مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 17/08/2012

عبادة بلا عبودية لا تنفع صاحبها

تاريخ الخطبة


‏‏‏الجمعة‏، 28‏ رمضان‏، 1433 الموافق ‏17‏/08‏/2012‏

عبادة بلا عبودية لا تنفع صاحبها

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:

فلقد سألني أحدهم كيف السبيل إلى أن نعلم أن الله عز وجل قد تقبل منا صيامنا وقرباتنا وقيامنا ومناسكنا على الرغم مما نعلمه من التقصير الكبير الذي حُمِّلْنَاه، هل من سبيل إلى ذلك؟ ولعل من الخير يا عباد الله أن أفصل الموجز الذي أجبت به عن هذا السؤال الذي ذكرته لكم، ولعل هذا المقام خير مناسبة للتفصيل للإجابة عن هذا السؤال. أيها الإخوة: إن الله عز وجل لا يحتاج إلى شيء من عبادات عباده، لا يحتاج إلى صيام يصومونه ولا إلى صلاة يقيمونها ولا إلى مجالس ذكر ولا أن يتجهوا حجاجاً إلى بيت الله الحرام، هو ليس بحاجة إلى ذلك، وصدق الله القائل:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر: 15].

ولكن الله يحب من عباده أن يتحققوا بهوية العبودية الكامنة في كياناتهم، يحب لهم أن يتحققوا بمعنى مملوكيتهم لله سبحانه وتعالى، بصفة الذل، المسكنة، الفقر، الاحتياج في كل الحالات والتقلبات إلى الله سبحانه وتعالى، ويحب لهم أن يُفَعِّلُوا هذه الهوية في حياتهم وفي سلوكهم، فما هو السبيل التربوي لإيقاظ مشاعر هذه العبودية الكامنة بين جوانحهم، السبيل الذي شاءه الله عز وجل هذه العبادات، الصيام يوقظ مشاعر الذل والمملوكية والعبودية لله عز وجل، كذلكم الصلاة، كذلكم سائر العبادات المتنوعة. فإذا توج الإنسان عبادته أياً كانت بالضراعة لله سبحانه وتعالى – الضراعة الحقيقية لا التقليدية – وأعلن عن عجزه وضعفه وذله ومسكنته لله سبحانه تعالى فلاشك أن الله عز وجل يقبل، هذه حقيقة لا مرية فيها، بل إنني أقول لكم: إن التائه عن صراط الله سبحانه وتعالى والموغل في المعاصي إذا استيقظت بين جوانحه مشاعر عبوديته لله ومملوكيته وذله لله سبحانه وتعالى فراح يلتصق بأعتاب الله عز وجل باكياً متضرعاً يشكو إلى الله عجزه، يشكو إلى الله عز وجل أنه يريد أن يستقيم ولكن نفسه الأمارة تتغلب عليه، يريد أن يسير على صراط الله لا يلتوي يميناً ولا شمالاً ولكن شهواته ترده وتصده، إذا كانت هذه هي حاله واستمر على هذا الوضع متضرعاً شاكياً عجزه إلى الله عز وجل وهو منصرف عن الطاعات، موغل كما قلت في المعاصي فإنه يرحل إلى الله عز وجل مغفوراً له، نعم هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن نعلمها يا عباد الله. العبادات - ولاسيما الصوم - سبل تربوية لإيقاظ حقيقة مملوكية الإنسان لله أي لإيقاظ هويته، لإيقاظ عبوديته لله عز وجل، فإذا استيقظت في كيانك مشاعر عبوديتك لله عز وجل وساقتك إلى رحابه مستجدياً، مستغيثاً، متضرعاً، تسأله اللطف، تسأله المغفرة والعفو، تشكو إليه عجزك، فإن الله سبحانه وتعالى يقبل شكواك هذه ويقبلك من التائبين ويقبلك من عباده السعداء يوم القيامة، هذا هو جزء من الجواب عن السؤال الذي طرحه أحدهم عليّ، ولكن ينبغي أن نعلم أيها الإخوة أن من تتمة الإجابة عن هذا السؤال أن الإنسان المتعبد السائر على صراط الله، المتنسك الذي تتنوع حياته ما بين صلاة وصوم وذكر وتلاوة لكتاب الله عز وجل مبتعداً عن المحرمات ولكن لسبب ما لم توقظ عبادته مشاعر عبوديته لله عز وجل، بقيت حقيقة عبوديته، هويته، مملوكيته، ذله لله تعالى بقي ذلك كله مختنقاً أو راقداً، ماذا عسى أن تنفع هذا الإنسان طاعته؟ ماذا عسى أن تنفع هذا الإنسان عباداته؟ الحكمة من الصوم أو يوقظ الصوم بين جوانحك مسكنتك، ضعفك، عجزك لله عز وجل، والحكمة من الصلاة وأنت تخاطب ربك قائلاً: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5] أن تستيقظ مشاعر انكسارك، مملوكيتك لله، فإذا لم تكن عاقبة العبادات التي وُفِّقْتَ لها إلا أنها زادتك استكباراً، زادتك إعجاباً بنفسك فلتعلم أن صلاتك بل عباداتك هذه لا تقربك إلى الله شروى نقير، ولتعلم أن معصية ذلك العاصي التي ساقته إلى رحاب الله والتي جعلته يئن والتي جعلته يستمطر العفو والمغفرة من الله، تلك المعصية التي ساقت صاحبها إلى رحاب الله بالذل والانكسار خير من طاعة هذا الإنسان. وأقول لكم بحق: إن أنين العاصي ألماً من معصيته أحب إلى الله عز وجل من تسبيح المرائي المعجب بتسبيحه، ينبغي أن نعلم هذه الحقيقة، وإذا أدركنا ذلك فلنعلم أن كثيراً من العصاة والتائهين والمارقين ما كانت معاصيهم وانحرافاتهم في الحقيقة إلا سُلَّمَاً للبلوغ إلى مرضاة الله، كيف؟! كيف تكون المعاصي سُلَّمَاً لبلوغ مرضاة الله؟ الجواب هو ما قاله ابن عطاء الله السكندري: رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً. الإنسان الذي لا يحب المعصية لكن نفسه تقوده إليها، لا يحب أن يوغل في التيه والشهوات الآسنة لكن نفسه الأمارة تسوقه إليها، هذا الإنسان ملكوم، هذا الإنسان يعاني من ألم يسوقه إلى الله عز وجل يشكو به حاله.

عباد الله: أعلم رجلاً من ألي الفتوة المتشطرين، موغلاً في المعاصي وفي مقدمتها الشرب، ولقد علمت فيما بعد أنه كان إذا أظلم الليل وسكن وسكن كل من فيه دخل غرفته الخاصة به وأغلق الباب وراح يناجي الله عز وجل بأسلوب فتوته وها أنا أرجمها إلى العربية الفصحى، كان يخاطب الله خالياً في جنح الله يقول له: أي رب هذا الجدار الذي بيني وبينك متى تنسفه، هذا الجدار الذي يحجبني عنك متى تنسفه حتى أراك، لعلك تنتظر أن أكون أنا الذي يزيله؟ أنا عاجز يا رب، أنا ضعيف وأنت تعلم ذلك، أنا لا أملك شيئاً، إنني أنتظر بقوتك، برحمتك أن تنسف هذا الجدار الحائل بيني وبينك، ولعل مشاعر السكر كانت تطوف برأسه وهو يناجي ربه بهذا الكلام. معصية ساقته إلى رحاب الله، معصية ساقته بالشكوى إلى الله فماذا قال له الله؟ قال له لبيك، نُسِفَ الجدار أخيراً بينه وبين المولى سبحانه وتعالى وتحول ذلك الإنسان التائه الموغل في المعاصي المرتكب للأوزار الذي لا يسقط كأسه عن يده تحول إلى أصلح الصالحين، تحول إلى أفضل المقربين، هذه الحقيقة أريد منكم أيها الإخوة أن نجني ثمارها تربية هامة لنا نحن، هذه الحقيقة التي أوضحها لنا الله وبينها لنا رسول الله وصدقها التاريخ تدعونا إلى أن نتأدب مع عباد لله جميعاً، تدعونا إلى أن لا نمد ألسنتنا بقالة السوء إلى إنسان رأيناه فاسقاً عاكفاً على المعاصي والأوزار، نظرنا إلى أنفسنا فوجدنا أننا مبرؤون من ذلك، ما ينبغي أبداً أن تحملني هذه المقارنة على أن أتباهى باستقامتي وأن أنظر نظرة شزراء إلى هذا العاصي التائه عن الله عز وجل، ما ينبغي أن أصفه بالصفات السيئة، ما ينبغي أن أتألى على الله عز وجل أنه حشو جهنم، ما ينبغي أن أقول إنه كافر وتائه وإنه غداً سيحشر مع التائهين ولسوف يكون عقابه جنهم وبئس المصير، لا يا عباد الله، أنت رأيت ظاهراً وخفيت عنك البواطن، لعل هذا شأنه مثل شأن ذلك الرجل ذي الفتوة المتشطرة الذي كان مرتكباً لسائر المعاصي والأوزار ثم إنه أصبح من أصلح الصالحين، أتعلم الغيب! أتدرك هذا! كم وكم من أناس رأيناهم في حياتهم التي عاشوها تائهين شاردين عن صراط الله ولكن تبين لنا فيما بعد أنهم قد خُتِمَ لهم بخاتمةٍ طيبةٍ يغبطهم عليها الصديقون، يقول أحدهم أيها الإخوة وكان له صديق أيضاً مسرف على نفسه يقول: توفي صديقي هذا المسرف على نفسه الموغل في المعاصي، رأيته في الرؤيا، قلت له ما فعل الله بك؟ قال أوقفني بين يديه وقال بم جئتني أي أين هي الطاعات التي جئتني بها؟ قلت يا رب أنا عبد، أنا مملوك، أنا لا يتأتى مني شيء، أنا جئت أطلب من سيدي ومولاي ومالكي، أنا عبدك يا رب، أنا مملوكك يا رب، أنا لست مالكاً لشيء، جئت بفقري وذلي وانكساري عرياً عن كل شيء إلا من الأمل برحمتك فغفر لي. ما أدراك أن هذا الذي تسيء الظن به سيكون مصيره كمصير هذا الإنسان، نعم نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ولكن نحسن الظن، فما بالك بمن يطلق أحكام الكفر على من لم يرهم ولم يجلس إليهم ولم يتحدث معهم. فلان من الناس يُسْألُ: هل يجوز أن نعلن فلاناً من الناس وقد مات ورحل إلى الله؟ قال: نعم يجوز لأنه كافر. هل رأيته يا أيها المفتي؟ لا لم أره، هل جالسته؟ لا. هل تذاكرت معه شؤون العقيدة؟ لا. إذاً فبأي حجة تفتي بجواز لعنه وبالحكم بكفره، ألا تعلم أن هذه الفتوى التي تصدرها هي فتوى أيضاً تقدمها للناس أن يتوجهوا بها إليك أيضاً، من حق أي واحد منهم أن يفتي الناس بلعنك أنت أيضاً نظراً إلى أنه يحكم بكفرك وهو لم يرك ولم يجلس إليك ولم يسمعك وهكذا يصبح مصدر الفتاوي الرغبات والأمزجة، وعندما تصبح الأمزجة هي مصدر الأحكام والفتاوى المتنوعة فلتنظر إلى مصير الوحدة الإسلامية كيف تتصدع وكيف تصبح صخرة الوحدة الإسلامية جذاذاً بمطرقة هذه الفتاوي العجيبة.

يا عباد الله: رب رجل رأيناه من الناسكين كانت عاقبته على النقيض من ذلك، ورب رجل رأينا حياته حياة التائهين والشاردين والمرتكبين فكانت عاقبته اللطف والمغفرة والرحمة، نعم أمسك عليك لسانك يا هذا وليسعك بيتك وابك على خطيئتك، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

أم بعد فيا عباد الله:

أرسل إليَّ أحدهم من بعيد يقول: أنت تصف سوريا بكل مناسبة بالدولة الإسلامية وها هو ذا مسؤول كبير عندكم في سوريا قد أعلن أن النظام السوري نظام علماني فكيف تقول هذا؟ وأنا أرسل إليه الجواب عن سؤاله هذا من فوق هذا المنبر من هذا المكان الطاهر الأغر، سُئِل رئيس الجمهورية العربية السورية بمناسبة بموقف رسمي أمام جمع كبير من الناس هل سوريا دولة علمانية؟ أجاب قائلاً نحن مسلمون ولا نتعامل مع هذا المصطلح ولكنا نقرر ما يقرره الإسلام من حرية الرأي وحرية المعتقد فهذا هو شكل الدولة الإسلامية مترجماً من مظهره الرسمي الذي يوضح هوية هذه الدولة ومكانتها الباسقة في الإسلام، أما الكلمة التي سمعتها فهي رأي لراءٍ والإسلام يقرر حرية الرأي والمعتقد أو لعله يحلم بهذه الرغبة وله ذلك، ذلك شيء، وهوية الدولة الإسلامية إنما يقررها المسؤول الأول عنها، إذاً فأقول لتجار الدماء لا تلتقطوا هذه الكلمة ولا تجعلوا منها غطاءً ليبرر جرائم القتل – قتل البرآء – السفك، التخريب، التمثيل، التحريق إلى آخر ما هنالك من الجرائم، لا تلتقطوا هذه الكلمة لتجعلوا منها مبرراً لجرائمكم كي تستطيعوا أن تسموها بسمة الجهاد في سبيل الله، لن يتأتى لكم ذلك. لو أنك نظرت إلى العالم من أقصاه إلى أقصاه لن تجد دولة تترجم الإسلام الذي ابتُعِثَ به رسول الله والذي احتضنه أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم والذي ورثه التابعون ومن تبعهم، لن تجد دولة تترجم الإسلام تماماً حق الترجمة كما يُترجَمُ هذا الإسلام في هذه البلدة فوق هذه الأرض المباركة بياناً وسلوكاً والتزاماً، على أن الناس كانوا ولا يزالون خطائين، كان والناس ولا يزالون غير معصومين حاشى الرسل والأنبياء، نعم هذه هي الحقيقة فهل يتأتى لإنسان أياً كان أن يغمض عينيه ثم يتخيل ويتخيل ليأتي بحكم مفاده أن سورية دولة موغلة في الكفر ومن ثم فينبغي أن نتوجه إليها بالجهاد في سبيل الله، لا يا أخي لن تجد هذا الغطاء، لسوف يتمزق هذا الغطاء بيديك ولسوف تبقى الهوية الإسلامية لهذه البلدة ناصعة متلألئة واضحة.



تشغيل

صوتي
مشاهدة