مميز
EN عربي

السلسلة: وقفات خالدات

الكاتب: الشيخ محمد ياسر القضماني
التاريخ: 09/05/2020

أبكي على خبر السماء

مقالات مقالات في السيرة النبوية

في الطّبقات الكبرى لابن سعد:


لما قبض النّبي- صلى الله عليه وسلم – بكت أمّ أيمن فقيل لها: ما يبكيك؟ فقالت: أبكي على خبر السّماء.


نعم يحقُّ لك البكاء يا أم أيمن!


كيف لا تبكين انقطاع الوحي وهو للأنفس كغيث السّماء يتنزَّل على أرض جدباء، كيف يكون حالها دونه؟!


لقد ذاقوا لذّة هذه الصّلة التي رُبطوا بها رباطاً لا ينحلّ وغُذّوا بهذا اللَّبان غذاء ما عرفوا طعم الحياة إلا به، ولا روح الدّنيا إلا فيه.


أتظنّون أن بكاها كان لوفاته؟!


لا! إنها تعلم أنه سيرحل عن هذه الدنيا كما رحل غيره من إخوته صفوة البشر عليهم جميعاً الصّلاة والسلام.


لا، لا، إنها لا تبكي الموت، فهو قانون ينتظم كلَّ حيّ وما منّا أحد إلا وسيذوقه ويتجرّع كأسه.


إنها تبكي على خبر السماء الذي ينير الظلمات، ويكشف الكربات.


وإذا دهم المسلمون أمر تحيَّرت له الخِيَرَة زالت حيرتهم بآية منه، وإذا استبهمت عليهم معضلة انتشلهم من تردُّدهم ببيان منه يهدّئ النفوس، ويثلج الصدور، ويريح الأعصاب.


آلوحيُ هيّنٌ؟!


بالوحي الضّمان من الزّلل، والأمان من الخَطَل، وهل يستوي من يعتصم بحبل من الله، ورجل يلجأ إلى هواه؟!


بالوحي استروح القرّاء يتلونه آناء الليل وأطراف النهار فلا يَمَلّونه، وعلى كثرة الردّ لا يَخلَقُ ولا تبلى جِدّته.


بهذا البيان الطريّ العذب ذي الطّلاوة صفّت أم أيمن مع أخواتها وصويحباتها-الأقدام في جوف الليل مناجيات متبتّلات ذارفات دمعات حرَّى أن لا ينقطعن عن مُنزّلِهِ الجواد الكريم.


حُقَّ لكِ البكاء يا أم أيمن!


كيف لا تبكي ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ولئن أعيا الناس الأطباء في أدواءٍ أعثَرَتهم وألمَّت بهم، ما كانت شكيَّاتهم إلا من نفوسٍ شاردة عنه، مضطربة عليه، غير مهتدية إليه، وما أن هُدُوا إليه حتى عادت إليهم أرواحهم مطمئنة بذكره ووِرده.


 وكـأني بها تلتفت إلى من حاروا في بكاها، أستغربتم بكايَ؟!


أعندكم غير هذا الكلام تتعبّدون الله به، فتتضاعف عليكم الأجور كل ما فاهت أفواهكم بحرف من حروفه؟!


 كم هو غال على صاحبه؟!


 ما تثبَّتت قلوبنا على كلام هبط علينا ما تثبَّتت به، وهو خليقٌ بذاك!


 تتحرّك له الأملاك العلوية وربما شَيَّع آيةً منه ألوفٌ وألوفٌ من ملائكة الرؤوف -سبحانه-.


والله لو عرفتم قدره لما شبعتم منه، ولقطعتم أعمالكم ذوداً عن حِياضه، وتنقّلاً في رياضه.


ثم أتحسبون أني أنا المرأة التي بكته يتيمة لا أخت لها؟!


لا، أنا من ظهر لكم بكايَ، لقد دمعت لفراقه أعين توارت عنكم، أو تواريتم عنها،


تعزَّت في الخلوة عن مشاغل الجَلوة وآفاتها.


أخواتي!


كم من فرقٍ بين امرأة تبكي انقطاع خبر السماء وامرأة تبكي لأن خِلَّها أخلف لها في وعد، أو نقض لها في عهد؟!


هل فيكنَّ من يلتحق بأم أيمن، أم ستنقضي أعماركنَّ في بكاء يُبكى عليه وعواطف مُردِية لا مجدية؟!!

تحميل