكون عوناً لهم في مبراتهم، ما يزيدهم انضباطاً بأوامر ربهم عز وجل؟!


ليت شعري كم من مسلم اليوم قد بات في نجوة عن الناس؛ ما إن وقع نظره على سافرة أو ماجنة أو كاشفة لشعرها أو نحرها حتى غض بصره، ما دفعه لذلك إلا الخوف من الله؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "النَّظْرَة سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ، مَنْ تَرَكَهَا من مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ"


وكم من مسلمة تتنقل بين المواقع والصفحات، تقلب نظرها في الصور والمقاطع، وقد جعلت أمر الله عز وجل: "وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ" نصب عينيها؟


أضف إلى ذلك أننا لم نرتق من هذه التقنيات والمواقع إلى سدة حضارة، ولم نتخلص من ثوب التبعية، كل ما في الأمر أننا نتلقف مقاطعهم ونزجي أوقاتنا بها لتعجبنا وتضحكنا وهم يضحكون علينا؛ سرقوا أوقاتنا وضيعوا أعمارنا بها، وفوق هذا وذاك نحن عالة على تقنياتهم وتطورهم.


فالركون إلى هذه الأجهزة إن لم يخرج عن فحوى إشباع الغرائز وتضيع الأعمار والأوقات فنحن على خطر كبير وبلاء عظيم.


والحسرة على شباب وفتيات - هم حصيلة أسر مفككة الروابط متهالكة الأركان - تجدهم في كل أمسية يملؤون رحب الشوارع والحدائق والساحات، لا يحملون في نفوسهم سوى بذور التمرد على القيم وقلة الاحترام ورثوها من هذه المواقع والشاشات.


الحسرة على شريحة واسعة من المسلمين والمسلمات هم حصيلة - اهتمامات ممسوخة - يملؤون رحب المطاعم والمقاهي والردهات..، كلامهم لباسهم اهتماماتهم يعكس ضياعاً ورثوه من هذه المواقع والشاشات.


وقد كان من المفترض أن يكون هؤلاء نواة نهضة للأمة، وبذور حضارة تتراقص معالمها، وأداة للخروج من الأزمات التي تعصف بنا، كان من المفترض أن تكون الفتاة مشروع أم صالحة يعتمد عليها في تربية الأجيال، ويكون الشاب مشروع أب متوازن، وعنصر منتج له دوره في نهضة المجتمع.


فنحن مدعوون إلى التعامل معها بجد لا بهزل، نتعامل معها بحيث لا نخرج عن القصد الذي خُلقنا لأجله، وإلا صار المباح حراماً.


فتعالوا بنا لنحدد الأوقات ولا نضيع الواجبات، فلا تشغلنك هذه المواقع عن فريضة ولا تؤخر بسببها صلاة، لا تترك ورداً ولا نافلة، لا تنظر إلى المحرمات، لا تتتبع المنكرات، لا تنشر صورة أو مقطعاً تخجل من الله عز وجل في صحيفتك أن تراه، ولنتوج ذلك كله بورد يومي - لا يقل عن جزء - من تلاوة كتاب الله عز وجل، فإن هذا مما يعين على الثبات، ويحصن القلوب من الزيغ والزغل.


وكلما ازداد أحدنا تعلقاً بكتاب الله ملك زمام نفسه، وكان على مستوى عال من الوعي والحذر. وكلما كان أكثر ولوجاً في المنعرجات، وفتح عيون قلبه على ما تذخر به هذه المواقع من آفات وبليات دون تورع ولا تمحيص، كلما كان أكثر انزلاقاً في أتون نفايات ما يبث، وفي حبائل ما يراد.


واعلم أن لأهلك حظاً من نظراتك واهتمامك، ولك منهم مثل ذلك. وسقى الله عهداً كان أفراد الأسرة الواحدة متواصلين متآلفين؛ في كل أمسية تتلاقى منهم القلوب قبل الوجوه، فيسري الود فيما بينهم، أما اليوم فقد انقطع حبل المؤانسة فيما بين جلساء البيت الواحد بل الغرفة الواحدة، قد صادرت الشاشات عيونهم لحسابها، فهم متجالسين حساً لكنهم متقاطعين متدابرين معنى، كل منهم يسرح في عالمه الوهمي وخياله الافتراضي، مشاعر مكبوتة وعواطف دفينة، لا تدركها إلا عندما تتأمل ملامح وجهه وعينيه وقد اعتراه غَيْبة عمن حوله وهو يحملق بِشَاشَتِه.

تحميل