مميز
EN عربي
الكاتب:
التاريخ: 10/04/2017

الأغراض الموضوعية للبلاغة النبوية

مقالات

الأغراض الموضوعية للبلاغة النبوية
لـ الدكتور نور الدين عتر
هذا البحث يبرز مزيد عظمة البلاغة النبوية، وإبداعها في المضمون بعد أن عرفنا سموها وخصائصها التي ارتقت بها على البلغاء والفصحاء في الأسلوب والشكل.
إن معظم كلام الأدباء والبلغاء يتحدث عن المرأة أو الطبيعة، والأدب العربي في عهد البعثة كانت معظم أغراضه تدور على الغزل، والمدح، والهجاء، والفخر، والوصف، والرثاء، ونحو ذلك مما هو معروف. والقسم الكبير من شعر الشعراء وعواطفهم يحوم على المرأة، حتى ليكاد يعادل هذا الباب في الآداب العالمية شطر الأدب الإنساني، وقسم كبير من هذا النوع تعلق بالمرأة بعامل العاطفة المعروفة.
أما البلاغة النبوية فإنها جاءت بدعوة وهداية للإنسانية، تشمل جميع نواحي الحياة، وشتى آفاق الإنسان والحضارة والثقافة، حتى إن طرقت شيئاً من أبواب الأغراض الأدبية المعروفة، فإنما تطرقها من سمة الإبلاغ لهذه الرسالة، وبيان الحكم الإلهي، أو الموعظة أو العبرة.
تحدثت البلاغة النبوية عن المرأة، فقررت وحدة جنسها الإنساني مع الرجل كما في حديث: (النساء شقائق الرجال)[1] وأشارت إلى رقة المرأة وحاجتها إلى التلطف (رفقاً بالقوارير)[2] وأناطت بها مسؤولية البيت والعمل التربوي الكبير: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولية عن رعيتها)[3] ولاحظت ما فطرت عليه من الحشمة والخفر، وقد جاءت تقرر ما غرست عليه الفطرة الإنسانية، فتحدثت عن الكاسيات العاريات، وكسا النبي الكريم أسامة بن زيد قُبطِية[4] فكساها امرأته فقال لأسامة: أخاف أن تصف حجم عظامها.
فانظر إلى هذا السمو الرفيع في الحديث عن المرأة، وبيان تأثير هذا الثوب إذا لبسته.
قال الشريف الرضي في شرح الحديث: وهذه استعارة والمراد أن القُبطِية برقتها تلتصق بالجسم، فتبين حجم الثديين والرادفتين، وما يشتد من لحم العضدين والفخذين، فيعرف الناظر إليها مقادير هذه الأعضاء .. فجعلها عليه الصلاة والسلام لهذه المحَال كالواصفة لما خلفها، والمخبرة عما استتر بها. وهذه من أحسن العبارات عن هذا المعنى. وإلى هذا الغرض رمى عمر بن الخطاب في قوله: "إياكم ولبس القُباطي، فإنها إلا تشِف تصف". فكان رسول الله صلى الله عليه وآله أبا عذر هذا المعنى، ومن تبعه فإنما سلك نهجه وطلع فجه).[5]
قال الرافعي في التعليق على هذا الشرح: (وهذا كلام حسن، ولكن في عبارة الحديث سراً هو من معجزات البلاغة النبوية لم يهتد إليه الشريف على أنه حقيقة الفن في هذه الكلمة بخلاصتها، ولا نظن أن بليغاً من بلغاء العالم يتأتى لمثله، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يقل: أخاف أن تصف حجم أعضائها، بل قال: حجم عظامها، مع أن المراد لحم الأعضاء في حجمه وتكوينه، وذلك منتهى السمو بالأدب. إذ ذِكرُ "أعضاء" المرأة في هذا السياق وبهذا المعرض، هو في الأدب الكامل أشبه بالرفث ولفظة "الأعضاء" تحت الثوب الرقيق الأبيض تنبه إلى صور ذهنية كثيرة هي التي عدَّها الشريف في شرحه، وهي تومئ إلى صور أخرى من ورائها، فتنزه النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذلك، فضرب الحجاب اللغوي على هذه المعاني السافرة ...
وجاء بكلمة العظام لأنها اللفظة الطبيعية المبّرأة من كل نزعة، لا تقبل أن تلتوي، ولا تثير معنى، ولا تحمل غرضاً، إذ تكون في الحي والميت، بل هي بهذا أخص، وفي الجميل والقبيح، بل هي هنا أليق، وفي الشاب والهرم، بل هي في هذا أوضح. والأعضاء لا تقوم إلا بالعظام، فالمجاز على ما ترى، والحقيقة هي ما علمت.[6]
وكذلك الشأن في الأغراض الأدبية الأخرى، فإنها إنما تدخل في البلاغة النبوية من باب آخر جديد غير المعاني والمقاصد المعروفة بالتداول بين الأدباء.
فالمدح والذم في هذه البلاغة في حدود بلاغة الرسالة، المدح للخير وأهله، والذم للشر وأهله. وانظر معي هذا الحديث الذي جمع بين فطرية المدح والذم معاً في أواخر أسلوب وأبلغه: (إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة)[7] فالحديث يحذر مما سيقع فيه الناس من الحرص على الرئاسات، وما يترتب على ذلك من الخطر العظيم، والمسؤولية الجسيمة بعد تنعم تافه يسير في الدنيا (فنعمت المرضعة)، أي في الدنيا كما تؤدي إليه من المنافع واللذات العاجلة، (وبئست الفاطمة) أي عند الانفصال عنها بموت أو عزل أو ما سوى ذلك، فتنقطع تلك اللذات والمنافع، وتبقى الحسرة والمسؤولية. وتأمل هذا الأسلوب البليغ للتحذير من الحرص على الإمارة، فقد ضرب المرضعة مثلاً للإمارة الموصلة صاحبها إلى المنافع العاجلة، والفاطمة، وهي التي انقطع لبنها مثلاً لمفارقتها عنها بالعزل أو الموت، والقصد ذم الحرص عليها وكراهة طلبها. وقال القاضي: شبه الولاية بالمرضعة، وانقطاعها بموت أو عزل بالفاطمية، أي نعمت المرضعة الولاية، فإنها تدر إليك المنافع والملذات العاجلة وبئست الفاطمة المنية، فإنها تقطع عنك تلك اللذائذ والمنافع. وتبقى عليك الحسرة والتبعة، فلا ينبغي لعاقل أن يُلِم بلذة تتبعها حسرات، وألحقت التاء في بئست دون نعم، والحكم فيهما إذا كان فاعلهما مؤنثاً جواز الإلحاق وتركه، فوقع التفنن في هذا الحديث بحسب ذلك.
وقال في شرح المصابيح: شبه على سبيل الاستعارة ما يحصل من نفع الولاية حالة ملابستها بالرضاع، وشبه بالفطام انقطاع ذلك عنها عند الانفصال عنها، فالاستعارة في المرضعة والفاطمة تبعية.
فإن قلت: هل من فائدة لطيفة في ترك التاء من فعل المدح، وإثباتها مع الذم؟ أجيب بأن إرضاعها أحب حاليها للنفس، وفطامها أشقها، والتأنيث أخفض حالتي الفعل، فاستعمل حالة التذكير مع الحالة المحبوبة التي هي حالة الفطام عن الولاية لمكان المناسبة في المحلين. انتهى.
وفي شرح المشكاة إنما لم يلحق التاء بنعم لأن المرضعة مستعارة للإمارة وهي وإن كانت مؤنثة لكن تأنيثها غير حقيقي، وألحقها بئست نظراً إلى كون الإمارة حينئذٍ ذاهبة.
وفيه أن ما يناله الأمير من البأساء والضراء أشد مما يناله من النعماء، فعلى العاقل أن لا يلم بلذة يتبعها حسرات. هذا فضلاً عما في أسلوب الحديث من التقابل بين الجملتين، وسهولة ألفاظه وقلة عددها مع عظمة المعنى، وسعة المدلول الذي دلت عليه تلك الألفاظ القليلة. كما نلاحظ قوة الحسم في اختتام الجملتين بالتاء المربوطة التي تلفظ هاء عند السكت، في المرضعة، الفاطمة وإحكام سبك الكلمات، وتناسب وقعها. لتتعاون كل العوامل التي ذكرنا والتي لم تذكر لتقوية رسم الصورة المحذرة المنذرة من الحرص على الإمارة، وتقع في النفس الوقع المؤدي للمطلوب.
وأما الرثاء فقد أبطل ما كان عليه الجاهليون من الأعمال غير المتزنة فحرم تمزيق الثياب، وحلق الرأس، والنياحة، وغير ذلك مما كانوا عليه، وأطلق عنان العواطف الإنسانية تعبر عن نفسها. فها هي ذي عاطفة الوفاء تثور في هذه النفس الكريمة عندما (حضر صاحبه سعد بن عبادة الذي كان له سهم كبير في دخول الأنصار الإسلام، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله. فقال: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله. فبكى النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا. فقال: ألا تسمعون، إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا _وأشار إلى لسانه_ أو يرحم).[8]
وتأمل هذا الرثاء من القلب الأبوي الرحيم لما دخل على ولده إبراهيم آخر أمل بقي له من أولاده الذكور، الذين ماتوا كلهم قبله. قال أنس: (... ثم دخلنا عليه[9] بعد ذاك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان. فقال له عبد الرحمن بن عوف وأنت يا رسول الله! فقال: يا ابن عوف: إنها رحمة. ثم اتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)[10] وأما الفخر فإن القرآن الكريم قد حسم أمره بصراحة (إن الله لا يحب كل مختال فخور).
وأعلن البيان النبوي هذا المعنى في خطاب عام يوم فتح مكة في هذا الخطاب الذي يرويه عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة، فقال:
(يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية، وتعاظمها بآبائها. الناس رجلان: برٌ تقيٌ كريم على الله عز وجل، وفاجر شقيٌ هين على الله عز وجل. الناس كلهم بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب. قال الله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)[11] ولكن النبي الكريم تحدث في مقابل ذلك بما أنعم الله عليه وأكرمه من الإكرامات لا افتخاراً ولا قصداً للتعظم والتجبر، بل بيان لنعمة الله عليه، امتثالاً وقياماً بقوله تعالى: وأما بنعمة ربك فحدث).
فمن ذلك قوله: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، بيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر)[12] فالتحدث هنا إنما هو بمواهب الله تعالى، وإكراماته، ثم هو بدافع غير ما كان عليه الناس من المباهاة والتعظم عليهم أو الكبر وغير ذلك، لكنه التحدث بنعمة الله تعالى، وإعلام الأمة بالواقع ليعرفوه.
وفيما عدا القسم الذي يتعلق بما ذكرنا، فإن القسم الأكبر من الأحاديث يقدم للإنسان علوماً ومعارف وأحكاماً جديدة كل الجدة على المعارف العربية، بل على المعارف العالمية والإنسانية آنذاك. وإذا أردنا أن نوضح هذا الإجمال مزيد توضيح، وأن نحصر الأبواب الرئيسية، والموضوعات الأساسية الأصول لأغراض البلاغة النبوية، فإننا نستطيع تقسيمها إلى ثمانية أبواب، وموضوعات أساسية تندرج تحتها تفاصيل أغراض الحديث ومقاصده، وهي:
أولاً- العقائد:
وفيها أركان الإيمان وشرح هذه الأركان: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وتفاصيل واسعة حول هذه الأمور. وتدخل فيها الأمور الكونية، لأن الكون في الحديث النبوي كما يقول الرافعي: (آية الحكمة لآية الفن، ومنظر المستيقن، لا منظر المتخيل، ومادة العبودية لله لا مادة التأله للإنسان).
ثانياً- الأحكام: وتشمل العبادات، والمعاملات المالية، والأسرة، والمجتمع، والحدود، والقصاص، والمواريث، وغير ذلك من الأبواب.
ثالثاً- السيرة: أحكام السلم والحرب، والعهود، والعلاقات الدولية، والمغازي التي كانت في السيرة النبوية، وما وراء ذلك من أحكام، وما فيها من سجل مفاخر يُعتز بها بحق.
رابعاً- الآداب: وفيها الجوانب الخلقية، وآداب الحياة اليومية في الطعام، والشراب، والملبس، والنوم، والاستيقاظ، والآداب الاجتماعية، والحقوق الاجتماعية إلى آخر ما هنالك.
خامساً- التفسير: وهو باب كبير يتناول ما ورد من الأحاديث النبوية في فضائل القرآن عامة، وفضائل سور أو آيات معينة من القرآن، أسباب النزول، وما فسر من القرآن في الحديث النبوي الذي لا يجوز لمفسر أن يقصر في الرجوع إليه أبداً.
سادساً- الفتن: وربما يعبر عنها بالملاحم، وهو باب كبير، فيه أحاديث كثيرة جداً تخبر عما سيقع بين المسلمين من الفتن والانشقاقات، وما سيقع في العالم من حروب وملاحم، وما سوف يطرأ على الناس من انحرافات في الأخلاق والسلوك والأفكار للتبصير والتحذير من كل ذلك، ولكن هذا الباب كثير فيه الضعف والوضع والاختلاق حتى حذر العلماء من الاغترار بما يرون فيه دون تثبت وتأكد، لكن فيه جملة كبيرة صحيحة تحقق وقوع بعضها، والبعض الآخر لم يأت حدوثه بعد.
سابعاً- أشراط الساعة: وفيها الحديث عما يطرأ من تغيرات في العالم قبيل القيامة وما يقع من أحداث فلكية أو أرضية أو جيولوجية كبيرة قبيل القيامة وتقسم إلى قسمين أشراط صغرى، وأشراط كبرى. ويقع في أحاديث الباب الضعف والوضع كثيراً أيضاً، وقد صنفت كتب خاصة في هذا الفن، ويدخل المصنفون فيها ما يتعلق بتغير أحوال الناس.
ثامناً- المناقب: أي الفضائل، ويتعلق بها ضدها (المثالب) وليس المراد هنا بالفضائل فضائل الأعمال، بل أنهم يوردون أحاديث فضائل الأعمال في الأبواب التي تتبعها تلك الأعمال، لكن المراد هنا فضائل الأشخاص والقبائل والشعوب والأزمنة والأمكنة، وما يتعلق بذلك وما يلحقه من أغراض. وهكذا نجد الحديث النبوي صاغ عقلية الإنسان صياغة جديدة، وأعاد بناء العقل والفكر الإنساني، والسلوك الإنساني والمعتقدات الإنسانية، في كل ما يأتيه الإنسان وما يرده، وما يعقله ويعتقده، وما يعلمه وما يدركه. مصدقاً لقوله تعالى حكمته: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً).
بحوث ملتقى السنة النبوية الشريفة في تلمسان الجزائر 1982م.
[1] أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه
[2] من حديث اتفق عليه
[3] سبق تخريجه
[4] أي أعطاه قُبطية بضم القاف، ثوب من ثياب مصر رقيقة بيضاء، وضم القاف تميزاً بينه وبين ما ينسب إلى القبط من غير الثياب
[5] المجازات النبوية ص166
[6] وحي القلم (3/33) وانظر فيه المقال الذي عقده الرافعي للبلاغة النبوية (3-30)
[7] أخرجه البخاري في الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة، والنسائي
[8] أخرج البخاري ومسلم
[9] ابن علي أبي سيف الذي كان إبراهيم مسترضعاً عنده
[10] أخرجه البخاري
[11] أخرجه البخاري
[12] أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه

تحميل