مميز
EN عربي

الفتوى رقم #84547

التاريخ: 10/06/2020
المفتي:

الأدب ... ماهيته ودرجاته

التصنيف: علم السلوك والتزكية

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: نامل منكم مساعدتي في تعليمي بشكل مفصل ماهو الادب الذي يجب الالتزام به وتطبيقه في حياتي وحياة افراد اسرتي (كما يقال الادب قبل العلم )وهي على النحو التالي:الأدب مع الله تعالى .والادب مع الرسول عليه الصلاة والسلام .والادب مع الناس.والادب مع النفس .للاسف لم اجد ما اطلب بشكل مرتب يسهل علي تعلمه وتطبيقه .فنحن في هذا الزمان بحاجة الي منهج واضح يبين الادب المطلوب و سؤ الادب الغير مرغوب..جزاكم الله عنا كل خير ..في انتظار الاجابة 

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته, وبعد؛ فإنَّ مَطْلَبَكَ مُتَعَلِّقٌ بمعرفةِ منهجِ الحبيبِ الأَعظم صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال المجموعة في سيرتِه وشمائلِه, والتي سرُّ الالتزام بها وتطبيقِها كامن في مَطْويِّ قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) والائتساءُ يعني الاقتداءَ بالشخصِ في كلِّ ما يَصْدُرُ عنه, وخيرُ مَنْ يُقْتَدَى به مَنْ زكاهُ مولاه وأَمَدَّه وأَعْطاهُ, لذا جعلَ الله تعالى بحكمته صِلَةَ الوصلِ بين المؤتسي والمؤتسى به الحبَّ الخالِصَ برابِطِ العقيدةِ لِتَتَنَامَى أنوارُ العلاقةِ, وتقوى آصرةُ التقابُلِ من أجل أن يسريَ حالُه في حالِ تابِعِهِ, وهذا أصل أصيل لضمان النتاج النافع هذا؛ ولكي يَبْلُغَ المأمولَ جعل اللهُ تعالى مِفْتَاحَ القُرْبِ الدائم بينهما الصلاةَ عليه صلى الله عليه وسلم, فَبِكَثْرَةِ الصلاةِ عليه صلى الله عليه وسلم يشعر تابعُه مُحِبُّه بالأُنْسِ, ويَتَحَقَّقُ اليُسْرُ لِذَوْقِهِ طَعْمَ الحبِّ الضامِنِ للاتِّباع, ودونك الآن مختصراً لما سألت؛  

أما المطلب الأول؛ الأدب مع الله تعالى؛ وهو ما يكونُ ابتداءً بأَكْلِ الحلالِ والبُعْدِ عن الحرام والالتزامِ بما وجَّهَ وأمَرَ كأركان الإسلام لاسيما الصلاة على وقتها لأنها مِنْ أَحَبِّ الأعمال إليه سبحانه كما أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله لما سئل عن أحب الأعمال إلى الله (الصلاة على وقتها..), ثم الانتهاء عما نهى عنه وزجر لاسيما باطن الإثم مِنَ الحِقْدِ والضَّغينةِ والحسدِ..., وظاهره كالغيبة والنميمة والكذب ذلك أنَّ المرءَ منَّا إنْ لم يبدأ بإصلاح نفسِه عَبْرَ إلزامِها بضوابِطِ الشرع لا يُمْكِنُ أنْ يؤثِّرَ في سواه لا سيما أهلِ بيتِه, ثم إنَّ أَهَمَّ ما ينبغي عنايتك به مراقبَتُكَ لمولاكَ في الخلواتِ أي: أن لا تَغْفُلْ عن علمه عنك السِّرَّ وأَخَفَى, فراقِبْهُ في جميع أحوالك, واتَّقْهِ فإنَّهُ الشاهِدُ عليك في دنياك, والحاكمُ على أفعالك يوم الحساب والسؤال, وأهل الله تعالى يقولون: [اتقِ اللهَ في الخَلَواتِ, فإنَّ الشاهِدَ هو الحاكم] وإنما يُعينُكَ على ذلك مع المراقبة كثرةُ الذِّكْرِ وتلاوةُ القرآن, فلا يُغادِرَّنَكَ يومُكَ إلا وقد اسْتنارَ بتلاوةِ القرآن.

