مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 02/10/2009

وعد ووعيد

‏الجمعة‏، 13‏ شوال‏، 1430 الموافق ‏02‏/10‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


يا ابن آدم إذا أردت أن تشهد صفات الرحمة والمغفرة والصفح والجود الآتية من الله عز وجل إليك، والتي تنسيك بطشه وعقابه، فانظر إلى ما يصل إليك من عند الله سبحانه وتعالى من سابغ نعمه وآلائه، وإذا أردت أن تشهد وعيده وبطشه وانتقامه وعذابه، فتأمل فيما يصل إلى الله سبحانه وتعالى منك.


تعالوا نتأمل في النعم التي تصلنا من عند الله سبحانه وتعالى. إن الإنسان -أياً كان- يسبح في يمٍّ متلاطمٍ لا شطآن له ولا قرار من نعم الله الكثيرة والوفيرة التي لا تُحْصَى، إن نظرت إلى العالم العلوي رأيت أنه عالم سخره الله بقضه وقضيضه لراحتك وحياتك أنت يا ابن آدم، الأفلاك تتحرك فيه لخدمتك، الشمس والقمر دائبان فيه من أجل توفير أسباب رغد العيش لحياتك، من أجل تقسيم الزمن الذي تتقلب فيه إلى سنوات فشهور فأيام وليالي فساعات.


وإن تأملت في الأرض التي تحتضنك رأيت أن الله سبحانه وتعالى قد جعلها مخزناً للكثير والوفير والمتنوع من رزقك واحتياجاتك المتنوعة، تأملت في ظاهر الأرض رأيتها تتفجر بأمر من الله عز وجل بأنواع شتى من النباتات، فيها من الألوان ما يُمَتِّعُ ناظريك، وفيها من الروائح العبقة ما يُمَتِّعُ أنفك، وفيها من الطعوم المتنوعة المختلفة ما يلتذ أكلك له، وفيها الرزق الوفير الذي وفَّرَهُ الله عز وجل لأنعامك.   


وإن تأملت في الرياح الهابة من حولك فيما بين السماء والأرض وجدت مزيداً من النعم التي لا تُحْصَى، تنظر فتجد هذا الغلاف الجوي الذي أقامه الله عز وجل خادماً لحياتك، ساهراً على استمرار هذه الحياة، يدرأ عنك الشهب والنيازك والأجرام الملتهبة المختلفة، تتأمل في الرياح الهابة من حولك كل ذلك مسخر لك، تنقل السحب من هنا إلى هناك.   


وهكذا تعود فتنظر إلى كيانك من فرقك إلى قدمك فماذا تجد؟ تجد جهازاً معقّداً عجيباً من أجزاء كثيرة متراكبة متآلفة كل جزء منها يسهر على رعايتك، كل جزء منها عاكف على خدمتك.  


هذا ما تراه عندما تتأمل فيما يصل إليك من عند الله عز وجل، حقاً إن الإنسان عندما يتأمل في هذا الذي يصل إليه من عند الله عز وجل ينسى أنه ذو عقاب أيضاً، ينسى بطشه، ينسى انتقامه، ينسى وعيده، كل ذلك يُطْوَى من ذهنه بل من ناظريه أمام هذا اليَمِّ المتلاطم من نعم الله التي لا تُحْصَى، وحسبكم من ذلك قوله عز وجل: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [ابراهيم: 34]، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾  [الاسراء: 70].    


وأما إذا نظرت يا ابن آدم إلى ما يرقى إلى الله منك فماذا تجد؟ تجد ما ينسيك رحمة الله عز وجل وفضله ونعمه، تجد ما يضعك وجهاً لوجه أمام وعيد الله وبطشه.   


أسجَدَ الله سبحانه وتعالى لك يا ابن آدم ملائكته، وطرد في سبيلك الشيطان الذي استكبر عليك، طرده من جنانه ورحمته، ثم أوصاك هذا الإله الذي أكرمك هذا الإكرام بأن تصغي إلى تعاليمه، وأن تحقق ما به سعادتك، وحذّرك من وساوس عدوك هذا الذي طرده الله عز وجل من أجلك من جنته، فماذا فعلت؟ وضعْتَ وصايا الله عز وجل وراءك ظهرياً، واتبعْتَ وساوس عدوك، اتبعْتَ وساوس هذا الشيطان واتخذته ولياً لك من دون الله.   


تأمل يا أيها الإنسان في هذا العتاب الرقيق من الله ألا يدعوك إلى الخجل الذي يذيب إنسانيتك؟ ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾  [الكهف: 50]، ألا يخجلك هذا.   


عندما تتأمل في العدو الذي حذّرك الله عز وجل من الخضوع له، هو عدوه وعدوك، هذا الذي تراه في صورة إنسان، وهو في داخله وكيانه الداخلي وحشٌ مستكبر على الله عز وجل، وأنا لا أقصد هنا شياطين الجن، وإنما أقصد الكثرة الكاثرة من شياطين الإنس، حذّرك الله سبحانه وتعالى من كثيرٍ من الطائفة التي ملأ بيانه الرباني من الحديث عنها، ومن بيان خيانتها، ومن بيان سوئها، وكم وكم حدّثك عن النعم التي أغدقها الله عز وجل عليها، ثم إنها استكبرت على الله وسكرت بنعمه، إنها تلك الفئة التي قال عنها: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾  [المائدة: 78]. 


أجل حذرك الله عز وجل من أن تتخذ من عدوك وعدوه ولياً، وأمرك بأن تكون ساهراً على حقوقك، وعلى حقوق الله عز وجل في عنقك، وعلى الأوطان التي متعك بها، وعلى المقدسات التي أقامك الله عز وجل حارساً عليها، فماذا صنعت؟ أعرضت عن هذا الذي وصاك الله عز وجل به، وتخاذلت أمام عدوك وعدوه، يقول لك في بيانه الذي يلاحقك به: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [التوبة: 38]، ويقول لك: ﴿إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التوبة: 39].


فماذا صنعنا؟ أعرضنا عن هذا البيان، أعرضنا عن هذه الوصايا، ثم أعرضنا عن هذا التحذير، وبدلاً من أن نلبي أمر الله فنكون صفاً واحداً ننتصر لدين الله سبحانه وتعالى كما أمر، ونقف في وجه هذا العدو كما أوصى، بدلاً من أن نفعل ذلك لجأنا إلى التخاذل، لجأنا إلى التخاصم، لجأنا إلى التفرق، واستشرى العدو وفعل كل ما قد طاب له، وها هو ذا يقتحم بيت المقدس كما تعلمون، وها هو يُقَتِّل من شاء أن يُقَتِّلَهُم، وها هي ذي وعيده بل غطرسته التي يواجه العالم الإسلامي أجمع بها لا تتناهى قط.


ما موقف المسلمين الذين شرفهم الله بنعمه التي حدثتكم عنها؟ الذين شرّفهم الله سبحانه وتعالى ببيانه الذي يخاطبهم به: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد: 7]، ﴿إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ [التوبة: 40] ولكن الله عز وجل شرَّفَنَا بهذه المهمة، وهو ليس بحاجة إلينا، شرَّفَنَا بأن نكون حراساً للقيم، حراساً للمقدسات، حراساً لحقوقنا، لأوطاننا، فماذا صنعنا؟ أعرضنا عن هذا الذي أوصانا الله عز وجل به، وكما اتخذنا من الشيطان الجني ولياً لنا من دون الله اتخذنا من هذا العدو ولياً لنا من دون الله عز وجل، أجل ولو لم نكن قد أعلنا ذلك، لا أدلَّ على ذلك من التخاذل، من التخاصم، لا أدل على ذلك من هذا الذي تعرفون مما يضيق الوقت عن ذكره والخوض في تفصيله.   


حذّرَنَا البيان الإلهي من أن نركن إلى الدنيا وقال لنا: ﴿إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ﴾  [غافر: 39]، وقال لنا: ﴿وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [لقمان: 33]، ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ﴾  [الحديد: 20]، إلى آخر الآية، ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ﴾ [الكهف: 45]، وأنبأنا أن المقر هناك، يا بني آدم لا تتخذوا من الممر مقراً، ولا تضعوا المقر وراءكم ظهيراً، أنتم راحلون من هذه الحياة الدنيا، فماذا صنعنا؟ عانقْنَا زهرة الحياة الدنيا على خلاف ما أمر، جعلنا من الدنيا سكراً، اعتصرنا الدنيا بكل ما تعرفون من مزاياها سَكَراً لنا حَجَبَنَا عن وصايا الله، حَجَبَنَا عن الشرف الذي متَّعَنَا الله سبحانه وتعالى به.   


