مميز
EN عربي

الفتوى رقم #6363

التاريخ: 15/04/2020
المفتي:

تعجيل العقوبة دليل محبة الله

التصنيف: علم السلوك والتزكية

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته  كنت في فترة من فترات حياتي نشيط جدا للدين وتلقي العلوم الشرعية ومحافظ على الاذكار والاوراد في الصباح والمساء ولكن عقب هذه الفترة فترة في هذا النشاط وقل عزمي واصبحت مقصرا الى حد كبير في النوافل وانقطعت عن الاذكار والاوراد الان انا مرضت مرض اثر تأثير ملوس في صحتي ونفسيتي 

فهل مرضي جاء بسبب بعدي وجفوتي 

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته, وبعد؛ أيها الأخُ الكريمُ! فإنه لا بُدَّ هنا مِنْ تَفْصيلٍ لطيفٍ أقول: إنَّ مِنْ سُنَنَ اللهِ تعالى الكونية في حَقِّ مَنْ آمَنَ بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم إذا خالفَ فيما كَلَّفَهُ الله تعالى من الفرضِ العَيْنيِّ أنْ يُعَجِّلَ له العقوبةَ مع لُطْفِهِ الدائمِ لِيَرُدَّهُ إليه, فإذا كان تَقْصيرُك فيما فَرَضَهُ اللهُ تعالى عليك ولم تَسْتَدْرك على نفسك بتوبةٍ عاجِلَةٍ لِعِلَّةِ الغَفْلَةِ عن ثوابِتِ مَرْضاةِ اللهِ تعالى بالبُعْدِ عن الأوامرِ والنواهي فإنَّ تَعجيلَ العقوبةِ دليلُ محبةِ اللهِ تعالى لِلْمُبْتَلَى كما في بعض الآثار الموضحة : (إذا أَحَبَّ اللهُ عَبْداً عَجَّل له العُقوبَة)

من جانبٍ آخرَ إنَّ مَسارَ استدراكِ العبد على نفسه في بيان الله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) على المفهومَيْنِ كما أشارَ المفسرون, فَمَنْ غَيَّرَ إلى العملِ الْمَرْضِيِّ غَيَّرَ اللهُ تعالى له الحالَ إلى أَحْسَنِ حالٍ, ومَنْ غَيَّر إلى الأَسْوأ بالمخالفاتِ والمعاصي وُكِلَ إلى ما يَصْدُرُ عنه مِنْ السُّوءِ, لِيُظْلِمَ باطنُه ويَضيقَ صدرُه, ويُبْتَلَى بِصَدأ القلبِ ما يَدْفَعُهُ إلى التغيير الإيجابيِّ بالرجوعِ الضروريِّ إلى اللهِ تعالى.

أما إذا كان التقصيرُ في نوافلِ الأعمالِ, فإنَّ النتائجِ تَخْتَلِفُ, ذلك أنَّها تَتَعَلَّقُ بشأنِ الارتقاءِ صُعُداً في مِعراجِ المعارفِ, فلا رابطَ لها هنا بالعُقوبَةِ بِقَدْرِ ما لها رابِطٌ بالارتقاءِ في سُلَّمِ الدَّرجاتِ والقُرْبِ الآنس.

بقيَ أنْ نَعْلَمَ أنَّه قد يكونُ الْمُبْتَلى مِن السابقين الْمُقَرَّبين الْمُخلصين ما يَعْرِضُ تَساؤلا عند بعضِ الْمُتَحَيِّرين عن وجْهِ الحِكْمَةِ في ذلك؟؟!!  

أقول: إنَّ أَهَمَّ لَفْتَةٍ في هذا الشَّأْنِ أنَّ حِكْمَةَ اللهِ تقتضِي الكَشفَ عن ثُلَّة مِنْ خَواصِّ عبادِه الذين ارتَقَوْا في رحاب الابتلاء بمدلول قولِهِ سبحانه وتعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) لذا تجدُ النبيَّ الأَعْظَمِ صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ ذلك المعنى في هذا الحوارِ الْمَرْوِيِّ عن سيدنا أبي سعيدٍ الخدري رضي الله تعالى فيما أخرجه ابن ماجه والحاكم أنَّه دخلَ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو موعوكٌ _محموم_ عليه قَطيفةٌ, فوضعَ يدَه فوقَ القطيفة, فقال: ما أَشَدَّ حُمَّاكَ يا رسولَ الله!

قال صلى الله عليه وسلم: (إنا كذلك يُشَدَّدُ علينا البَلاءُ, ويُضاعَفُ لنا الأَجْرُ) .. ثم قال: يا رسولَ الله! مَنْ أَشَدُّ الناسِ بلاءً؟ قال صلى الله عليه وسلم: (الأنبياء) قال: ثم مَنْ؟ قال صلى الله عليه وسلم: (الصالحون..) ثم قال: (..ولَأَحَدُهمْ أَشَدُّ فَرَحاً بالبَلاءِ مِنْ أَحَدِكِمْ بالعطاء) إشارةً إلى أنَّ الْمُبْتَلَى القريبَ مِنْ مولاهُ, العارفَ به كلَّما قَوِيَتْ مَعْرِفَتُهُ كلَّما هانَ عليه البلاءُ وعاشَ أُنْسَ ما يُقَدِّرُه مولاه لأنَّه منه, وذلك هو مَقامُ أَهلِ الحُبِّ لِرَبِّ العالمين المالكِ الْمُتَصَرِّفِ في مُلْكِهِ الْمُسَلِّمين لِقَدَرِهِ الْمَشْغُولين بحلاوةِ الحُبِّ الإلهي عن طلبِ رفعِ البلاءِ.

لذا يَجْدُرُ القولُ: أنَّ الصالحين هم القائمونَ بما كَلَّفَهم ربُّهم مِنْ حقوقِ الحَقِّ والخَلْقِ على أَتمِّ حالٍ, فَهُمْ عِبادٌ مُخْلَصونَ لأَنَّهم مُخلِصون في أفعالهم وأقوالهم, فَبِفَهْمِهِمْ عن المولى الحقِّ لا يَشْهَدون سوى تَصَرُّفاتِه وأنوارِ حكمتِه, فَيَنْجَذِبُون إلى ضياءِ حضرةِ قُدْسِهِ, لذا فَهُمْ يَنْعُمونَ بالعَيْشِ في محرابِ قُرْبِهِ, وبذلك لا يزدادون إلا فرحاً كلَّما ازدادَ بلاؤُهم لأنَّه منه سبحانه, وعندهم أنَّ ما كان صادراً من المحبوبِ محبوبٌ, وهو في نَظَرِهِمْ عينُ العافية.