الشيخ محمد الفحام
اختلافُ الأقوالِ في نِسبِ الوسواس وذِكرُ أصنافِه
اختلافُ الأقوالِ في نِسبِ الوسواس
وذِكْرُ أصنافِه
1_ انقطاعُ الوسواسِ؛ بالذكْرِ لأنَّ الشيطانَ يَخْنَسُ _أي يَسْكُتُ_ عن وسْوَسَتِه ولا مَدْخَلَ له إلا بالغَفْلَةِ عن الذِّكْرِ.
2_ عدم انقطاعِ الوسوسة، لكنَّ القلبَ يُحْجَب عن التأثُّرِ به لاسْتيعابِه بنورِ الذكر _أي بسبب استغراقِه به_ وعلى هذا المعنى يحمِلونَ خَنْسَهُ في قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا ذَكَرَ اللهَ خَنَسَ)
3_ عدم سقوطِ الوسوسة بالكلية؛ بل تَضْعُفُ وذلك بِحُكْمِ غَلَبَةِ القلب.
4_ انعدامُ الوَسوسةِ لحظاتِ الذكر؛ وعَوْدُها لحظاتِ تَرْكِهِ، فَهُما يَتَعاقَبَانِ في أَزْمِنَةٍ مُتقارِبَةٍ والعِلَّة عندهم مُشاهَدَةُ الوسوسة مع وجودِ الذِّكْرِ.
5_ تساوُقُ الوَسْوَسَةِ مع الذِّكْرِ؛ على القلب دائماً تَساوُقاً لا يَنْقَطِعُ كَمَنْ يرى بِعَيْنَيْهِ شيئين في حالةٍ واحدةٍ.
والصحيح صِحَّةُ ما قالوا لكنَّها قاصرةٌ عن الإِحاطة بأصناف الوسواس.
وإنما الأصنافُ ثلاثة:
الأول؛ صِنْفٌ يأتي مِنْ جِهَةِ التَّلْبيسِ بالحقِّ عَبْرَ مَلذَّاتِ الدنيا والإِيهامِ بِطولِ العُمرِ وأنَّ الصبرَ عنها ألَمُهُ شديد، فإنْ تَذَكَّرَ العبدُ عظيمَ حقِّ الله تعالى عليه، وأنَّ الصبرَ على النَّارِ أَشَدُّ مِنَ الصبر عن الشَّهواتِ الدنيوية لأنَّه إيمانٌ بكتابِ اللهِ تعالى، وهذا ما لا يَسْتَطيعُ الشيطانُ حَجْبَهُ عنه، فيَضْعُفُ بِقُوَّة إيمانِ ذلك العبدِ ثم يَخنَسُ ويَهرُبُ.
وعليه؛ فإنِ اتَخَذَه قاعِدةً للعملِ مع كُلِّ خاطِرٍ نَجا مِنْ كلِّ وسواسِ لاسيَّما وسواسُ باطِنِ الإثم.
الثاني؛ وصنفٌ يأتي مِنْ جِهَةِ الشَّهوة وهَيَجانِها، فإنْ جَهِلَ العبدُ حُكْمَ اللهِ فيها أو شَكَّ وَقَعَ وإنْ غَلَبَ على ظَنِّهِ ربما وقَعَ إلا أنْ يُجاهِدَ نَفْسَه، وإنْ أَيْقَنَ نَجا وخَنَسَ شيطانُه. لذا لا نَجاةَ بلا يَقينَ ولا يَقينَ بلا إيمانٍ، ولا إيمانَ بلا فِرارٍ إلى اللهِ تعالى، ولا وصولَ إلى ذلك كُلِّه إلا بِعِلْمٍ بالكتاب.
ثالثاً؛ وصِنفٌ بوسْوَسَةِ الخواطرِ يَتَعاقَبُ عليه الذِّكْرُ مع الوسوسة كأنَّهما مَوْضِعانِ في القلب حتى ربما يَشْتَمِلُ فَهْمُ معنى القراءةِ على تلك الخواطرِ أيضاً، وهذا الخَنْسُ لا يَنْدَفِعُ بالكُلِّيَّةِ إلا عند مَنِ اسْتَوْلَى عليه الحُبُّ الخالِصِ بحيث لا يَخْطُرُ على بالِه إلا مَحْبُوبُه الحقُّ بحيث لو كلَّمَهُ غيرُه مع شهودِه محبوبَه لا يَسْمَعُه، ولو اجتازَ بين يَدَيْهِ أحدٌ لَكانَ كأنْ لا يَراه، فإذا تُصُوِّرَ هذا مثلا في الخوفِ مِنْ عَدُوٍّ، أو شدَّةِ الحِرْصِ على شيءٍ، فكيف لا يُتَصَوَّرُ في الخوفِ مِنَ النارِ أو الحِرْصِ على الجِنان، لكنَّ ذلك مَرْهُونٌ تحقيقُه بقوَّةِ الإيمانِ وعَدَمُه بِعَدَمِهِ.
خاتمة مهمة؛ والخلاصةُ أنَّ الخلاصَ مِنْ وساوسِ الشيطانِ على الإِطْلاق بعيدٌ جداً وأمَّا إِبْعادُه مع تَغَيُّرِ الأَحوالِ واردٌ عَبْرَ المنهجِ المذكور. وهو في الأصل منهجٌ نبويٌّ خرجَ به أَهلُ النَّظَرِ في أحاديثِ الأقوالِ والأفعالِ النبويَّة فقد ابْتُلِيَ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلوصولِ إلى ما فَعَلَهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم، مِنْ ذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم _كما في البخاري ومسلم_ نَظَرَ إلى عَلَمِ ثوبٍ _لَبِسَهُ_ وهو في الصلاة فلما سلَّمَ رمَى بذلك الثوب وقال: (شَغَلَني عن الصلاة) وقال: (اذهبُوا به إلى أبي جَهْمٍ وائْتُوني بأَنْبِجَّانِيَّتِه) _أي بكسائه_ ، ورمى بخاتَمٍ كان في يَدِهِ، ثم قال _كما سنن النسائي_: (نَظْرةٌ إليه ونَظْرَةٌ إليكم)، وكان ذلك لِوَسْوَسَةِ الشيطان بتِحْريكِ لَذَّةِ النَّظر إليهما _الثوب والخاتم_ وذلك تعليمٌ مِنَ النبيِّ عليه الصلاة والسلام إلى أنَّ انْقِطاعَ وسوسةِ عُروضِ الدنيا لا يتأتَّى إلا بالرَّمْيِ والْمُفارقَةِ، فما دامَ يَمْلِكُ ما زادَ عن حاجتِه منها وهو مَشْغُولٌ به وبِشَهْوةِ إظهارِه مُباهاةً، وما دام مُتعلِّقَ القلبِ حِرصاً فلا مَطْمَعَ للتَّغَلُّبِ على الوسواس بحالٍ ذلك أنَّ التَّخَلُّصَ مِنْ الشيطانِ مع العَيْشِ في دائرةِ بِضاعَتِه مِنْ حُطامِ الدنيا مُحال.
قال حكيم: يأتي الشيطانُ ابنَ آدمَ مِنْ قِبَلِ المعاصي، فإنِ امْتَنَعَ أتاه بالنَّصيحةِ لِيُلْقِيَهُ في البِدعة، فإنْ أَبَى أَمَرَهُ بالتَّحَرُّجِ والشِّدَّة لِيُحَرِّمَ ما ليس بِحَرام، فإنْ أَبَى شَكَّكَهُ في وضوئِهِ وصلاتِه حتى يُخْرِجَه عن العِلْمِ، فإنْ أَبَى خَفَّفَ عليه أَعْمالَ البرِّ لِتَميلَ إليه قلوبُ الناظرين فَيَعْجَبَ بنفسِه وبه يُهْلِكُهُ، وعند ذلك يَشْتَدُّ إِلحاحُه، فإنَّها آخِرُ درجةٍ ويَعْلَمُ الشيطان أنَّه لو جاوزَها أُفْلِتَ منه إلى الجنة.