هذا ما يَفِدُ إلى الله منا، فما الذي يُذَكِّركم هذا الذي أقول؟ إنه لا يُذَكِّرُنَا إلا ببطشه، لا يذكرنا إلا بعقابه، لا يذكرنا إلا بوعيده.   


يا عباد الله، ألا لا يقولن واحد فيكم: أما أنا فلم أتخذ من الشيطان ولياً، لقد نَفَّذْتُ أوامر الله كلها، وأديت حقوق الله في عنقي.. حتى الرسل والأنبياء ما قالوا هذا الكلام، ما ادعوا هذه الدعوى العريضة قط، وصدق الله القائل: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً﴾ [فاطر: 45]، أنت أديت حقوق الله؟! أديت حقوق عينيك؟! أديت حقوق هذه الحياة التي تتمتع بها؟! أديت حقوق أنفاسك الصاعدة والهابطة؟! من هذا الذي يستطيع أن يقول: إنني لم أقصر في جنب الله سبحانه وتعالى؟! لا الرسل ولا الأنبياء ولا الربانيون من عباد الله سبحانه وتعالى قالوا هذا الكلام.   


والآن ما الموقف الذي يجب أن يتخذه الإنسان المؤمن بالله عز وجل؟ هل ينبغي أن يركن إلى الصورة التي تذكّرنا بفضل الله ورحمته؟ هل ينبغي أن نركن إلى ما يصلنا من عند الله؟ أم ينبغي أن نركن إلى ما يرتقي إلى الله من عندنا.   


أما الباري سبحانه وتعالى فقد ربانا على أن نمزج هاتين الحالتين الواحدة منهما بالأخرى، وأن نكون بين الرجاء والخوف وصدق الله القائل: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً﴾ [الانبياء: 90] أجل هكذا يقول الله عز وجل: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [السجدة: 16]، فلنكن على هذا المنوال، تشدنا الآمال برحمة الله آناً، وتخيفنا مظاهر وعيد الله وبطشه بسبب سوء فعالنا آناً آخر.   


هكذا ينبغي أن يكون الإنسان ما دام يتمتع بالحياة الرغيدة والقوة والقدرة على الحركة وتنفيذ أوامر الله، فإذا غاضت من كيان الإنسان قواه، وإذا انقضى عهد القوة والنشاط من كيانه، ووجد نفسه متمدداً على فراش الموت، وشم رائحة الموت تزكم أنفه، فلينسَ الخوف والبطش، فلينسَ الوعيد، وليتذكر وعد الله، وليتذكر رحمة الله سبحانه وتعالىن وليقل إن بلسان قوله أو بلسان حاله: ها أنا أفد إليك يا ربي ضعيفاً كما قد ولدت ضعيفاً، ها أنا أفد إليك لا أملك حولاً ولا قوة، لا أملك طاقة، هكذا خلقتني وهكذا أفد إليك فارحمني بضعفي، لا تؤاخذني بسوء فعالي. هكذا ينبغي أن يكون مآل الإنسان.   


ولكني أعود فأقول لكم: هذا الواجب الذي يأمرنا الله عز وجل به؛ ردع العدو الذي نَهَبَ الأرض، وسيطر على الحقوق، واغتصب الوطن، وها هو ذا يتوعد المؤمنين والمسلمين في العالم كله بأن يستلب منهم بيت المقدس الذي شرفه الله بمعجزة المعراج والإسراء اللتين أكرم بهما الله رسوله محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم.   


فيا عباد الله اتفقوا، يا عباد الله كفاكم تخاذلاً، يا عباد الله أجمعوا أمركم ثم ائتوا صفاً، ونفذوا أمر الله سبحانه وتعالى الذي شرفكم به، إن لم تفعلوا ذلك فلتعلموا أنكم أمام وعيد الله الذي سينفذ في الدنيا قبل الآخرة ﴿إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾  [التوبة: 39].


أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي