مميز
EN عربي

الفتوى رقم #30162

التاريخ: 13/01/2012
المفتي:

تبت إلى الله ... لكني ما زلت أعاني من خطيئاتي

التصنيف: الرقائق والأذكار والسلوك

السؤال

السلام عليكم شيخنا،لقد كنت منحرفاً عندما كنت طفلاً ولم يعرف أهلي بذلك. كانت أمي تعتقد أني طفلً جيد لأني كنت هادئاً، إلا إني اعتدت على أشياء سيئة من أصدقائي وأقربائي "وكم أشعر بالخزي أمام ربي!". الخلاصة أني حتى وصولي للدراسة الثانوية أو قبل الذهاب إلى الجامعة أدركت أن ما أفعله خطأ كبير لأني اعتدت على القيام بذلك وكنت صغيراً جداً عندما اعتدت تلك العادة السيئة وكنت في كل مرة كنت أعتقد أنني سأذهب إلى مكة عندما أكبر والله سيغفر لي.عندما بدأت الدراسة الجامعية، بدأت أصوم وأصلي الصلوات الخمس مع ممارستي للفواحش وذلك لحديث النبي (صلى الله عليه وسلم) "إذا أذنب أحدكم فذهب وتوضأ وصلى يغفر الله له ولو كانت ذنوبه مثل زبد البحر".وأنا الآن أعد الله (إن شاء الله وسأذهب إلى مكة وهناك سأعده أني سأبيع نفسي إليه كلياً) أنا أعلم أن الإنسان عندما يتوب إلى الله فإنه يغفر الذنوب جميعاً (لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً) وقبل أن ندخل الجنة أيضاً سنغسل من آثامناً تماماً. ومع ذلك يوسوس لي الشيطان أحياناً ويقول: "لماذا حصل معي أن تعلمت أشياء سيئة تعد من الكبائر وهذا ليس ذنبي. لماذا لم ينقذني الله من هذه الخطايا؟ ما الجريمة التي اقترفتها؟ كنت مجرد طفل صغير تعلم هذه العادة السيئة. أنا لا أعرف من ألوم؛ أهلي (الذين اعتنوا بي كثيراً ولم يعلموا كثيراً عن الحياة) أم الله (لا سمح الله ومعاذ الله) أنا أقرأ في كتب العقيدة أن الله تعالى لا يعمل أعمال البشر) لكني لا يمكنني أن أفهم وهذا يقتلني، لماذا؟ لماذا؟ لماذا حصل معي أني مارست وتعلمت كل ذلك وأنا كنت طفلاً؟أنا بحاجة لمساعدتك يا شيخ.جزاك الله الجنة آمين.
استهل جوابي إليك -أخي الكريم- بالتهنئة القلبية للحال الذي اعتراك فإنّه فتح من فتوح التائبين، وأملٌ مُشّرِقٌ مُضيء من آمال المنيبين، ويكفيك أن تعلم بأن مَن يُرَدّيه المولى سبحانه هذا الرداء من لومِ النفس وتأنيب الضمير، فإنما هو عبدٌ ناداه ربه بتجلياته وتنزلاته ودعاه إلى حظيرة قُدسه ليسمع بسمع بصيرته نداءه العلويَّ في أعماق فسحة الروح وهو يرتع في ساحة لطفه. وقد طلب من سيد الخلائق وأحبهم عنده صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: (قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) ليعلن لهم عن حبه إياهم فيقول عز وجل: (إنّ الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) ويمنّ عليهم بقوله: (ثم تاب عليهم ليتوبوا). وإني لأرجوا الله أن يكون في طيّات حرفك وجرس آهتك إشارة القبول ممن يحبَّ أن يتوب على عبادة ويؤنسهم به سبحانه. وطالما أن الله تعالى قد يسر عليك ووفقك إلى تحقيق شروط التوبة والتي هي الإقلاع عن الذنب والندم وعقد العزم على عدم العَود، فواجب عليك أن توقن بقبول الله إياك وجعلكَ في دائرة رحمته. وأما عن وعدك لربك أن تكون كما ذكرت فهذا من قبيل العهد الذي أخذ على ابن آدم، والذي ينبغي عليه تعهده بدوام الطاعة والاستقامة وتجديده كلّما شعر بالتقصير أو تقاعص عن تحقيق واجب أو أداء أمانة واعلم أن صاحب هذا الحال يصدق فيه قوله تعالى: (إنّ الذين اتقوا إذا مَسَّهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون). إذاً؛ فأنت من الآن -وقد رجعت إلى الله- مُعاهد ربك فاثبت على عهدك وسَلهُ التوفيق. أما سؤالك عن فعل الفواحش صغيراً فإن كلّ ما كان منك قبل سِنّ التكليف -والذي هو البلوغ- لا تؤاخذ عليه؛ ذلك أن المسؤول عنك بين يدي الله مَن استرعاهما رعايتك والعناية بك للمحافظة على فطرتك. وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة) وفي الصحيح: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته...". وقال صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله سائل كلّ راع عما استرعاه أحفظ أم ضيّع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته". وأما علة سؤالهم يوم الله بين يدي الله حاصل بحكم كونهما في دار التكليف التي جعلها الله سبحانه مرحلة انتقال إلى دار القرار بسلام وأمان، فلم تكن الدنيا يوماً من الأيام دار استقرار أبداً، ثم إن ربّنا إنما يحاسب على وَصفِ الاختيار، ومِن عدله سبحانه أن بيَّن الطريقين حيث قال: (وهديناه النجدين) وقال سبحانه: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) أي دللناه، ومن عظيم حكمته سبحانه أن أمر ونهى وحَذّر وزَجَر، وجعل الأنبياء مظهر شريعته، فلم يطالبنا فوق الوسع (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) ولم يطلبها سبحانه إلا بما آتاها. قال سبحانه: (لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها). وعليه يفهم قوله تعالى: (وما ربّك بظّلام للعبيد). ومع ذلك فإن أدرك والداك حقيقة ما تقدم فتابا وآبا، وثابا وطلبا الإقالة تاب الله عليهما وأقال عثرتهما بمحض فضله، فإن الله تعالى خلقَنَا لحكمة التعرف عليه والتقرب منه فنبلغ بذلك مبلغ السعادة الأبدية بنور تلك المعرفة عبر العبودية الخالصة لربنا القائل: (وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون..) فلا يأس إطلاقاً مع رحمة الله تعالى. ولا تنس أنك تتعامل مع من يحب أن يرحم وهو أرحم الراحمين الذي قال: (ورحمتي وسِعَت كل شيء) وهو سبحانه يحب أن يرحم المسترحمين، ويحب إجابة السائلين. فبابُه مفتوح وتجلياته شاملة، وتنّزلاته متلاحقة، فطِب نفساً بما وفّقت إليه واعلم أنّ كثيراً من كبراء السلف كانوا من المسرفين على أنفسهم ثم غَدوا بالإنابة إلى الله تعالى من أهل الاجتباء حتى تبوؤوا أعلى مقامات العرفان والدلالة على الديّان. وغدوا مثالاً يُحتذى في الأسوة لتهذيب النفوسِ وتزكية العقول، واستنهاض الهمم كالإمام الفضيل بن عِياض ومالك بن دينار وعبد الله بن المبارك وبشر بن الحارث. تأمّل معي قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً). أقول لو خُتم الكلام على ذلك لماتَ المسرفون على أنفسهم كمداً ولكن تابع معي؛ (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً). وعليه فكلُّ ما أسلفت من عمل تخشى عاقبته قد غُفر بإذن الله وذلك بما قدّمنا من توفر شروط التوبة لا سيما شدة الندم بل تأمّل معي عظيم الرحمة حينما يقول: (فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ..) كيف أنّ الله لم يقبل التوبة النصوح وحسب بل ويكافئ عليها فهل هنالك فسحة فضل أوسع من ذلك؟؟. تاب أحدهم مِن اللّهو والغناء والشراب، فعانقه ابن مسعود الصحابي الجليل، ولما سُئل عن مثل هذا الاهتمام قال: كيف لا أحبُّ من أحبَّه الله سبحانه مشيراً إلى قوله تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين). وفقك الله تعالى وأيّدك بأسباب التيسير للعمل بما يُرضيه، وجعلك هادياً مهدياً دالاً على طريقه القويم بالقول والعمل آمين.