المطلب الثاني؛ الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وإنما يَتَحَقَّقُ بأنْ تَعْلَمَ أنَّ كلَّ ما يَصْدُرُ عنك ومِنْكَ مِنْ عَمَلٍ مَعروضٌ عليه كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام: (حياتي خير تحدثون ويحدث لكم, فإذا أنا متُّ كانت وفاتي خيراً لكم تعرض عليَّ أعمالكم..)

ومعلومٌ أنَّ الْمُحِبَّ لا يَعْرِضُ على محبوبه ما يُحْزِنُه, بل ما يُفرحه مِنَ الاقتداء به والعمل بما جاء به وإجلالِ سُنَّتِه وتعظيمِ ما عَظَّمَهُ بَدْءاً بكتابِ الله تعالى تلاوةً والتزاماً, وانتهاءً بأصغر النِّعَمِ كَكِسْرَةِ الخُبْزِ تَجِدُها مُلْقاةً في أرض بيتك فَتَرْفَعُها وتُزيلُ عنها الأذى وتسمي, ثم تأكلُها, لِتَحْمَدَ اللهَ تعالى على نِعَمِهِ مهما قَلَّت بِمَنْظورِ أنَّها منه لا مِنْكَ وكل ما من أكرم الأكرمين لا يقالُ له قليل, وذلك مِنَ الآدابِ الْمُثْرِيَةِ الْمُثْمِرَة, وعليك أنْ تَتَذَكَّرَ دائماً مع كلِّ عملٍ مَبْرورٍ أنَّك بارٌّ برسول الله صلى الله عليه وسلم لأنك تعمل بعمله وتتوجه بتوجيهه وتستنير بسنته, وهذا ما يفرحه ويرضيه في برزخه عليه الصلاة والسلام ويترجم صدق محبتك له وهو تفاعل مع بيان الله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). فالاتِّباعُ شاهدُ الحُبِّ الخالصِ.

المطلب الثالث؛ الأدب مع الناس؛ أقول: باخْتِصارٍ ويُسْرٍ: الناسُ شرائحُ, ولِكُلٍّ حَقٌّ مُكْتَسَبٌ, فمنهم؛ الوالدان, ولهما عليك حقُّ البر كلَّ إمكانِك ولا يجوز التقصير فيه _وإنْ قَصَّرا_ وذلك لعظيم فَضْلِهما ورفعة قدرهما عند الله تعالى القائل: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) والقائل: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) ومعنى البر هنا هو الإحسانُ إليهما بالإكرامِ والكلمةِ الطيِّبةِ والإجلالِ باستمرار.  

ومنهم؛ الأرحام, ولهم عليك حقُّ الصِّلةِ ضرورةً لأنَّ فيها نجاتَكَ مِنَ النيرانِ, وضماناً لِدُخولِ الجِنانِ وفي الحديث الصحيح: (لا يدخل الجنة قاطع _أي قاطع رحم_) وفي بيان الله وعيد محذِّر قال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) ومعنى الصِّلَةِ: هو الاستعدادُ الدائمُ لِعَوْنِهِمْ وإِمْدادِهِمْ وحمايَتِهِمْ ورفع الضر عنهم مع زيارتِهم إِكْراماً لا مُجَرَّد إسقاطِ لِلواجِبِ على الْمَظْهَرِ _والصِّلَةُ الْمَذْكورةُ مَقْطوعَة؟؟!ٌ_ فذلك مِنَ النِّفاقِ الاجتماعي الذي اعتادَهُ الكثيرُ مِنَ الجهال يَكْتَفُون بالزيارةِ الخاطِفَةِ تَهَرُّباً ممَّا كَلَّفَهُمْ به الشارعِ الحكيم.

ومنهم؛ الزوجة, ولها الحقُّ الكامل عليك مِنْ مَلْبَسٍ, ومَأْكَلٍ, ومَسْكَنٍ, وكِفايةٍ, وإكرامٍ, وحماية ورعاية وإحسان لقولِه صلى الله عليه وسلم: (إنَّ لِزَوْجِكَ عليك حَقاً)  

ومنهم؛ الجيران, ولهم عليك حقُّ الحِمايةِ والرعايةِ والصيانة ورفعِ الأَذَى عنهم ذلك أنَّ الجارَ حجابك من النار ومدل وصولك إلى الجنان لا سيما وأنَّه نصفُ المجتمع, بل المجتمع كلُّه

نعم! هو بامتياز الذي إذا صلَحَ صَلَحَ المجتمعُ كلُّه, وإذا فَسَدَ فَسَدَ المجتمعُ كلُّه قال تعالى: (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ) وفي الحديث المشهور المحفوظ: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورِّثه) وهل من أحد إلا وهو جار لغيره؟؟

ومنهم الضيف؛ وله عليك حقُّ الإِكْرامِ مهما كان وكيفَما كان, وذلك بالإِقْبالِ عليه وتَحَمُّلِهِ وقضاءِ حاجتِهِ لو جاءَ لحاجَةٍ, وتفريجِ كُرْبَتِهِ لو جاء مكروباً مهموماً, ثم توديعه على أَبْلَغِ مشهد من الإكرام والإحسان بالكلمة الطيبة والتشييع إلى خارج الدار.

