مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 19/10/2007

منهج امتلاخ الفساد والإفساد من المجتمع

أما بعد: فياد عباد الله، من المعلوم أن أسباب الفساد في المجتمعات مهما تنوعت إنما تنحصر في عدم شعور الإنسان بوجود رقابة تلاحقه بالجزاء، هذا هو السبب للفساد أياً كان نوعه عندما يستشري في المجتمع

ولقد شعر علماء الاجتماع بهذه المشكلة، وبحثوا عن علاج بها، فعثروا على علاج المؤيدات القانونية، وجعلوا من القوانين الرادعة وسيلة لدرء الفساد، ولمنع الإنسان من الدخول في ساحة الإفساد في المجتمع بأنواعه المختلفة، ولكن الذي ظهر وثبت أن هذه الوسيلة لم تُجْدِ نفعاً، وهي لا تجدي في مستقبل الأيام أيضاً أي نفع؛ لأن الذي يرسم القوانين الجزائية إنما هو الإنسان، والذي يفسد في الأرض هو الإنسان، وما أيسر للإنسان المفسد أن يتحايل على الإنسان القانوني الذي يرسم من القوانين مؤيدات جزائية، ما من قانون يُرْسَم لدرء الفساد إلا وتجد في اليوم الثاني من استخراج وسيلة للتعالي فوق هذا القانون، وللمرور بجنبه دون أي نظر إليه أو التفات إليه

وجاء الفلاسفة فقالوا: إن الرادع الأوحد الذي يردع الإنسان عن الفساد في المجتمع إنما هو الضمير، فالضمير إذا استيقظ هو الذي يردع صاحبه عن الفساد، عن اغتصاب الحقوق، عن التحايل على حقوق الآخرين، عن التربص بها بأي وسيلة من الوسائل. ونَظَرَ الناسُ إلى هذا العلاج - علاج الضمير - ورأوا أنه علاج خُلَّبي لا معنى له قط، ذلك لأن الضمير ليس إلا مرآة لنفسية صاحبه، ليس الضمير شيئاً رادعاً الإنسان عن الفساد، أو يمنعه عن السلوك في طريق ما، أو يدفعه إلى السير في طريق ما، وإنما الضمير هو الشعور، وهو بمعنى آخر مرآة لنفسية الإنسان، نفسية زيد من الناس بالرعونات وبالرغبة في استلاب حقوق الآخرين، وبالرغبة العارمة في التعالي عليهم، فإن الضمير لهذا الإنسان ليس أكثر من مرآة لنفسيته هذه، ولقد علم العقلاء جميعاً أن اللص إنما يمارس لصوصيته بدافع من الضمير الذي يدفعه إلى ذلك، والمتحايل على حقوق الآخرين باستلابها والعمل على اقتناصها إنما يندفع إلى ذلك بسائق من ضميره، فضمير اللص يدفعه إلى السرقة، وضمير المرتشي يدقعه إلى الرشوة، وضمير الذي ينهب ويسلب الحقوق يدفعه إلى ذلك كله، وتبين أخيراً أن هذه الوسيلة لا تجدي نفعاً، ولا تحقق فائدة، ولا تطهّر المجتمع من الفساد شروى نقير

إذن ما الوسيلة التي بها يزول الفساد من المجتمع، والتي بها يتعالى الإنسان عن الوقوع في دركات الإفساد في مجتمعه والتربص بإخوانه؟ الاستقراء التام الصحيح - أيها الإخوة - عل على أنه ليس ثمة إلا وسيلة واحدة، هي وسيلة مراقبة الله عز وجل بعد الإيمان بالله سبحانه وتعالى، يُغْرَس الإيمان بالله أولاً في طوايا العقل، ثم إن هذا الإيمان يقوى ويشتد عوده إلى أن يهيمن على مكمن الوجدان في النفس والقلب، يأتي بعد ذلك دَور رقابةِ الإله سبحانه وتعالى

