مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 03/08/2021

أين نحن من سلم الأولويات ؟

مقالات

ميز الله عز وجل الإنسان وكرّمه إذ منحه العقل؛ وجعله مناط التكليف وأساس التفكير والاختيار. وبموجب نعمة العقل بات الإنسان مدركاً لما يفيده ولما يضره، ما الذي ينبغي أن يقدمه وما الذي ينبغي يؤخره؛ يرتب واجباته حسب الأولى، ويبرم قراراته حسب الأهم. كل ذلك وفق مبدأ مراعاة سلم الأولويات. 


ومن الآيات التي أشار الله عز وجل بها إلى هذا المبدأ. قوله سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ).


ففي هذه الآية طالب الله عز وجل الثقلين بعبادته، وأخبرهم أنه كفيلهم بالرزق. وأكد على ذلك مرة أخرى في قوله: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَاْلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ). وبناء عليه، صار من المفروض بمن آمن بالله عز وجل أن يصرف همه إلى العبادة أولاً، ثم يسعى إلى الرزق بالشكل الذي يرضي الله عز وجل ثانياً.


لكن عندما تمعن النظر في أحوال كثير من المسلمين فماذا تجد؟


تجد أن جلهم أرهق نفسه وصرف جهده وأرّق فكره وأنفق وقته في سبيل تحصيل ما قد ضمنه الله عز وجل، وأما ما قد طالبه الله عز وجل به فلم يعيره الاهتمام اللائق.


لا تجده حامداً شاكراً، وإنما متذمراً ناكراً، قد جعل فقره نصب عينيه، وبات خائفاً من الفاقة، قلقاً على رزق الغد وما بعد الغد، صدّع رؤوسنا وهو يحدثنا عن الغلاء والفقر، وليت أنه ذكرنا بتقصيرنا بأداء ما قد طالبنا الله عز وجل بقدر ما يحدثنا عن الغلاء والفقر. والنبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وابن ماجه والحاكم يقول: (من كانتِ الدّنيا همّهُ شتّتَ اللهُ شمله، وجعلَ فقرهُ نُصبَ عينيه، ولم يأتهِ من الدّنيا إلا ما كُتِبَ له .. ).


ومثله من يؤدي الفريضة آخر وقتها لأنه مشغول بعمله؛ قدم الرزق على العبادة.


ومثله من هجر كتاب الله لأن هموم التجارة قد استنفذت وقته.


ومثله من لا يقوى على القيام لصلاة الفجر لأن أعمال بياض النهار قد أضنت جسده ..


الكل منكب على عمله حرصاً على الرزق الذي ضمنه الله عز وجل، وتقصيراً بالعبادة التي طالبنا الله عز وجل بها ... وأمثلة كثيرة لا حصر لها.


وقد أثنى الله تعالى على الذين فقهو مبدأ مراعاة سلم الأولويات وطبقوه فقال: (فِي بُيُوتٍ أَذِن اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ). ومن هم هؤلاء؟ ما علامتهم؟


هم (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ) يعطون كل ذي حق حقه من جهودهم وأوقاتهم وفق سلم الأولويات، فلا تصدّهم تجاراتهم ولا تلهيهم أسواقهم عن المهمة التي أقامهم الله عليها.


ولو أن العبد كان يسعى إلى تحصيل الرزق طمعاً بمرضاة الله، لكان هذا الدافع ذاته هو ما يسوقه إلى تقديم حضور الجماعات وجعلها من الأولويات.


وصدق سيدي ابن عطاء الله عندما قال: اجتهادك فيما ضمن لك، تقصيرك فيما طلب منك، دليل على انطماس البصيرة منك. 

تحميل