مميز
EN عربي
الكاتب: الشيخ محمد ياسر القضماني
التاريخ: 24/03/2010

الشيخ أحمد القلاش

تراجم وأعلام

ومضات وذكريات مع شيخنا المرحوم أحمد القلَّاش

1328-1429 هـ...1910-2009م

سبحان الحي الذي لا يموت!! سبحانه .. سبحانه!!.

بلغني أمسُ نبأُ وفاة الشيخ المعمر المبارك العالم أحمد القلَّاش رحمه الله رحمة الأبرار، وسكنه المراتب العليا مع الأخيار.

كان للشيخ في نفسي وفي نفس كثير ممن انتفع به سواء كان في حلب الشهباء بلده ومسقط رأسه أو في طيبة الطيبة التي حلّ فيها مجاوراً للحبيب المصطفى r منذ عام 1400 للهجرة الشريفة المباركة الأثر الظاهر الذي لا يُنسى، لما خالط الشيخَ من دَماثة الخلُق مع أُنس اللقاء وصدق العطاء.

امتزجت في نفسي ذكريات الشيخ -رحمه الله- مع جلال وجمال المسجد النبوي، فغالب لقائي بالشيخ بالمسجد من بعد صلاة الصبح إلى الإشراق، في أبرك الأوقات وأكرم الساحات([1]).

والمخالط للشيخ لا يمَلُّ، فهو مأسور بلطيف الحكايات، أو بدائع الحكم والعبارات، أو رائع الأشعار والكنايات، وكل ذلك في أدب جمّ، يليق بمجاورة المكرََم، صاحب المكان عليه الصلاة والسلام.

وللشيخ -رحمه الله- ذوقٌ رفيعٌ، مع ما أوتي من جودة القريحة، وحسن البيان، ولطيف الإشارة، أهَّلهُ لتذليل المسائل المشكلة، أو المعاني الغامضة، فلا يغادرها إلا وقد ثبتت في الجَنان، وتطوَّع لها اللسان بحسن بيان!.

كان الشيخ لهذا مرجعاً حتى لبعض أكابر المدرسين والموجهين، قلَّ أن يتناول كتاباً يمر عليه دون تعليقات منه لطيفة، أو استدراكات منيفة.

وقد أخذت عنه العناية بعلامات الترقيم في الكتابة، قال لنا مرة –بل مرات- في الحرم الشريف: (هذه علامات التفهيم)!.

فحسن وضع النقطة والفاصلة وغيرها في مواضعها له النظر الرفيع في حسِّ الشيخ رحمه الله.

قال لي مرة في الحرم الشريف: ما أحد سَلِمَ من تعليقاتي إلا واحد، قلت: من هو؟، قال: الشيخ عبد الفتاح أبو غدة!. وكان الشيخ حيّاً مشاركاً في "الرِّياض" فجلَّ في عيني أكثر وأكثر رحمه الله. ثم مات الكاتب ومات المستدرك!.

وهكذا لا يرحل الناس إلا بأقوال وأعمال، فإما أن تحسن في عرضها على ذي الجلال، وإما أن تكون حسرات وأغلالاً وأنكالاً! .. رحم الله الشيخ أحمد وضاعف عليه شآبيب الرحمات، وطيب الصلوات.

` ` ` `

من لطيف قصصه:

قال لي مرة في الحرم الشريف: سافرنا مرة من "حلب" إليكم في "الشام" طمعاً في زيارة الشيخ الوليُّ الصالح أحمد الحارون رحمه الله، ولما دخلنا عليه قال: هاتوا كتاباً نقرأ قليلاً، فأشار من معي إليَّ؛ لأني أعلمهم، فلما تناولت الكتاب وأخذت بالقراءة، صرت ألحن لحناً عجيباً لا يقع فيه الجُهّال، فيردني كل كلمتين أو ثلاث! فنظر إليَّ الشيخ أحمد الحارون وقال: اقرأ -يا شيخ أحمد- بلا نفس. أو كما قال، مع ابتسامة عجيبة! فسكنتُ قليلاً وانكسرت، ثم أخذت بالقراءة أهدر دون توقف!!.

وراء هذه القصة معانٍ ومعانٍ لا تخفى على كل مخالط للصالحين المتقين، والأخيار العارفين!!.

` ` ` `

والشيخ ما نبغ -بعد ملاحظة العناية الإلهية من الصغر- إلا بالدراسة على أخيارٍ من علماء حلب المباركين والمشهورين، وبخاصة في المدرسة الخسروية بحلب، أبرزهم:

- راغب الطباخ: مؤرخ حلب، درس عليه في الحديث: مختصر الزبيدي للبخاري مع شرح الشرقاوي عليه و(مقدمة ابن الصلاح) وفي التاريخ: (نور اليقين) و(إتمام الوفاء).

- وأسعد العبجي: العالم الأصولي المدقق، قرأ عليه (غاية الوصول شرح لب الأصول).

- وعمر المارتيني: قرأ عليه (الإقناع في شرح متن أبي شجاع) للخطيب الشربيني.

- وكامل الغزّي: درَّسه الإنشاء.

- وأحمد الكردي: قرأ عليه (قطر الندى) بالمدرسة الإسماعيلية([2]).

- ومحمد الناشد: قرأ عليه في النحو شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك، وفي البلاغة قرأ عليه (التلخيص) للقزويني.

- وسعيد الإدلبي: قرأ عليه متن التحرير في الفقه الشافعي.

- عبد الله المعطي: قرأ عليه الفرائض.

- فيض الله الكردي: قرأ عليه المنطق والتوحيد.

` ` ` `

وبعد:

فمنذ أن تخرج الشيخ من المدرسة الخسروية عام 1928م بدرجة "نابغ ممتاز" لا يطربه إلا التعلم والتعليم، أنشأ الشيخ -رحمه الله- كُتَّاباً صغيراً، ثم حوله إلى مدرسة سميت: (المدرسة الرضائية)، درَّس فيها سبع سنوات هو ورفيقه الشيخ بكري رجب، وقد سمعت منه مرات في الحرم الشريف قصصاً ومواقف مع الشيخ بكري رحمه الله.

ثم درَّس في المدرسة الشعبانية في حلب مع محدث حلب المبارك المعتقد الشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله، واستمر فيها أكثر من ثلاثين عاماً، كما درَّس في الخسروية والثانوية الشرعية وغيرها.

وكان ينتقل بين المدارس مع حرصه على الوقت، حيث كان غذاؤه التين اليابس المحشو بالجوز.

ماذا تقول عمَّن حفظ ألفية ابن مالك وعمره ثلاث عشرة سنة، بالإضافة إلى منظومات أخرى، ويُغرى بالتعلم والتعليم منذ ذلك السن إلى ما قبل شهر من وفاته، وهو حاضر في ذهنه، ولا يُقِرُّ لحناً بالقرآن أو العربية؟!.

وقد درَّس في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة قريباً من ثلاث سنين، وعمل في أثنائها سنة في مجلس البحث العلمي، وكان يحلو لبعضهم أن يلقبه بشيخ النحاة في حلب، وقد أصابوا في ذلك، ولكن الذي ميزه عن غيره في قضية النحو والعربية إلى جانب تدريس كتبها المعروفة هو استنباطها وممارستها في الواقع، فكنا نجلس ومعنا مصاحفنا كل واحد يقرأ صفحة، فلا يشرع آخر بحصته إلا بعد أن يسمع تعليقةً أو تعليقتين أو أكثر في النحو أو الصرف أو البلاغة أو الفقه أو التاريخ أو السيرة وهكذا.

وقد أخذتْ عنه هذه الطريقة جملةٌ من الطلاب والمخالطين.

` ` ` `

كان الشيخ -رحمه الله- لا ينسى طلابه والمترددين عليه، ويسأل عنهم، وقد أرسل إليّ بعد أن غادرت المدينة المنورة إلى الكويت بسنين كتابه في تذليل المعاملات في الفقه الشافعي، فكان من أغلى الهدايا لديَّ.

وقد خط إهداءه إليَّ في الصحيفة الأولى من كتابه الشهير: (تيسير البلاغة)، فكان أبلغَ أسلوبٍ في ربط الطالب بأستاذه.

اتهموا المطبعةَ لتفهموا!

عبارةٌ شهيرةٌ للشيخ، يقصد بها عدم التسليم بصواب الطباعة عندما يكون فهم المعنى محتِّماً تقديم كلمة أو تأخير كلمة أو نقطة أو فاصلة، وبخاصة في الطباعات الحديثة، فكم من المرَّات استُغلِقتْ علينا عبارة أو كلمة، ثم انكشفت بوضع نقطة أو حذفها، إلى غير ذلك .. فيتبسم قائلاً: ألم أقل لكم: اتهموا المطبعة لتفهموا ؟!.

` ` ` `

خذ الحكمة ولا تسأل عن القائل!

كنت أسمع منه هذه الجملة عندما أقول له: من قائل هذا البيت أو الأبيات؟ فيقول: (خذ الحكمة ولا تسأل عن القائل!) ومرةً اغتنمتُ ساعة صفاء للشيخ في جانب من رحبة المسجد المبارك، فأخذتُ دفتري الذي فيه إملاءاتٌ مباركاتٌ ونكاتٌ وتعليقاتٌ وفوائدُ من كلامه وأشعاره الرائقة([3])، فأخذت أكرُّ عليها: من قال كذا؟ فيقول: فلان! من قال كذا؟ فيقول: فلان! مع ابتساماتٍ لها ما وراءها عند المتعلقين والمتأدبين في رحاب سيد المرسلين!.

` ` ` `

علمان من علماء حلب لا أنساهما!

كنت كلما نزلت المدينة المنورة أحرص على اللقاء بالشيخ والجلوس في حلقته التي قلَّ أن تخلو من فاضل أو موجه، الكبار والصغار كلٌّ يأخذ على قَدْره!. وكنت أنقل له سؤال وسلام شيخنا المبارك الدكتور محمد فوزي فيض الله -أمتع الله به- وأرجِع حاملاً سؤال وسلام الشيخ أحمد له، وكل منهما يجل الآخر ويثني عليه!.

وقد أوردت في ترجمتي لشيخنا الشيخ فوزي الشيخَ أحمد القلاش-رحمه الله- ضمن شيوخه، فقد أخبرني الشيخ فوزي بنفسه أنه حضر دروسه في علم الحديث في جامع (بان قوسه) بحلب أيام الطلب.

` ` ` `
لمتابعة المقال تفضل بتحميل الملف

تحميل