هذا هو العلاج الأوحد لامتلاىخ الفساد بكل أنواعه من المجتمع، يقرأ الإنسان الذي آمن بالله سبحانه وتعالى خطاب الله عز وجل القائل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد: 57/4] آمن بالله وأبقن أن هذا كلام الله عز وجل من خلال هذا الذي قرأ أن الله يراقبه أينما كان {سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرعد: 13/10]. قرأ قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنا الإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد [ق: 50/16-18]. هذا الإنسان آمن بالله أولاً، وغُذِّي إيمانه بماء التربية ثانياً، حتى هيمن إيمان العقلاني على مكمن الوجدان في قلبه، ثم قرأ هذه الآيات وعلم أنه مُراقَب من قِبَل الله عز وجل، أنَّى له وهل يستطيع أن يتحايل على مراقبة الله كما كان يتحايل على مراقبة القانون والقانونيين؟ لا يستطيع، بالأمس كان من اليسير عليه أن يتحايل على القانون؛ لأن واضعي القانون بشر مثله، كما يستطيعون أن يقيدوه بقوانينهم يستطيع هو أن يتحايل على قوانينهم بقدراته، والإنسان أخو الإنسان، وهذه الظاهرة معروفة كلكم يعرفها

إذن ثبت لدى التجربة، وبحكم المنطق، ولدى الاستقراء أن الذين يكرهون الفساد، ويتأففون منه ويبحثون عن مخرج من هذا الفساد لا سبيل لهم إلا تغذية الإيمان بالله عز وجل، ومن ثَم تغذية مراقبة الله سبحانه وتعالى

أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم مظهر من مظاهر هذه الحقيقة، وتجربة من التجارب التي مرت في التاريخ لإثبات هذا المعنى، كيف كان الواحد منهم قبل الإسلام؟ أستطيع أن أقول ولا أبالغ: كان الكثيرون منهم مظهراً لشتى أنواع الفساد، ولشتى أنواع الانحراف عن السلوك الإنساني، ولا أقول عن السلوكات القانونية، ولم تكن قوانين ترد عنهم آنذاك، ولكن ما الذي صيرهم إلى النقيض من ذلك؟ ما الذي صيرهم بعد أن كانوا مظهراً للفساد والإفساد إلى رقباء للصلاح والإصلاح؟ هذه المراقبة؛ مراقبة الله سبحانه وتعالى هي التي جعلت الصانع يخشى الله عز وجل في صنعته فلا يفسدها، هي التي جعلت الذي وُكِّلَت إليه مراقبة أمة مراقبة ثغر جعله أميناً على هذا الذي عُهِد إليه، وفياً لهذا الذي طُلِب منه، إنها ليست مراقبة قانون، وليست فاعلية ضمير، ولكنها رقابة الله سبحانه وتعالى التي أينعت بين جوانحه عن طريق إيمانه بالله سبحانه وتعالى، وما تحقق بالأمس من خلال الأجيال المتصرمة، وما شهد به التاريخ القصي والقريب هو الحقيقة التي تفرضها على المجتمعات وعلى الأمم في هذا العصر أيضاً أيها الإخوة

نحن نشكو اليوم من أنواع كثيرة من الفساد، كل الفئات تشكو من الفساد، ولا نستطيع أن نتهم أحداً بأنه مُعْرِض عن هذا الفساد ولا يبالي به، لا، كل فئاتنا في مجتمعاتنا من قمة المسؤولية إلى القاعدة الشعبية تشكو الفساد وتبحث عن مخرج من هذا الفساد، لكن كثيرون هم الذين لم يعثروا - ولعل في الناس من لا يريدون أن يعثروا - على المنهج الأوحد الذي يطهر المجتمع من الفساد والإفساد؛ إنه التربية الإيمانية التي ينبغي أن يؤخذ بها الجيل، التربية الإيمانية الإسلامية الحقيقة، ولا أعني بها التربية التقليدية الشكلية التي لا جذور لها، هذه التربية عندما توجد يؤخذ بها الجيل فإن الفساد عندئذ يضمر، وإنه يذوب، ولا يزال يذوب إلى أن يختفي بإذن الله سبحانه وتعالى

تنظر إلى الموظفين في دوائرهم، وتتأمل في هؤلاء الذين تخرجوا من دورات تربوية إيمانية إسلامية، وإذا بالواحد منهم يؤدي وظيفته التي عُهِدَت إليه على خير منوال، لا لأن القانون يلاحقه، هو يستطيع أن يتحايل على القانون، ولكن الله يراقبه {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد: 57/4]