وعليه؛ فَلِكُلِّ شرائحِ المجتمعِ حَقٌّ على المسلمِ, ويَعْظُمُ ذلك الحَقُّ بِعُنْصُرِ القَرابةِ, وكلَّما أَدَّيْتَ أمانةَ الشرعِ بالتطبيق كلَّما وَجَدْتَ نفسَك على ميزانِ الأدبِ المطلوبِ مع الحكمةِ الهادية حتى أنَّ بعضَ المفسرين يقولون في تفسير بيان الله تعالى:(يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) أنَّ الحِكْمَةَ هنا هي الشريعةُ, فَمَنْ طَبَّقَ الشريعةَ, فقد أوتي الحكمةَ التي هي وضعُ الشيءِ في مَحَلِّه, وإجماعاً لا يوضع الشيءُ في مَحَلِّه, ولا تؤدَّى الحقوقُ إلى أهلِها, ولا تَتَوَسَّعُ دائرةُ الأَدَبِ مع نِعَمِ اللهِ تعالى بكلِّ صنوفِها إلا بأحكام شرع الله تعالى القائل: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)

ودونَكَ هذا الحديثَ كَمَتْنٍ يُطْلِعُ المسلمَ على أمهاتِ الحقوق لأخيه المسلمِ عامة, ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: (حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ) قيل: وما هنَّ يا رسولَ الله؟ قال: (إذا لَقيتَهُ فَسَلِّمْ عليه, وإذا دعاكَ فأَجِبْهُ, وإذا اسْتَنْصَحَكَ فانْصَحْ له, وإذا عَطَسَ فحَمِدَ اللهَ, فَشَمِّتْه _أي ادع له بقولك يرحمك الله_ وإذا مَرِضَ فَعُدْهُ, وإذا مات, فاتَّبِعْهُ _أي أدِّه حقَّه في أهله تَعْزِيَةً ومُواساةً_)

المطلب الرابع؛ الأدب مع النفس وحقُّ اللهِ تعالى عليك حيالَها مُخالَفَتُها وذلك بِأَطْرِها على الحَقِّ في نظام الفهم عن بيان الله تعالى في الوعد والوعيد: (فَأَمَّا مَن طَغَى* وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)

ختاماً؛ أقول: إنَّ الكلامَ عن الحقوق والآدابِ شرحُهُ يطول, وإنَّ ما تَيَسَّرَ عَرْضُهُ بتوفيق الله تعالى إنما هو خلاصةٌ ضرورية, لكنَّه غيض من فيض, وقليل من كثير لذا فهو غيرُ كافٍ بالنَّظَرِ إلى جُمْلَةِ مَطالِبِ الشريعة الإسلامية بين مجتمع المسلمين بِكُلِّ مقاطِعِهِ, لذا فلا بد مِنْ صحبةِ أهلِ العلمِ وتَلَقِّي الأحكام عنهم مفصلة, فلا غناء لنا عنهم لقوله تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) وكعاجِلَةٍ مُسْعِفَةٍ _إضافةً إلى ما سَبَقَ_ أَنْصَحُ بقراءة كتاب الشمائل لسيدي الشيخ عبد سراج الدين عليه الرحمة والرضوان, ففيه جملةٌ جليلةٌ مِنْ شواهدِ أخلاقِه الحميدة, وشمائلِه الكريمة, وخصالِهِ المجيدة مِنْ شواهد الكرمِ, والِحْلِم, والعَفْوِ, والتربية للفرد والمجتمع, وكذا منهجية العبادة وسلوك التزكية في نظام العبودية الخالصة بمنهجٍ ربانيٍّ جليلٍ مُعَرِّفٍ على اللهِ تعالى بِيُسْرِ العِبارةِ ولُطْفِ الإشارة.

وفقك الله تعالى وسدد خطاك وأعانك على ما كلفك مع تمام العفو والعافية.

ولا تنسني من دعواتك الصالحات.