مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 19/03/2010

ولا تنسوا الفضل بينكم

‏‏الجمعة‏، 04‏ ربيع الثاني‏، 1431 الموافق ‏19‏/03‏/2010


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


جزءٌ من آيةٍ في كتاب الله سبحانه وتعالى استوقفني طويلاً. أما الآية فقول الله سبحانه وتعالى  )وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[ [البقرة: 237] وأما الجزء من الآية فقول الله عز وجل )وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ[ هذه الجملة من هذه الآية العظيمة لو أردنا أن نتحدث عما تتضمنه من المعاني والمبادئ لضاق الوقت ولربما أُنْفِقَ في ذلك مجلد كامل ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله


تعالوا نقف على ملخص ما تدل عليه هذه الجملة أو هذه الفقرة من الآية القرآنية) وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ[  يحب الله سبحانه وتعالى أن تمتد بين عباده آصرة الأُلفة، آصرة المحبة والود ومن ثم آصرة التعاون. ولكن فما السبيل الذي يسَّرَهُ الله سبحانه وتعالى لتحقق هذه الآصرة ولامتدادها بين عباد الله جميعاً؟؟


سبيل ذلك ما قد شاءه الله سبحانه وتعالى من أن لا يكون الإنسان أياً كان –حاشى الرسل والأنبياء– معصوماً عن الأخطاء والعيوب والآثام. هكذا قضى الله سبحانه وتعالى ببالغ حكمته ألا يكون في الناس – حاشى الرسل والأنبياء – معصوم عن الأخطاء والآثام والعيوب. كما شاء الله سبحانه وتعالى أن يقسم بين عباده المزايا والمبادئ الأخلاقية السامية، شاء الله عز وجل أن يجعل منها قسمةً تشيع فيما بينهم جميعاً. ومن ثم فقد فَوَّتَ الباري سبحانه وتعالى بحكمته الباهرة على الإنسان – أياً كان – أن يتباهى على أنداده وإخوانه بالعصمة. لا يمكن أن يتأتَّى له ذلك لأن الناس كلهم كما قال المصطفى خطاؤون وخير الخطائين التوابون.


كذلكم لا يتأتى للإنسان أياً كان – وأنا أستثني دائماً الرسل والأنبياء – أن يتباهى بمزية من الالتزام والاستقامة على المبادئ الأخلاقية متعه الله عز وجل بها. لا يتأتى له أن يتباهى على الآخرين بذلك لأنه كما يشعر بأن الله قد أنعم عليه ببعض هذه المزايا فإنه ينبغي أن يعلم أن الآخرين يتمتعون بمزايا أخرى فاتته ولم يتمتع بها. ومن ثم فلا يتأتى للإنسان أن يقف فيفَضِّل نفسه على عباد الله جميعاً لأنه مستقيم على أوامر الله غير شاردٍ عن صراط الله عز وجل. من هو هذا الذي يزعم أن ذلك. فَوَّتَ الباري عز وجل هذه الفرصة على عباده جميعاً. فَوَّتَ الله سبحانه وتعالى الفرصة على عباده جميعاً أن يتباهى أحدهم بأنه يتمتع بخلق فاضل لم يتمتع به الآخرون. إن كان قد تمتع بخلق فاضل حسن فقد أكرم الله عز وجل الآخرين من الأخلاق الفاضلة والمزايا الحميدة بما لم يتمتع به هو. وسبحان من وزع المنائح بين عباده كما وزع فيما بينهم الابتلاءات بالنقائص


 وهكذا فإنني عندما أنظر إليك لابد أن أفضِّلَكَ على نفسي لأنني أنظر فأجد أنك تتمتع بمزايا حميدة لم أتمتع بها، ولأنني أتأمل فأجد أنك وُقِيْتَ من كثيرٍ من الانحرافات ابتُلِيْتُ أنا بها، وكذلك أنت إذا نظرتَ إليَّ ستفضلني على نفسك لأنك ستجدني قد أُكْرِمْتُ ببعض المزايا التي فاتتك وفاتك التحلي بها ولأنك ربما تجدني معافى من بعض النقائص التي قد ابتُلِيْتَ بها، وهكذا يتبادل الناس الفضلَ فيما بينهم.