نعم - تنظر إلى هؤلاء العمال الذين يملؤون المصانع في بلادنا، وكم وكم رأينا فيهم مظاهر الإهمال ومظاهر الفساد، ولربما مظاهر الإفساد في كثير من الأحيان عمداً، ولكنك عندما تنظر فتجد هؤلاء العمال قد تخرجوا من هذه الدورات التربوية الإسلامية عن طريق وزارة التربية - أجل - تنظر فتجد أن الواحد منهم يعكف على عمله وهو في منتهى الأمانة لهذا الذي عُهِدَ به إليه، لا خوفاً من القانون، ولا غيرة على العمل وصاحب العمل، لكن خوفاً من الله سبحانه وتعالى الذي يراقبه اليوم، ويأخذ بناصيته غداً

تنظر وتتأمل إلى الذين عُهِد إليهم بالأنظمة الاجتماعية في الشوارع - وما أكثر مسؤوليات الأنظمة المختلفة في الشوارع هنا وهناك - وتبحث عمن يفسد، تبحث عمن يمد يده لرشوة فلا تجد. لماذا؟ لأنهم رُبُّوا في ظلال الخوف من الله، رُبُّوا في ظلال الإيمان بالله عز وجل، رُبُّوا في ظلال مراقبتهم لله ومراقبة الله سبحانه وتعالى لهم، تشبعت أفئدتهم وعقولهم بقوله سبحانه: {سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ، لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [الرعد: 13/10-11]

هذا هو الدواء، وهذا هو العلاج، وهذا العلاج ينطق به التاريخ، وينطق به أصحاب رسول الله (ص)، وتنطق به معالم أخّاذة في تاريخنا العربي والإسلامي، ولكن الوقت يضيق عن استعراض هذه المعالم

يا عباد الله. ديننا الإسلامي يا عباد الله ليس خطاً موازياً للأنشطة الدنيوية، من قال هذا؟ ليس الدين خطاً يسير هكذا، والدنيا خط آخر يسير هكذا، وهما خطان متوازيان لا يلتقيان في بداية، ولا يجتمعان في نهاية. من قال هذا؟ الدين جاء من أجل الدنيا، والدنيا جاءت من أجل الدين، وبينهما تفاعل تام، ولا يوجد مجتمع رُبِّي أفراده التربية الإسلامية الإيمانية الحقيقية إلا وتنظف هذا المجتمع من كل أنواع السوء، نَظُف هذا المجتمع من الإفراط والتفريط والغلو، نَظُف هذا المجتمع من الفساد بكل أنواعه وأشكاله، وتجلت الأنشطة الدنيوية على خير منوال، وازدهرت النشاطات التجارية، النشاطات الاقتصادية، النشاطات الاجتماعية، النشاطات الثقافية والعملية والسياسية كلها دون أن تتسرب إليها شائبة من شوائب الإفساد

هذه الحقيقة معروفة، وإذ كنا نعرف هذه الحقيقة فما لنا لا نلتفت إلى مبدأ التربية الإيمانية الإسلامية في مجتمعاتنا؟ وما لنا لا نُحَمِّل مسؤولي التربية في مجتمعاتنا، ما لنا لا نُحَمِّلهم مسؤولية الفساد الذي يتم؟ مسؤولية اللا مبالاة التي تتم؟ إنْ في دوائر الدولة أو في المصانع أو في المتاجر أو في الشوارع والأزقة، المسؤولية تكمن هناك. هذه حقيقة أتمنى لو أن إنساناً يناقشني فيها ليلفت نظري إلى خطأ قد وقعت فيه في هذا البيان، أو إلى ثغرة ناقصة في هذه الحقيقة، ولكن أحداً لا يستطيع أن يناقش في هذا الذي قرره الله عز وجل

القوانين التي وضعها البشر ما أيسر أن يتحايل عليها البشر، والضمير هو مرآة العمل الإنساني، ضمير اللص إنما يتلألأ فيه معنى اللصوصية، ضمير المفسد إنما يفيض بمعاني الإفساد وصوره، وضمير الإنسان الذي آمن بالله عز وجل يفيض مراقبة لله، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم

تحميل



تشغيل

صوتي