مميز
EN عربي
الكاتب:
التاريخ: 15/07/2014

حكم الحديث الضعيف

مقالات مقالات في السنة النبوية وعلومها

حكم الحديث الضعيف

أ‌. د. نور الدين عتر حفظه الله تعالى

لما كان الحديث الضعيف على احتمال أن يكون راويه قد حفظه وأداه على وجهه الصحيح فقد كان ذلك مثار اختلاف كبير بين العلماء في العمل به، دارت فيه مناقشات طويلة حتى وضع بعض العصريين بعض عباراتهم في غير موضعها، وتقلب بينها بحيث يعسر على القارئ معرفة وجهه فيها .

ونقدم إليك حاصل مذاهب العلماء في هذه المسألة الهامة :

المذهب الأول: أنه يعمل بالحديث الضعيف مطلقا أي في الحلال والحرام والفرض والواجب بشرط أن لا يوجد غيره. ذهب إلى ذلك بعض الأئمة الأجلة كالإمام أحمد وأبي داود وغيرهما .

وهذا محمول على ضعيف غير شديد الضعف، لأن ما كان ضعفه شديدا فهو متروك عند العلماء، وأن لا يكون ثمة ما يعارضه .

وكأن وجهة هذا المذهب أن الحديث الضعيف لما كان محتملا للإصابة ولم يعارضه شيء فإن هذا يقوي الإصابة في روايته فيعمل به .

روى الحافظ ابن منده أنه سمع محمد بن سعد الباوردي يقول: ((كان من مذهب أبي عبد الرحمن النسائي أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه)) .

قال ابن منده: ((وكذلك أبو داود السجستاني يأخذ مأخذه ويخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره لأنه أقوى عنده من رأي الرجال )).

وهذا مذهب الإمام أحمد فإنه قال: ((إن ضعيف الحديث أحب إليه من رأي الرجال لأنه لا يعدل إلى القياس إلا بعد عدم النص)).

وقد تأول جماعة من العلماء هذه الروايات بأن المراد بها معنى آخر غير المعنى المتعارف لكلمة ((ضعيف))، وهذا المعنى المراد هو ((الحسن))، لأنه ضعف عن درجة الصحيح.

لكن هذا التأويل يشكل عندنا بما قاله أبو داود ولفظه :

((وإن من الأحاديث في كتابي السنن ما ليس بمتصل، وهو مرسل ومدلس، وهو إذا لم توجد الصحاح عند عامة أهل الحديث على معنى أنه متصل، وهو مثل: الحسن عن جابر والحسن عن أبي هريرة، والحكم عن مقسم عم ابن عباس ...)).

حيث جعل أبو داود الحديث غير المتصل صالحا للعمل عند عدم الصحيح، ومعلوم أن المنقطع من أنواع الحديث الضعيف لا الحسن.

كما أنه على تأويل الضعيف بالحسن لا معنى لتخصيص هؤلاء الأئمة بالعمل به وتقديمه على القياس، لأن هذا مذهب جماهير العلماء .

المذهب الثاني: يستحب العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال من المستحبات والمكروهات، وهو مذهب جماهير العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم، وحكى الاتفاق عليه بين العلماء الإمام النووي والشيخ علي القاري وابن حجر الهيتمي .

وقد أوضح الحافظ ابن حجر شروطه خير إيضاح فقال :((إن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة :

الأول: متفق عليه، وهو أن يكون الضعف غيرشديد، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه.

الثاني: أن يكون مندرجا تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلا .

الثالث: ألا يعتقد عند العمل به ثبوته، لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله)).

وقد وجه الحافظ الهيتمي الاستدلال للعمل بالضعيف في فضائل الأعمال فقال: ((قد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال لأنه إن كان صحيحا في نفس الأمر فقد أعطي حقه من العمل به . وإلا لم يترتب على العمل به مفسدة تحليل ولا تحريم ولا ضياع حق للغير )).

المذهب الثالث: لا يجوز العمل بالحديث الضعيف مطلقاً، لا في فضائل الأعمال ولا في الحلال والحرام، نسب ذلك إلى القاضي أبي بكر بن العربي، وقال به الشهاب الخفاجي والجلال الدواني، ومال إليه بعض العصريين من الكاتبين مستدلا بأنها كالفرض والحرام لأن الكل شرع، وإن في الأحاديث الصحاح والحسان مندوحة عن الأحاديث الضعيفة .

هذا والمسألة ذات إشكالات كثيرة ومناقشات نرجو أن نوفق لبسطها في مقام آخر إن شاء الله، إلا أنه يبدو أن أوسط هذه المذاهب هو أعدلها وأقواها، وذلك أننا إذا تأملنا الشروط التي وضعها العلماء للعمل بالحديث الضعيف، فإننا نلاحظ أن الضعيف الذي نبحث فيه لم يحكم بكذبه، لكن لم يترجح فيه جانب الإصابة، إنما بقي محتملا، وهذا الاحتمال قد تقوى بعدم وجود معارض له وبانضوائه ضمن أصل شرعي معمول به، مما يجعل العمل به مستحبا ومقبولا، رعاية لذلك .

أما زعم المعارضين أن العمل بالضعيف في الفضائل اختراع عبادة وتشريع في الدين لما لم يأذن به الله تعالى . فقد أجاب عنه العلماء بأن هذا الاستحباب معلوم من القواعد الشرعية الدالة على استحباب الاحتياط في أمر الدين، والعمل بالحديث الضعيف من هذا القبيل فليس ثمة إثبات شيء من الشرع بالحديث الضعيف .

وفي رأيي أن الناظر في شروط العمل بالحديث الضعيف يجد فيها ما ينفي الزعم بأنه إثبات شرع جديد، وذلك أنهم اشترطوا أن يكون مضمونه مندرجا تحت أصل شرعي عام من أصول الشريعة الثابتة، فأصل المشروعية ثابت بالأصل الشرعي العام، وجاء هذا الخبر الضعيف موافقا له

رواية الحديث الضعيف :

أما مجرد رواية الحديث الضعيف في غير العقائد وأحكام الحلال والحرام، كأن يروي في الترغيب والترهيب والقصص والمواعظ ونحو ذلك فقد أجاز العلماء المحدثون رواية ما سوى الموضوع وما يشابهه من غير اهتمام ببيان ضعفه، والآثار عنهم في ذلك كثيرة مستفيضة ذكر الخطيب البغدادي جملة منها في كفايته .

منها قول الإمام أحمد: ((إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال أو مالا يضع حكما ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد )).

لكن علماء الحديث يراعون الدقة في رواية الحديث الضعيف، لذلك لا يسوغون روايته بصيغة جازمة في نسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لك أن تقول في روايتك لحديث ضعيف: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ...، أو فعل, أو أمر وما شابه ذلك من الألفاظ الجازمة بصدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما تقول فيه :

((روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يروى، أو ورد، أو يحكى، أو ينقل...)) وهكذا تقول أيضا فيما تشك في صحته وضعفه .

إنما تقول: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)) فيما ظهر صحته أو حسنه .

لكن المتقدمين كانوا يتساهلون في ذلك، وربما عبروا عن الصحيح بقولهم ((روي)) اعتمادا على اشتهار الأحاديث والأسانيد في عصرهم، كما ستقف عليه في بحث المعلق إن شاء الله تعالى .

من كتاب: منهج النقد عند المحدثين

تحميل