 فهذا ملخص معنى قوله عز وجل )وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ[ لاَ تَنسَوُاْ أنني قد مَيَّزْتُ كلاًّ منكم على الآخر.


 لاَ تَنسَوُاْ أن الواحد منكم إذا حَمِدَ الله على نعمة قد أكرمه الله بها من حسن خلق لاَ تَنسَوُاْ أن إخوانكم يتمتعون بأخلاق أخرى لم تُمَتَّعوا أنتم بها.


 ولاَ تَنسَوُاْ أن إخوانكم الذين تتأملون في أحوالهم إن رأيتم أن فيهم من قد انحط في بعض الأوزار فلتعلموا أنكم قد ابتليتم بمثل هذه الأوزار أو بعضٍ منها هكذا نقف أمام معنى جليلٍ عظيم لقوله سبحانه وتعالى )وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُم[


 بعد أن قال: )وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[ هذه هي الوسيلة التي شاءها الله عز وجل لأن تمتد من خلالها آصرةُ الألفة، آصرة المودة ومن ثم آصرة التعاون والتآلف بين عباد الله جميعاً


 عباد الله: هذا الذي أقوله لكم سُنَّةٌ من سنن الله عز وجل نقرؤها في محكم تبيانه، لا يُستثنى من هذه السنة التي ذكرت لكم خلاصة عنها إلا المستكبرون. فالمستكبر هو ذاك الذي أَوْدَى استكباره بكل ما قد يتمتع به من المزايا والمحامد. المستكبر لا يمكن أن تلتقط له مزية حميدة قد تكون شفيعاً له يوم القيامة. وصدق الله القائل: )سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً[ [الأعراف: 146].


 هذا الذي يَذْكُرُهُ لنا بيان الله عز وجل من خلال جملة صغيرة في آيةٍ عظيمة يضعنا أمام مبدأ، يأخذنا الله سبحانه وتعالى به في مجال الأخلاق الحميدة. يطلب الله عز وجل مني ومنك إذا تأمَّلَ كلٌّ منا في واقع إخوانه، في سلوكاتهم، يطلب الله عز وجل منا أن نتبين فضائلهم كي نقتدي بها وأن لا نبحث ونلتقط عثراتهم لكي نمد ألسنة الاستعابة عليهم بها.


 هذا هو المعنى – بل معنىً – من المعاني البعيدة التي يخاطبنا الله سبحانه وتعالى بها


 عندما تتعامل مع إخوانك - تتعرف عليهم، تحتك بهم، تتعامل معهم - ابحث عن المزايا الصالحة التي متعهم الله بها مما قد فاتك التمتع به هذا هو الذي يفيدك، وإياك أن تشيح بوجهك عن المزايا التي يتمتع بها أخوك هذا – وإنه ليتمتع من ذلك بمزايا كثيرة – لتلتقط الهنات ولتلتقط العيوب التي انحط فيها، لو كنت من الملائكة المعصومين لكان لك ذلك. أمَّا وأنت تعلم أنك واحد ممن صَدَقَتْ عليه سنة رب العالمين سبحانه وتعالى التي عبَّر عنها المصطفى بقوله )كل بني آدم خطاء [والتي عبَّر عنها البيان الإلهي بقوله )وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً[ [النساء: 28] فليس لك أن تتمطى على مستوى الملائكية في حق نفسك ثم تضع المناظير المكبرة أمام عينيك لتلتقط بها عيوب وهنات إخوانك.


