مميز
EN عربي
الكاتب: الشيخ محمد مجير الخطيب
التاريخ: 15/01/2011

دار الحديث الأشرفية

معالم الشام

دار الحديث الأشرفية


معلم حَضاريٌ للأمة في مسيرة ثمانية قرون (800 عام)

في دار الحديث الأشرفية درّس أساطين العلماء والأئمة، وفي دار الحديث صنفت كتب عظيمة لا يستغني عنها عالم من علماء الأمة. ومن دار الحديث انطلقت النهضة العلمية بدمشق في العصر الحديث، وفي دار الحديث سجل التاريخ كثيراً من مواقف العزة والإباء، وفي دار الحديث خطط شيخها للثورة السورية الكبرى.

دار الحديث الأشرفية شاهد عدل من الشهود الكثيرين على عصر زاهر في دمشق افتتحه الملك العادل نور الدين زنكي رحمه الله تعالى بدخوله دمشق سنة 549 وبنائه كثيراً من المدارس، ومن أهمها دار الحديث النورية بناها لشيخه الإمام الحافظ ابن عساكر مؤرخ دمشق، وهي أقدم دار حديث في العالم الإسلامي، واستن بسنته الملوك الأيوبيون من بعده، وكان من أشدهم حباً للعلم وأهله الملك الأشرف مظفر الدين أبو الفتح موسى ابن الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب، والعادل هو شقيق الناصر صلاح الدين ابن أيوب رحمهم الله أجمعين.

اشترى الملك الأشرف داراً وحماماً لصارم الدين قيماز جوار قلعة دمشق من جانبها الشرقي، فهدمهما، وأقام مكانهما دار الحديث الملكية الأشرفية الجوانية، ومسكناً لشيخها بجوارها القبلي، وهي ثاني دار تبنى للحديث في العالم، وتم البناء في سنتين، واحتفل الملك الأشرف بافتتاح دار الحديث في ليلة مباركة، ليلة النصف من شعبان سنة 630، وعهد بتدريسها للإمام الحافظ الحجة أبي عمرو ابن الصلاح الشهرزوري، وهي وقف على المحدثين من الشافعية، وبعد شهر من افتتاحها ورد دمشق استجابة لطلب الملك الأشرف الإمام المسند الكبير الحسين بن المبارك الزبيدي البغدادي، فأنزله الأشرف في دار الحديث فازدحم الناس عليه، وسُمع منه (صحيح البخاري) في أيام معدودة من شهر شوال سنة 630، عاد بعدها الزبيدي إلى بغداد وتوفي بها سنة 631 رحمه الله تعالى.

أما الملك الأشرف فقد وافاه أجله رحمه الله تعالى في قلعة دمشق رابع المحرم سنة 635، وكان آخر كلامه: لا إله إلا الله، ودفن قريباً من عمه الناصر صلاح الدين، ولا يزال قبره في حديقة الكلاسة يجهله الكثيرون محفوفا بدثار من الإهمال.

ولا بد لنا بعد هذا أن نذكر باختصار وترتيب أهم ما تضمنه كتاب الوقف لدار الحديث الأشرفية، وهو وثيقة تاريخية تشهد للأمة أنها في عصر ذهبي، وكان الآخرون يخبطون خبط عشواء في ظلام دامس، وقد حفظ لنا نص هذه الوثيقة الإمام السُبكي في "فتاويه".

فأوقافها العقارية: مبنى الدار الشرقي قلعة دمشق. سكن الشيخ المدرس. عشر حوانيت جوار الدار. حجرة في غربها. فرنان جوار الدار. اصطبل جوار الدار. قيسارية العادل السفل والعلو. جميع الساباط قبالتها. حانوتان وحجرة جوار كنيسة مريم. أربع حصص في أربع حوانيت بباب البريد. حصتان في حانوتين في الحريريينز. حصة في حانوت بالحدادين. ثلث قرية حزرما.

وذلك وقفاً مؤبداً، ونقش بعض ذلك في الجدار الشرقي لمدخلها.

واجبات الناظر: عمارة الدار، وعمارة ما هو موقوف عليها وعلى أهلها. توفير احتياجات الدار من زيت وشمع وقناديل ومصابيح وتعاليق وحصر وبسط وآلات التنظيف. توفير احتياجات الأرض الموقوفة على الدار من تقوية فلاح وإقراضه وشراء دواب وآلات. ضبط ما يستجد من أوقاف وتعاهد كتب الوقف والعناية بها. صرف الاستحقاقات الوقفية إلى أهلها. إذا اقتضت المصلحة أمراً دينياً يناسب مقاصد دار الحديث زائداً على ما نص عليه في كتاب الوقف فللناظر أن يصرف من غلة الوقف ما يليق بالحالة. وللناظر إن فضل من غلة الوقف شيء أن يشتري ملكاً يقفه على وظائف الدار، وله أن يستفضل شيئاً لذلك، وإن رأى أن يصرف الفاضل إلى أهل الدار فله ذلك.

الوظائف العلميـة: تنوعت الوظائف العلمية في دار الحديث الأشرفية فمنها:

الإمام: ويصرف له في الشهر ستون درهماً، وعليه القيام بوظيفة الإمامة في الصلوات الخمس والتراويح، وعليه عقد حلقة الإقراء والتلقين، وشرطه في هذا أن يكون حافظاً للقراءات السبع عارفاً بها، وللشيخ الناظر أن يجعل حلقة الإقراء إلى شخص غير الإمام، ويوزع المقدار المذكور عليهما على حسب ما يرى فيه.

والمؤذن: وله في كل شهر عشرون درهماً.

المحدِّث: ويشترط فيه أن يكون من أعلم الناس بالحديث بدمشق من الشافعية وأن يكون صاحب رواية ودراية، فإن لم تجتمعا في الشخص؛ فيقدم صاحب الرواية، واشترط الملك الأشرف أن يليها الإمام الجليل أبو عمرو بن الصلاح، وأن يُصرف له في كل شهر تسعون درهماً، ولنسله خمسون درهماً كل شهر إلى أن ينقرض آخرهم.

خادم الأثر الشريف: ويصرف له في كل شهر أربعون درهماً، وهو الحاج ريطار غلام الله، ويجري بعده على نسله، فإذا انقرضوا عاد ذلك إلى سائر مصارف الوقف وجهاته.

القـرَّاء: ويصرف كل شهر مائة درهم إلى عشرة أنفس من قراء السُّبع، لكل واحد عشرة دراهم.

قارئ الحديث: ويصرف له أربعة وعشرون درهماً كل شهر.

المشتغلون بالحديث: لكل مشتغل بالحديث ثمانية دراهم، ومن زاد اشتغاله زاده الناظر، ومن نقص نقصه.

المستمعون للحديث: لكل من يستمع الحديث في دار الحديث أربعة دراهم في الشهر أو ثلاثة، ومن ترجح منهم زاده الناظر، ومن كان فيه نباهة جاز إلحاقه بالثمانية.

النابغون: ومن حفظ من الطلاب كتاباً من كتب الحديث فللشيخ أن يخصه بجائزة، ومن انقطع منهم إلى الاشتغال بالحديث، وكان ذا أهلية يرجى معها أن يصير من أهل المعرفة فللشيخ أن يوظف له تمام كفاية أمثاله بالمعروف، ويصرف في شراء ورق وآلات النسخ من حبر وأقلام وسائر أدوات الكتابة مما تقع به الكفاية لمن ينسخ الحديث أو شيئاً من علومه أو القرآن العظيم أو تفسيره، ويصرف إلى من يكتب في مجالس الإملاء، وإلى من يتخذ لنفسه كتاباً أو استجازة، ولا يعطي من ذلك إلا لمن ينسخ لنفسه لغرض الاستفادة والتحصيل دون التكسب والانتفاع بثمنه.

العلماء الزائرون: إذا ورد شيخ له علو سماع يُرحل إلى مثله فله أن ينزل بدار الحديث ويعطي في كل يوم درهمين، فإذا فرغ أعطي ثلاثين ديناراً -كل دينار بسبعة دراهم- هذا إذا ورد من غير الشام، فإن كان مقيماً في الشام فله دون ذلك على ما يراه الشيخ الناظر، وإن كان مستوطناً بدمشق واقتضت المصلحة استحضاره في الدار لاستماع ما عنده من العالي فللناظر أن يعطيه ما يليق بحاله من عشرة دنانير فما دون ذلك.

ومن قام بشرط جهتين وقدر على إثباته بهما فللناظر أن يجعل له ذلك.

ولم ينس الملك الأشرف الإحسان إلى الجوار، فشرط أن يصرف كل سنة من غلة ثلث حزرما ألفا درهم في مصالح دار الحديث النوريّة، والقائمين بمصالحهما، والمشتغلين بالحديث من أهلها.

هذا هو كتاب الوقف أو النظام الداخلي لدار الحديث الأشرفية، ونلحظ فيه جلياً أنه لا يتدخل في الخطة الدراسية؛ لأن النجاح في ذلك يرجع إلى الشيخ المدرس أولاً، إضافة إلى أن النمط الدراسي لم يكن بالطريقة الآلية التي نمشي عليها الآن.

لمتابعة كامل المقال اضغط على الملف أدناه