 وإنه ليطيب لي أن أستشهد في هذا المقام بما قاله الإمام الشافعي شعراً وإن كان في الفقهاء من كَرَّهُوا الاستشهاد بالشعر في مثل هذا المقام


لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ      فكلك عورات وللناس ألس


 هذه الحقيقة يُبَصِّرُنَا بها كتاب الله، وهذا من الأخلاق الإنسانية الحميدة التي تقف من الأهمية ربما فوق مستوى كثيرٍ من الطاعات والعبادات، من أجل هذا - يا عباد الله – صدق المثل القائل: كلَّ من رأيت فالخضر اعتقد.


 إذا رأيت إنساناً متطوحاً في بعض المعاصي، متلبساً ببعض ما هو سيءٌ أو مرذول من الأخلاق فإياك أن تحكم عليه وعلى مصيره من خلال هذا الذي تراه بل قل في سرك واستيقن في ضميرك بأن هذا الإنسان ربما آلى إلى الله ولياً من أوليائه وربما كان هو الخضر ذاته.


 إذا رأيت في الناس من لم يتسم بالعصمة واستطعت أن تحصي له بعض الهنات والانحرافات فَأَشِحْ بوجهك عن انحرافاته وابحث في كيانه عن فضائله ستجد فيه من الفضائل من أنت بحاجة ماسة إليه ومن ثم حَسِّن الظن به واعتقد أنه ربما كان هو الخضر. إن لم يكن هو الخضر اليوم فلربما آل به الأمر إلى أن يصبح في مستوى الخضر غداً، وإنكم لتعلمون كما أعلم أن كثيرين هم الذين عاشوا ردحاً طويلاً من حياتهم منحرفين، تائهين، عاكفين على ألوانٍ من الغي ثم إن الله انتشلهم بالاجتباء فآلوا إلى الله سبحانه وتعالى وهم من أوليائه المحبوبين.


 كلنا يعلم أن في الناس من يصدق عليهم هذا الأمر. أفأنت موقن أن هؤلاء الذين تراهم من التائهين والمنحرفين لن ينتشلهم الله عز وجل بشفاعة خُلُقٍ حميد يتمتعون به؟ بشفاعة استقامة على بعض المزايا التي وزَّعها الله عز وجل رحمةً ولطفاً بين عباده؟ أفموقن أنت أن هؤلاء الذين تنتقصهم لن يؤولوا إلى الله سبحانه وتعالى إلا بخاتمة حسنة.


 ماذا كان فضيل بن عياض في شبابه؟ ماذا كان بشرٌ الحافي في شبابه؟ كم وكم من الصالحين الذين نعيش اليوم على مناقبهم كانوا في أوائل أيامهم من التائهين، مالك بن دينار ذلك الذي كان شُرَطيَّاً في الأسواق، كيف كان وإلامَ صار أمره.


 كما أقول لك هذا ناصحاً أقول لنفسي ولك: لا تكن أميناً من مكر الله عز وجل لاسيما إن تباهيت باستقامتك وبما متعك الله عز وجل ببعض المنح، أموقن أنت أن سبباً من أسباب السخط لم تتلبث به ومن ثم فإن الله عز وجل قد يحكم عليك بالشقاء بعد أن سرتَ أشواطاً في طريق السعادة )فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[ [الأعراف: 99] والكافرون أيضاً، هذا – أيها الإخوة - بعضٌ يسير مما يدل عليه قول الله سبحانه وتعالى: )وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ[.


 إنني عندما أنظر إلى التائهين من عباد الله أكاد أن أُسَلِّمَ على الواحد منهم وأن أقول له أدْع الله لي في سِرِّكَ. في سرِّك أجل لعله في سرِّه يجأر إلى الله بالشكوى ولعله في سرِّه يتضاءل ثم يتضاءل ولعل البكاء يذيب حشاشته للسوء الذي قد تلبس به، ولعل الله عز وجل يشفع له يوم القيامة بهذا الذي أقوله لك.


 أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا تجاه أخطائنا من التوابين وأن يجعلنا تجاه ما متعَنَا به من صالح الأعمال من الشاكرين. اقْبَلِ اللهم منا ذلك. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي